الذاكرة وثورة الكرامة السورية

حسان الأسود

لطالما أرّق النسيانُ البشريةَ، فكانت كتابةُ التاريخ محاولة متأخرة لحفظ الذاكرة الجمعية من الاندثار. سبقت ذلك أشكالٌ كثيرة أخذت طابعًا فنيًا كالرسم على جدران الكهوف والحفر على الصخور، وتشيرُ أحدث المكتشفاتِ في هذا الخصوص إلى أنّ الكتابة أتت لاحقًا بعد زمنٍ طويلٍ جدًا، فكانت فنون الرسم والنحت والعمارة بعض أقدم الوسائل التي خلّد بموجبها البشرُ أحداث حياتهم وحياة أسلافهم. ومع اختراع الطباعة، تطوّرت أدوات حفظ التراث الحضاري للإنسان، وأصبح ما أنتجه البشر من فكرٍ عبر تاريخهم أكثر انتشارًا وتداولًا. لكنّ الثورة الرقمية وثورة وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الذكاء الاصطناعي الراهنة غيّرت النمط كليًّا، فبعد أن كان الأصل هو اختفاء الأحداث والوقائع والمعلومات من الذاكرة البشرية، والاستثناء هو حفظها، صار الأمرُ الآن هو على عكس ما سلف تمامًا.
ساهم هذا التطوّر التقني الهائل والمتسارع في الأدوات المستخدمة بشريًا، وخاصّة ما تمّ خلال العقد الأول من الألفية الثالثة، في إيجادِ مخازن هائلة للذاكرة البشرية لا تقبع في أدمغتنا، بل هناك في مخدّمات (سيرفرات) الإنترنت التي نشعر بها لكننا لا نراها. وفّرت محرّكات البحث المختلفة، وأشهرها “غوغل”، إمكانيّة استدعاء الذاكرة بلحظات، وهذا ما يجعل منها حاضرة تحت الطلب الفردي، وفاعلة في تشكيل حياة الأفراد والجماعات. هنا تتعدّد أوجه المشاركة والتفاعل البشري باعتبارها بعضًا من معاني الحياة، ولا يمكن فهم طبيعة استدعاء الذاكرة إلّا ضمن ظروف السياق العام الذي تنشأ ضمنه. حصل هذا وسيحصل على الدوام بشكلٍ مكثّفٍ عند الاهتزازات الاجتماعية الكبرى، كالثورات والحروب الأهلية والحروب بين الدول، وعادة ما يكون الناس وحياتهم وأرواحهم وفكرهم وقودًا لهذه الاضطرابات. استدعت جماعات كثيرة في سورية على سبيل المثال روايات التاريخ المتنازعة منذ فجر الإسلام، وكان الشحنُ العقائدي هدفًا لهذا الرجوع في التاريخ، وأصبح الرجوع ذاته محرّكًا وسببًا لترطيب الذاكرة بعناصر جديدة تُضاف للموروثات السابقة.
قبل ثورة العام 2011، كنّا، نحن السوريين على وجه التخصيص، نمرّ في حياتنا على أحداث القمع الدموي في ثمانينيات القرن الماضي، أو ما عُرف بمذابح النظام ضدّ تنظيم الإخوان المسلمين وما جرّه على مدينة حماة وبعض أحياء حلب وأهلهما من أهوال مرعبة، وكنّا نرجع قليلًا إلى ما قبلها من هزّات كالنكسة والنكبة، ونبحرُ مع ما وقر في الضمائر من عذابات أسلافنا القريبين أيام السفر برلك أو قبلها بأحداث الحرب الطائفية في بيروت ودمشق وحلب أواسط القرن التاسع عشر. كلُّ فردٍ منّا له روايته عن هذه الأحداث، وفهمه الخاصّ لها ولأسبابها وخلفياتها، وكلُّ جماعة منا كان لها أيضًا شيء ما مشترك أو زاوية نظرٍ معينة تحدد الحقيقة وتصفها كما تراها هي لا كما حصلت فعلًا. والآن، نعيشُ جميعًا حالة الاستقطاب الحادّة بين الأفراد والجماعات لوصف الزلزال الذي أحدثته ثورة الكرامة في بنية السلطة الحاكمة والدولة السورية والمجتمع السوري.
تنبشُ كل جماعة منّا في مناجم التاريخ بحثًا عما يؤيّدُ رؤيتها، وتخلق كلّ جماعة منّا مظلوميتها الخاصّة، تستند بعضُ هذه الرؤى والمظلوميات إلى أجزاء مقتطعةٍ من الحقائق والأكاذيب، تبني سردياتٍ مختلفةٍ ومتناقضة أحيانًا، بعضها صحيحٌ جزئيًا وأغلبها مجرّدُ أوهامٍ مُصطنعةٍ ومركّبةٍ ومُختلقة. يخلق هذا حقولًا في المجتمع الواحد، مفصولةً عن بعضها بأسوار عالية من الإنكارِ والإقصاء والافتراء والتخوين، يُصبحُ الواحدُ منّا متعددًا، وتصبحُ الجماعةُ منّا كتلةً صلبة نحو الخارج مفتتةً نحو الداخل. هكذا بات العيش بين جماعات السوريين عمومًا وأفرادهم بشكل أو بآخر، كالصخور المتدحرجة من شاهقٍ لا يجمع بينها سوى الهدير والتحطيم الذاتي والمتبادل بغير غاية أو هدف.
