منذ أن وعينا على هذه الدنيا ونحن نسمع بالجريمة المنظمة، لكنها كانت تربط دائماً في أذهاننا بالصورة النمطية التي زرعت في تفكيرنا، عن مجرمين منظمين بهيكليات هرمية يعملون خارج إطار القانون، يسرقون وينهبون ويُهربون ويخربون، ليس لديهم رادع أخلاقي أو خوف من سلطة الدولة فلا شيء يقف في وجههم في سبيل تحقيق الثروة والسلطة. ربما كرست قصص وأفلام من أمثال العراب تلك الصورةَ النمطية خصوصاً عن المافيا الإيطالية التي كانت نشطة في الولايات المتحدة الأمريكية في بدايات ومنتصف القرن العشرين، ثم جاء زمن التسعينات وظهور الأوليغارشيون الروس الذين نهبوا ثروات الاتحاد السوفيتي بعد سقوطه ليعطي نكهة جديدة لهذا النوع من الجريمة المنظمة، بعدها تتالت الأخبار مع الانفتاح الثقافي والعولمة لنسمع عن كارتل المخدرات في أمريكا الجنوبية و عصابة الياكوزا في اليابان، مما زاد في النهاية من التشويق المنضبط بانتصار الخير على الشر أو ترويج التزاوج المستهجن في حال اتفقت مصالحُ الجريمة المنظمة مع حماة القانون، وكل هذا أعطى الأفلام الهوليودية متعة اجتذبت عدداً كبيراً من سكان الكوكب!
لكن السؤال المحير : هل السياسة هي نوع خفي من الجريمة المنظمة؟ بحسب الصورة النمطية التي زرعت في عقولنا، السياسة لها جانب من هذا ولكن مستترٌ بغطاء أمني استخباراتي، وصراع بين قوى مختلفة داخل هرميات السلطة، لكن لم تفصحِ الصورة النمطية تلك عن كون الدول التي ترفع شعارات الليبرالية والديمقراطية وحقوق الإنسان غارقة من أسفل هرمياتها إلى أعلاها بالجريمة المنظمة. في بحث أجرته الاقتصادية الشهيرة أوتسا باتنايك Utsa Patnaik -ونشرته في 2018 جامعة كولومبيا الأمريكية – بالاعتماد على ما يقرب من قرنين من البيانات التفصيلية عن الضرائب والتجارة بين الهند وبريطانيا، توصلت أوتسا بالدليل أن بريطانيا استنزفت من الهند خلال الفترة من 1765 إلى 1938 ما يقرب من 45 تريليون دولار أي ما يزيد 17 مرة عن إجمالي الناتج المحلي السنوي للمملكة المتحدة اليوم. لقد حول البريطانيون خلال 200 عام الهند من دولة تشكل 23 بالمئة من اقتصاد العالم – وتعد من أغنى عشر دول في العالم عندما سيطروا عليها إلى دولة غير عاملة ومعدومة الثروات بحلول الوقت الذي غادروا فيه عام 1947، حيث هوت حصة الهند في الاقتصاد العالمي إلى 3 بالمئة فقط وأصبحت من أفقر دول العالم كما أشار إلى ذلك الكاتب الهنديّ شاشي ثارور Shashi Tharoor في كتابه “الإمبراطورية الشائنة: ما فعل البريطانيون بالهند- Inglorious Empire: What the British Did to India” الذي صدر عام 2017.
أما فرنسا العظمى، فأشهر قادتها شارل ديغول وأحد أخبث مستشاريه جاك فوكار، أسسوا لجريمة منظمة تشمل 14 دولة في وسط وغرب أفريقيا، اسمها الفرنك الأفريقي الذي يجبر تلك الدول على رهن 50% من احتياطاتهم النقدية القادمة من تصدير المواد الخام لدى البنك المركزي الفرنسي في سبيل إصدار تلك العملة، كذلك خدعة دفع 40% من الدخل القومي لتلك الدول كتعويض عن البنية التحتية التي أسستها لهم فرنسا أيام الانتداب. أما احتياطي الذهب الذي تحتل فرنسا رابع أكبر مخزون له عالمياً بما يقدر 2436 طن، في معظمه يأتي من تلك الدول وعلى رأسها دولة مالي التي تنتج 70 طن سنوياً ولا تملك غرام ذهب واحد. طبعاً 50 انقلاباً عسكرياً وشبكة كبيرة من الاستخبارات الفرنسية، ونوادي الماسونية والكنائس والبعثات التبشيرية، كلها كانت عاملاً مثبتاً لتلك الجريمة المنظمة التي تخفي وجهها القبيح بالمساعدات الإنسانية وقوانين اللجوء والهجرة والتبادل الثقافي والمنحات الدراسية!
سمعنا سابقاً عن إشاعة تفيد أن الـ CIA تدير شبكات توزيع المخدرات عبر العالم من كولومبيا غرباً إلى أفغانستان شرقاً، وسمعنا عن شبكات زراعة الحشيش التي تدار في سراديب السياسة التي تجول العالم، وسمعنا عن خط صناعة وتوزيع الكبتاغون الذي يبدأ من يوغسلافيا شمالاً وينتهي في السعودية مروراً بدول العبور التي تحولت لاحقاً لدول تصنيع وتوزيع .
لكن السؤال متى بدأت الدول بالجريمة المنظمة وخدعتنا بتلبيس هذا الرداء للمافيا الإيطالية والروسية و الألبانية! يمكن أن نجيب ببساطة أن تلك الجريمة المنظمة بدأت مع كولومبوس وماجلان وجون كابوت John Cabot أي في نهايات القرن الرابع عشر وبدايات القرن الخامس عشر ، لكن يبدو أن الأمر أقدم من ذلك بكثير ويبدأ كما تحدث ابن خلدون عندما لا يمتنع السلطان عن التجارة والفلاحة وتكويم الثروة، وعن منافسة العاملين بها في أنشطتهم وحركتهم وهذا هو الأساس! فرحلات كولومبوس وكوك وماجلان وقبلها الصراعات على كرسي الحكم في تاريخنا الإسلامي وحاضرنا وتاريخ كثير من الشعوب كان بغرض مراكمة الثروة لدى السلطان والرئيس وزبانيتهم وتوريثها لأبنائهم، ولم يكن دخل الدولة يوماً يأتي فقط من الجباية على الأعمال من نشاطات تجارية وزراعة كما كان يطالب ابن خلدون.
إذن نحن شعوب تعيش على وفي الجريمة المنظمة منذ فجر التاريخ ولم تكن رسالة الإسلام إلا لمقاومة تلك الجريمة واستئصالها من جذورها، لكنها لم تنجح إلا في لمحات بسيطة من التاريخ! إذن عندما تجتمع الدول الاقتصادية العظمى ويبتلع قادتها -عن طريق الخطأ- حبوب الحقيقة، فسوف يقول بعضهم لبعض -كما هو عنوان المسلسل المصري -يا عزيزي كلنا لصوص!