نسمع كثيراً أن المجتمع الدولي قد أهمل الموضوع السوري، وانشغل بموضوعاتٍ أخرى أهم، خصوصا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا والمواجهة المقنّعة بين الغرب وروسيا؛ وتصاعد التوتّر بين الصين والولايات المتحدة بفعل جملة ملفّات منها مستقبل تايوان، والاحتمالات والتحالفات في منطقة شرق آسيا، ورغبة الصين في الامتداد نحو منطقة الشرق الأوسط عبر البوابتين الإيرانية والسعودية الخليجية. هذا إلى جانب طبيعة العلاقة المعقّدة بين الصين وروسيا، وهي العلاقة التي تمنح الصين من جهة ضماناتٍ عسكرية تعزّز مواقفها في المباحثات مع الأميركان والقوى الغربية عموما، ولكن الصين، من جهة ثانية، تدرك أن مصالحها الاقتصادية الكبرى هي مع الغرب وليس مع الروس. لذلك تحاول قدر الإمكان السيطرة على انفعالاتها، وإمساك العصا من الوسط كما يقال، وهي مستعدة باستمرار للتوصل، ضمن حدود الممكن، إلى تفاهماتٍ مع الأميركان والأوروبيين والغرب بصورة عامة.
ولكننا حينما ندقّق في الواقع الميداني، والتحرّكات السياسية والاصطفافات الإقليمية والدولية، سندرك أن الموضوع السوري هو على غاية الأهمية بالنسبة إلى القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الملف السوري. ويُشار هنا، بصورة خاصة، إلى الأميركان مع حلفائهم الأوروبيين، كما يُشار إلى الروس والأتراك والإيرانيين وإسرائيل. هذا بينما العرب هم من الغائبين عن الميدان، وذلك بصورةٍ لا تتناغم مع حضورهم الدبلوماسي، وإمكاناتهم الاقتصادية ومصالحهم الاستراتيجية. وهذا فحواه أن سورية على عكس ما يُروج ويُقال تأتي في مقدّمة قائمة اهتمامات القوى الإقليمية والدولية المهيمنة على سورية عبر مناطق النفوذ ومن خلال الشركاء المحليين والوافدين المقحمين المتمثلين في الفصائل والمليشيات المسلّحة، كما هو عليه الحال في الشمال السوري، سواء شرق الفرات حيث النفوذ الأميركي أو غربه، حيث الوجود التركي، وكذلك في مناطق الوجود الإيراني والروسي.
ويؤكّد هذا الاهتمام الدولي والإقليمي مجدّداً أن سورية هي مفتاح استقرار المنطقة وبوابة اضطرابها في الوقت ذاته، فهي تؤثر بصورة مباشرة في الأوضاع اللبنانية الداخلية؛ وكذلك تؤثر في العراق، والأردن، وحتى في فلسطين. وهي تمثّل بالنسبة إلى إسرائيل الساحة الأكثر خضوعا للمراقبة والتحكّم والمتابعة، رغم محافظة السلطة الأسدية على استمرارية التزاماتها معها منذ نحو نصف قرن. كما أن قرب سورية من أوروبا، وقدرتها على إزعاجها عبر قوافل المهاجرين، وإغراق أسواقها بالمخدّرات التي تزوّد خزينة السلطة بما يقارب 57 مليار دولار سنوياً وفق تقديرات المتابعين المختصين، كل ذلك يجعلها موضع الاهتمام الدائم من الأوروبيين.
هذا ناهيك عن أهمية سورية بالنسبة إلى تركيا التي تضع اعتباراتها الأمنية في مقدّمة الأولويات، سيما من جهة دور حزب العمال الكردستاني عبر كوادره، وتحت يافطة واجهاته السورية في منطقة شرق الفرات. وليس سرّاً أن سورية تعد الجوهرة الأهم بالنسبة إلى النظام الإيراني في عقد “المقاومة والممانعة”، وبشّار الأسد نفسه يعتبر الضمانة الأهم بالنسبة للنظام المذكور لبقاء سورية ضمن مشروع “المقاومة والممانعة” المزعوم.
