على مسرح الحرب السورية، شهدت قوات فاغنر الروسية أهم تحولين في مسيرتها العسكرية، وصولاً إلى إعلانها التمرد العسكري ضد موسكو. هذا الانقلاب السريع في بنية وأدوار قوات غير نظامية أصبحت تنتشر في عدد من البلدان التي تشهد أوضاعاً غير مستقرة، سيقلق من دون شك القيادة السورية التي لا تستضيف فوق أراضيها آلافاً من مقاتلي فاغنر فحسب، بل لديها مجموعات عسكرية كثيرة، من الصعب إحصاؤها كلها، تنتشر جنباً إلى جنباً مع قوات الجيش السوري، ويدين معظمها بالولاء لإيران التي لن تتردد في استثمار أي تراخٍ لقبضة موسكو في سوريا جراء صراعاتها الداخلية، من أجل تعزيز نفوذها هناك.
أولاً: كانت الحرب السورية هي الحاضنة التي جعلت “فاغنر” تكسر طوق الحراسة الأمنية الذي لم يعد يتناسب مع اتساع المهام التي ألقيت على عاتقها جراء انخراطها في تفاصيل الحدث السوري، لتنتقل إلى طورٍ أكثر تعقيداً وطموحاً جعلها أكبر واقوى من مجرد ميليشيا وأقل من جيش نظامي متكامل. فقد بدأت “فاغنر” مسيرتها بكونها شركة حراسة، وعندما توافد عناصرها إلى سوريا كان يجري تكليفهم بمهام لا تتعدى الحدود الأمنية مثل حراسة البنى التحتية، وتأمين حماية بعض الشخصيات الرفيعة، إضافة إلى جمع المعلومات الاستخباربة على الأرض.
نجاح “فاغنر” في أداء مهامها البسيطة نسبياً، جعل موسكو تتدرج في ترقيتها وتزيد الأعباء الملقاة على عاتقها لا سيما في ظل التجربة الناجحة لها أيضاً في القيام بأعمال قتالية محدودة في شبه جزيرة القرم عام 2014. وكانت قيادة “فاغنر” تتأقلم بسرعة مع الثقة المتنامية بها، وتحاول تنفيذ ما تُكلّف به من مهام متزايدة، وكان ذلك يتطلب منها إجراء تغييرات جذرية في بنيتها وفي أساليب عملها، ونتيجة هذه الآلية الجدلية تحولت “فاغنر” عملياً إلى قوة عسكرية تشبه الجيوش النظامية لولا فقدانها القوة الجوية، وباتت قادرة على أداء مهام عسكرية معقدة وفوق مساحات شاسعة من الأراضي، وتولي قيادة العمليات القتالية في أكثر من بلد في الوقت عينه.
ثانياً: كما كانت سوريا مسقط رأس “فاغنر” كقوة عسكرية متجاوزة كونها مجرد شركة حراسة، احتضنت الأزمة السورية كذلك البذور الأولى للخلاف المتصاعد بين قائد “فاغنر” يفغيني بريغوجين، ووزير الدفاع سيرغي شويغو. ويعود ذلك إلى 7 شباط (فبراير) عام 2018، عندما سعى بريغوجين إلى استهداف القوات الأميركية في ديرالزور بهدف السيطرة على حقول النفط ومعامل الغاز التي تستولي عليها. غير أن النتيجة كانت كارثية حيث قامت الطائرات الأميركية بحصاد وحدات “فاغنر” قرب بلدة خشام. وقد اتهم بريغوجين وزير الدفاع الروسي شويغو بعدم تنفيذ الالتزامات المتفق عليها بموجب خطة الهجوم على المواقع الأميركية، حيث كان الأول ينتظر تشغيل أنظمة الدفاع الروسية لحماية مقاتليه، وهو ما لم يحدث ما اسفر عن مجزرة سقط فيها ما يقارب مئتي عنصر من “فاغنر”. وكانت هذه الشرارة الأولى للخلاف الذي تصاعد لاحقاً بين الرجلين، بريغوجين وشويغو، حتى وصل الأمر أخيراً إلى مطالبة الأول بتسليمه الثاني بعد اتهامه بقصف مقاتليه في أوكرانيا.