والسؤال الآن: كيف نخرج من ذاكرة جماعاتنا المختلفة ورواياتها وسردياتها هذه وندخل في رواية وسردية وذاكرةٍ وطنيّة واحدة، وهل هذا ممكنٌ فعلًا، وهل يشترطُ، إن أمكن حدوثه، الاستغناء عمّا سبق ونتج عنه من تعدد، أم أنّه سيبقى بحكم الضرورة والواقع لكنّه سيعاد ترتيبه وقراءته ضمن أولويات واعتبارات تأخذ السياق الذي جرت فيه بالحسبان؟
الحقيقة التي يمكن استنتاجها بسهولة من عِبَر التاريخ ذاته، أنّه ما لم تكن هناك سلطة وطنية سورية قائمة على أسس من الديمقراطية والتشاركية واحترام كرامة الإنسان وحقوقه، جديدة ومعاصرة بكل المقاييس، لا يمكن لهذا المسار أن يبدأ. لقد كانت الدولة السورية ذاتها جزءًا محرّضًا وفاعلًا في تكريس السرديات والحكايات الجماعاتيّة المتباينة، الدولة باعتبارها جزءًا من نظام الحكم، تابعًا له ومسيطرًا عليها بكل مؤسساتها، لم تكن كما يُفترض لها أن تكون على الحياد تجاه كل مكونات الشعب القومية والدينية والطائفية والمذهبية، بل انحازت لقومية دون باقي القوميات، وهذا ما عزّز ذاكرة قومية مشوبة بالشوفينية والعنصرية من جهة، وبذاكرة مضادّة مليئة بعناصر المظلومية والاضطهاد والإقصاء، وللمفارقة يحاول بعض أعضائها استعادة ذات السلوك الذي يتظلّمون منه عند الآخرين. كذلك فعلت الدولة تجاه الأديان، فدينٌ واحدٌ كان له المرتبة الأولى في الاعتبار وتكرّس ذلك دستوريًا، ما ولّد استعلاءً عند أتباعه لا يشعرون به بحكم أكثريّتهم العددية الساحقة، بينما ولّد بدوره رواية أخرى مختلفة عند أتباع بقيّة الأديان، وهذه الرواية وجدت لها جذورًا ممتدّة وضاربة في التاريخ. يسترجع الطرف الأول العهدة العمريّة للدفاع عن فضله، بينما يستذكر الطرف الثاني شروط الاستسلام التي فرضها خالد بن الوليد. هكذا يعيش التاريخ في ذاكراتنا، ولا يمّحي أبدًا، بل يتجدد عند كل منعطف زلق مهددًا أسس العيش في بلدٍ متنوّع متعدد مثل سورية.
الشيء نفسه فعلته الدولة/ السلطة الحاكمة/ النظام مع الطوائف، منعت الحديث عن الطائفية وجرّمته، بينما مارست الفعل الطائفي الممنهج عبر عقودٍ خمسة منذ انقلاب حافظ الأسد عام 1970 على الأقل. وفي حين كانت بوادر التمييز والإقصاء حزبية عقائدية مع انقلاب البعث عام 1963، باتت مع الحقبة الأسديّة مرتكزة على علونة الدولة والنظام والسلطة لمواجهة المجتمع عامّة بعد أن ساهمت هي ذاتها بإضفاء الطابع السنّي عليه. لقد كانت سياسة النظام / الدولة / السلطة واضحة في مسار بناء ذاكرات جماعاتيّة جاهزة للانفجار في اللحظة التي يفكّر فيها الناس ببناء وطن لهم جميعًا. وجدت القوميات والأديان والطوائف أنفسها في حرب مباشرة، أُريد لها أن تكون حرب وجود، فانكفأت كلّ جماعة على سرديتها وعادت لتستحضر التاريخ وتزجّه في الصراع.
لن تقوم للسوريين قائمة ما دامت الدولة ذاتها مسلوبة من النظام المافيوي القابض على السلطة، ولن تبدأ عمليات بناء الذاكرة الوطنية السورية إلا بزوال هذه السلطة الطاغية، ولن تتنقّى ذاكرات السوريين الجماعاتية من شوائب الأحقاد والضغائن ما لم تقم الدولة ذاتها بالدور المطلوب منها تجاه هذا البناء. وإلى حين توفر شروط ذلك، ستبقى ذاكرتنا السوريّة ممزّقة بين ذاكرات جماعية متصارعة متباينة من جهة، وأخرى فرديّة طاووسية من جهة ثانية، ولن تبدأ خطوات بنائها القويمة إلّا مع استعادة الإنسان السوري كرامته التي بدأ البحث عنها في العام 2011، ولا يزال.
المصدر: العربي الجديد

زر الذهاب إلى الأعلى