سيذكر التاريخ لا محال أن عام 2015 من عمر الثورة السورية كان عاماً فاصلاً بالنسبة لإمكانية سقوط قصر الطاغية بشار الأسد بيد ثوار عام 2011، لولا تدخل القاتل بوتين منتهجاً سياسة الأرض المحروقة في سورية البطلة، حيث لم يترك بقعة أرض أو منشأة أو مسكن أو جسد بض لطفل برئ، أو رجل مسن أو امرأة عجوز إلا وفتك بها أو حرقها بأسلحته المتطورة دون شفقة أو رحمة.
وسيذكر التاريخ أيضاً أن هذه الوحشية البوتينية التي تجلت بالشكل الذي أتينا على ذكره، لم تكن هي الوحشية الاستثنائية في فضاء الثورة الذي بدأ السوريون نسج معالمه منذ عام 2011 ولازالوا، وإنما سبقها ورافقها وشاركها حتى اليوم أشكال أخرى من الوحشية والبربرية مارسها عديد من الأطراف تحت مسميات مختلفة بدءاً بعصابة الأسد العميل مروراً ببوتين وإيران واسرائيل والتحالف الدولي بزعامة أمريكا والطرف التركي في بعض مواضعه من مسالك الثورة ومحطاتها.
وانتهاء بالمواقف الدبلوماسية والسياسية والأموال الدولية والخليجية المفسدة والفاسدة التي مارست دوراً فاعلاً في عملية احتواء الثورة ومنع تقدمها وتطورها وفق المنظور الثوري الذي انتهجته لنفسها على مدى الأشهر الأولى للثورة.
وبالمقابل، سيذكر التاريخ أيضاً عند ما يتكلم عن أسباب فشل الثورة (حتى الآن)، الدور العاجز والواهم والمشلول للنخب السورية التي لم تقم بدورها التاريخي المنوط بها كما فعل غيرها من النخب لدى الشعوب الأخرى حيث أدارت هذه النخب شؤون ثورات شعوبها حتى الانتصار. وسيذكر التاريخ وعلى لسان الكثير من المتخصصين تفاصيل هذا العجز التاريخي وحيثياته وأسبابه الذاتية والموضوعية، خاصة بما يتعلق بالجانب الذي يتجلى في فكرة منهجية، كانت ولازالت تهيمن على وعي الأكثرية الغالبة من هذه النخب، ألا وهي فكرة الواقعية السياسية والفهم المتداول والمتوارث للممارسة السياسية التي انعكست أوتوماتيكياً سلباً على الممارسات الثورية لها، ممّا خلق فجوة بين الموقف الثوري والموقف الانتهازي لهذه النخب المغلف بمفهوم الواقعية السياسية، فضرب بذلك أهم ركن من أركان مفاهيم الثورة وجوهرها في فكرها الممارس والمنتج ألا وهو مفاهيم الحرية والاستقلالية والسيادة.
وستتناقل الأجيال السورية تلك الاعترافات التي جرت على لسان العديد من رموز هذه النخب، كالأستاذ برهان غليون، والمرحوم الأستاذ ميشيل كيلو، والأستاذ جورج صبرة وغيرهم حول خطأهم التاريخي في فهمهم لدور الخارج الدولي والإقليمي والعربي في نصرة الثورة وكنس مرتكزات عصابة النظام الأسدية.
هذا الموقف الذي وسم الفكر النخبوي هذا بفكرة الارتهان للآخر وعدم الثقة بالذات وبالقدرات الشعبية الهائلة التي تبدت في ميادين الثورة بإبهار وإقدام مذهلين، ممّا حرم الثورة من فرصة تاريخية لإنتاج قيادتها وإدارتها الثورية المحتملة.
ومما يؤسف له اليوم، وفيما يتعلق بهذه النخب، وما أتينا على ذكره من خلل اعترى ويعتري منهجها الفكري السياسي، فقد أظهرت مرة أخرى في مواقفها المعلنة حيال الأحداث في روسيا البوتينية التي ولغت في الدم الأوكراني على مدى أكثر من عام ونيف مضى، وتلك التي انفجرت مؤخراً في صفوف عسكرييها والتي سميت بانقلاب تارة وحركة تمرد تارة أخرى أو حركة خيانة وطنية تارة ثالثة، مواقف تنبئ بابتهاج وارتياح كبيرين، وكذلك تصورات وأحلام تذهب حد سقوط الدب الروسي وتفكك جغرافيته، متناسية عن قصد أو عن غير قصد الدور المتماثل بل السباق لدى كلا الطرفين، أي الطرف البوتيني من جهة والطرف الأمريكي الغربي من جهة أخرى، في عملية استحمار الشعوب والعمل على ترويضها وتقزيمها واستغلالها حتى آخر نقطة يسمح لها التاريخ الرأسمالي الليبرالي المعولم ذلك.
الأمر الذي يظهر هذه القوى على أنها لازالت تراهن على الطرف الآخر، الخارج، والأقوى بمنظورها على أن ينهي لها المأساة السورية التي لازال أوارها مستعراً، ضاربة عرض الحائط خطأها القاتل الذي اعترف به رموزها، وكذلك الوقائع التي فرزها مسار تعامل هذه القوى مع الثورة والساحة السورية، التي تؤكد يوماً بعد آخر أنها مرتسمات لفعل احتلالي غازي استعماري.
ولكن بلبوس ناعم ومعايير عولمية تؤكد فرض التّبعية والقهر على الشعوب لصالح أرباب هذه العولمة، ولنا فيما يحصل في السودان واليمن وليبيا ولبنان حتى اللّحظة مضافاً إلى مأساتنا السورية، خير دليل على ذلك.
وهذا ما يعود ليؤكد بؤس وعقم منهجية هذه النخب وليؤكد كذلك حاجة الثورة لإنتاج نخب وقيادات ثورية جديدة، تؤدي الدور الذي لازال ينتظرها، في إتمام مهام الثورة وتحقيق انتصارها بالرغم من جميع التحديات التي تنتظرها.