وبعد خطاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أصبحت قوات فاغنر الداعمة لمخطط بريغوجين قوات غير وطنية بل خائنة وطعنت روسيا في الظهر. ومن شأن ذلك أن يطرح تساؤلات كثيرة عن التوصيف الذي ينبغي أن يتم التعامل من خلاله مع مقاتلي “فاغنر” المنتشرين في عدد من بلدان العالم لا سيما في سوريا.
فهناك على الأقل آلاف من هؤلاء المقاتلين ينتشرون في أماكن حساسة من الساحة السورية خصوصاً بالقرب من بعض حقول النفط في ريف ديرالزور وكذلك في البادية السورية وتحديداً في تدمر التي اتهم بريغوجين، شويغو بأنه سرق إنجاز مقاتليه بتحريرها من “داعش” ونسبه إلى الجيش الروسي الذي نال ضباطه أرفع الأوسمة لقاء ذلك بينما ظل مقاتلوه من دون أي تقدير رسمي.
ولكن رغم هذا الانتشار في سوريا، لم تسع قيادة فاغنر إلى إنشاء قواعد عسكرية ثابتة خاصة بها أو إلى تأسيس غرف عمليات مستقلة، بل ظلت تعمل تحت غطاء القوات الروسية ومركزها قاعدة حميميم أو غطاء القوات السورية النظامية.
وقد برز لغز محيّر، ليلة الجمعة الماضي، عندما أعلن بريغوجين عن تمرده ضد وزارة الدفاع الروسية، حيث كانت طائرات مسيّرة تقصف أهدافاً مختلفة في محافظتي حماة واللاذقية. هذا التزامن بين الحدثين قد يجعل من نسب عمليات القصف إلى هيئة تحرير الشام محملاً بشكوك بوجود قنوات استخبارية، ربما أوكرانية، تغذي الجماعة بمعلومات استخبارية لاختيار مواعيد تحركاتها العسكرية النادرة. ومع ذلك سادت هذه الرواية قبل أن يدرك المراقبون اتساع حجم الهوة بين بريغوجين وشويغو وأن الأمر يتدحرج نحو حرب روسية داخلية لا يعرف أحد مآلاتها، وقادهم ذلك إلى التشكيك أكثر بحملة الطائرات المسيّرة التي طالت أهدافاً مدنية وتزامنها المريب مع تمرد “فاغنر” في روسيا.
وقد استغل بعض المواقع السورية المعارضة تأجج الوضع في روسيا لنشر أخبار ومعلومات حول حملة اعتقالات شهدها مطار حميميم لبعض الضباط المقربين من قائد فاغنر. ولكن لم يرد شيء من ذلك عبر مصادر مستقلة يمكن الوثوق بها.
وأيّاً يكن الأمر، لا شك في أن التطورات على الساحة الروسية سوف ترخي بظلالها على البلدان العديدة التي تنتشر بها مجموعات فاغنر القتالية مثل ليبيا والسودان ومالي وسوريا. وثمة عوامل تجعل من الأخيرة مرشحة أكثر من غيرها لتلقي تداعيات الأزمة الروسية بين بريغوجين وشويغو، أهمها الانتشار الواسع لمجموعات فاغنر فوق رقعة جغرافية شاسعة من الأراضي السورية. والقدم الزمني لتواجدها في الساحة السورية الذي سبق تواجدها في الساحات الأخرى ما يجعلها أكثر ضلوعاً بتفاصيل الميادين السورية وجبهات القتال فيها. إضافة إلى الأهمية الاستراتيجية للساحة السورية في سياسة الكرملين حيث اصبحت خلال السنوات الماضية بمثابة مركز روسي متقدم لنشر نفوذ موسكو في المنطقة.
وقادت الأنباء الواردة من موسكو العديد من المراقبين السوريين إلى التعبير عن مخاوفهم من انعكاس ذلك على المشهد السوري الذي تتواجه أربعة جيوش دولية على أرضه هي القوات الأميركية والروسية والتركية والإيرانية. ورغم أن إيران مدّت يد العون إلى روسيا في حربها ضد أوكرانيا، إلا أن ذلك قد لا يمنعها من متابعة التطورات في روسيا ومدى انعكاسه على وضع القوات الروسية في سوريا من أجل استغلال اي ثغرة تظهر أمامها لتحقيق أهدافها المتمثلة في توسيع نفوذها في سوريا ومحاولة خلق وقائع جديدة.
المصدر: النهار العربي