وفي الحسابات الروسية، ستظلّ سورية البوابة التي مكّنتها من تقديم نفسها إلى العالم باعتبارها قوة عظمى تآمرت عليها القوى الغربية، وأبعدتها عن ميدان التأثير في السياسة الدولية نحو ربع قرن، وقد حانت الفرصة لتستعيد دورها، وتضع حدّاً للمنافسين، حتى لا تتكرّر عملية تهميشها وتحجيمها مرة أخرى. وبالنسبة إلى الأميركان، تظل سورية، لا سيما المنطقة الشرقية، ورقة ضاغطة وقاعدة الانطلاق للتأثير في الأوضاع العراقية، وإعادة ترتيب الأوراق مع تركيا.
ولعل التحرّشات الروسية مع مسيّرات التحالف الغربي وطائراته في منطقة شرق الفرات، وهو التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، إلى جانب إدخال الأميركان أسلحة نوعية جديدة إلى قواعدها في المنطقة المذكورة، في تنف بصورة خاصة؛ والحديث الروسي، وحتى الإيراني، عن ضرورة خروج القوات الأميركية، وسائر القوات الأجنبية التي دخلت إلى سورية من دون موافقة رئيس سلطتها؛ وحتى الحديث الإيراني عن إمكانية، أو ضرورة تنظيم المقاومة لدفع الأميركان نحو الخروج… لعلّ كل هذه المؤشّرات، وغيرها، تؤكد أهمية سورية في استرتيجية الدول المعنية؛ ولكن الموضوع السوري بات مجمّداً بعد أن حصل كل طرف على موقع على الأرض السورية ليضمن مصالحه في أي ترتيبٍ جديد للأوضاع هناك مستقبلاً.
ضمن هذا السياق، جاءت المبادرة الأردنية التي عرفت سابقاً بـ “اللاورقة”، لتؤكّد رغبة أردنية في كسر الجمود المهيمن اليوم على الملف السوري. ويبدو أن عمّان قد أدخلت تعديلات على مبادرتها، بعد إعادة السلطة الأسدية إلى جامعة الدول العربية، بناء على اجتهادات ومواقف غالبية الدول العربية. والمبادرة تعتمد، من الناحية النظرية، فكرة المبعوث الأممي الخاص بالملف السوري، غير بيدرسون، وتسترشد بقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015 مرجعية عامة، ولكن هناك تفاصيل وخطوات إضافية، يقول أصحاب المبادرة إنها اُدخلت بناء على المتغيرات الميدانية، والتحوّلات التي شهدتها المواقف الدولية والإقليمية والعربية منها على وجه التخصيص.
وفي أجواء غياب مبادرة عربية متكاملة، مدعومة بمواقف دولية وإقليمية وازنة، كان اللوذ بالمبادرة الأردنية لتكون تسويغاً لإعادة سلطة بشّار الأسد إلى جامعة الدول العربية، واعتماد مصطلح الحكومة السورية عوضاً عن النظام السوري، وذلك مقدمة تمهيدية لتسويق السلطة المعنية، إن أمكن، في المجال الدولي، ورفع العقوبات عنها، رغم التحفّظات الأميركية والأوروبية المعلنة في موضوع التطبيع مع سلطة آل الأسد، وإعادة الإعمار، قبل التأكّد من الشروع في عملية سياسية واقعية تقوم على أساس معالجة الأسباب الحقيقية للأزمة، واحترام تضحيات السوريين وتطلعاتهم؛ وذلك بناء على ما قيل من حصول العاهل الأردني على ضوء أصفر على الأقل من الجانبين، الأميركي والروسي، بخصوص المبادرة التي يبدو أن الهواجس الأردنية الناجمة عن استمرارية القضية السورية، خصوصا بعد تجربة الأردن الطويلة المعقدة مع القضية الفلسطينية بجوانبها المختلفة هي التي كانت وراء بلورتها. فإلى جانب تهريب المخدّرات (الكبتاغون) والأسلحة إلى الداخل الأردني من الجانب السوري برعاية شبكات رسمية وشبه رسمية؛ هناك خشية أردنية حقيقية من وجود الحرس الثوري الإيراني والمليشيات الولائية التابعة له على الحدود الأردنية السورية. كما أن وجود أكثر من مليون لاجئ سوري في الأردن يمثل تحدّيا على مختلف المستويات، وليس على المستوى الاقتصادي وحده. هذا في حين أن حرمان الأردن من ميزات تجارة الترانزيت من سورية وإليها عبر أراضيه يُفْقِده مصدراً مهما من مصادر الدخل. هذه الأسباب، وربما غيرها، هي التي تقف وراء المبادرة الأردنية، وتفسّر مساعي الأردن الحثيثة مع مختلف الأطراف، من أجل تسويق المبادرة بغية كسب دعمها ومساندتها، فقد أجرى وزير الخارجة الأردني، أيمن الصفدي، لقاءين مع بشار الأسد في دمشق. كما أجرى ويجري اتصالات إقليمية ودولية لتسويق المبادرة. ولكن اللافت أنه لم تجر بعد اتصالات مع السوريين المناهضين لسلطة بشار، وأولئك الذين كانوا من ضحايا تلك السلطة. هذا رغم أن الأحرف الأولى في أبجدية السياسة الحيادية التي تأخذ على عاتقها مهمّة التوسط وفاعل الخير، تنصّ على ضرورة التواصل مع مختلف الأطراف السورية، لأن الأولويات السورية لا يمكن أن تناقش مع الدول الإقليمية أو الدول العربية نيابة عن السوريين، مهما كانت طبيعة العلاقة بين تلك الدول والسوريين المطالبين بالتغيير؛ فأهل مكّة أدرى بشعابها في نهاية المطاف، كما يقول المثل، وأهل سورية أكثر قدرة على تشخيص أسباب المشكلة، والتقدّم بمقترحات عملية لمعالجة الوضع. وبناء على ذلك، من المفيد إذا دعا الأردن، بالتنسيق مع اللجنة الوزارية العربية الخاصة بسورية، إلى اجتماع عام يضم السوريين الذين ما زالوا يحظون بثقة واحترام ملايين السوريين من ضحايا سلطة بشّار الأسد لمناقشة المقترحات الأردنية، والاستماع إلى وجهة السوريين من الضفة الأخرى؛ وذلك حتى يمتلك الحديث عن المساعي التي ستُبذل من أجل المصالحة الوطنية، المفروض أنها تشكّل لبّ المبادرة، المصداقية، وينال ثقة السوريين.
وما يسجّل على المبادرة أنها تعتمد على النيات الطيبة لكل من بشّار الأسد وإيران وروسيا، فمن المنتظر من الأول أن يُكشف عن مصير المفقودين، ويُطلق سراح المعتقلين، ويُسمح بوصول المساعدات إلى جميع السوريين وعبر مختلف الطرق، ويوافق على تعديل الدستور، ويقرّ بضرورة توسيع دائرة الحوكمة لتشمل سائر السوريين، وإجراء الانتخابات الحرّة؛ ويدخل ذلك كله في باب التمنيات، لأن بشّار لم يبد الرغبة في الإقدام على خطوة من هذه الخطوات، رغم أن وزير خارجيته، فيصل المقداد، ادّعى أنهم نفذوا عشرات الخطوات، ليسوّغ مطالبته بالمال الخليجي.
أما الحديث عن انسحاب إيراني وروسي كاملين من سورية لإحراج الأميركان وتركيا ودفعهما إلى الانسحاب؛ فهو يدخل في باب أحلام اليقظة في ضوء المعطيات والمعادلات الراهنة، خصوصا في ظروف الانقسام والانشغال العربيين، وفي غياب استراتيجية عربية متكاملة تتعامل بوعي ومسؤولية مع الأوضاع الإقليمية والتطورات الدولية في واحدةٍ من أخطر المراحل التي يمرّ بها عالمنا المعاصر منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945.
بقي أن نقول: الحل السياسي هو الحل الممكن الأفضل لمعالجة الوضع السوري. أما مشاريع الإرهاب بكل أشكالها، إلى جانب سائر المشاريع العابرة للحدود التي استعانت السلطة بأصحابها لإنقاذ نفسها، فقد ألحقت أفدح الخسائر بالسوريين التوّاقين إلى الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وكان ذلك لصالح السلطة الأسدية ورُعاتها. والحل السياسي الممكن والمقبول لن يكون من دون مصالحة وطنية حقيقية تتمحور حول وحدة سورية أرضا وشعبا وسيادة، مصالحة تقوم على أساس تبديد الهواجس بعقود مكتوبة؛ وتعزيز إجراءات الثقة بخطواتٍ عملية لا شعاراتية دعائية؛ والاتفاق على آلية لحل الخلافات وفقاً لمرجعيات واضحة، وبضماناتٍ مكتوبة دولية تشمل الدول العربية ودول الإقليم، سيما تلك الموجودة على الأرض السورية.
المصدر: العربي الجديد