الحلقة العاشرة: الإخوان المسلمون ـ محاولة تفسير 6/6
نظرة ختامية
ما من أحد ينكر أن للإخوان المسلمين، وجودا جماهيريا معتبرا، يزداد حينا حتى يصل إلى مرحلة اعتبارهم “قوة رئيسية” في المجتمع، ويخفت حينا حتى لا يتجاوز حدود هامشية في حركة المجتمع، ومع ذلك فإن هذا الوجود مستمر، لم ينته في أي مرحلة مرت بها الأمة منذ ولادة هذه الحركة.
والناظر في هذا الحزب يلحظ مباشرة أنه يضم بين جناحيه عناصر من مختلف قوى الأمة وطبقاتها، ورغم التباين الشديد الذي أشرنا إليه في البنية الاجتماعية بين الإخوان المسلمين في سوريا، ونظرائهم في مصر، فإنه لا يتعدى أن يكون تباينا في الكثافة والحجم، أي في تمثيل الجماعة لهذه القوى، وليس في وجودها ضمنه.
وقد يستسهل البعض تفسير هذه الظاهرة المزدوجة: الاستمرار والانتشار فيرجعها إلى التخلف الاجتماعي الذي يسم مجتمعنا، حيث الانقسام الطبقي، والنمو الاجتماعي فيهما الكثير من التشوه، وحيث الأيديولوجيات فيها الكثير من الغموض، لكن هذا التفسير السهل، تفسير عاجز عن كشف دينامية الحركة الاجتماعية، وأصولها، وهو كذلك تفسير مستعار من مناهج غربية لا تعين على فهم الواقع العربي خصوصا، والواقع الإسلامي كذلك، وبلدان العالم الثالث على وجه العموم.
إن أحداث التاريخ، ودروسه، تخبرنا، أنه ما من قوة، أو فكرة، تأخذ مكانها في حركة الجماهير، إلا وتكون قد جاءت لتلبي حاجة جماهيرية، أي جاءت متجاوبة مع شيء أصيل في حياة الناس، وبقدر مكانة هذا الشيء، بقدر ما تهتز له مشاعر الناس، وتفسح الأمة له في قلبها، وعقلها، وحركتها.
وإذا شئنا أن نتعرف إلى تفسير هذه الظاهرة المزدوجة فنحن مدعوون إلى النظر في حياة هذه الأمة يوم أن ظهر الإخوان المسلمون، ويوم أن أخذوا مكانتهم في الحياة الاجتماعية، وإذا شئنا تفسير صعودهم، وهبوطهم، فإننا مدعوون أيضا إلى النظر في حياة هذه الأمة في فترات صعودها وهبوطها، وبدون ذلك فإن أي تفسير لهذه الظاهرة يبقى تفسيرا ذاتيا، بعيدا عن الأخذ بالمنهج العلمي، وما يصدق على ظاهرة الإخوان هنا يصدق على أي ظاهرة أخرى، وعلى أية فكرة أو قوة نصادفها في واقع حياتنا الاجتماعية.
وإذ يسجل العام 1928 ولادة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، فإن هذا التاريخ يأتي وسط مرحلة مثلت في مصر منعطفا متميزا، نتبين ملامحه الواضحة حينما نتذكر بعض العلامات البارزة في تلك المرحلة:
** فقد فشلت ثورة 1919 في تحقيق أهداف التحرر الوطني، وحين جاء دستور 1923 تأكدت هذه الحقيقة، وليس فشل هذه الثورة حادثا هينا في تاريخ مصر، فقد أعطى الشعب المصري لهذه الثورة كل ما يملك، وتجسدت خلف قيادتها طاقات الشعب وإمكاناه، وأعقب هذا الفشل إشارة استفهام عريضة حول جدوى القوى والطريق الذي سلكته الثورة.
** وفي هذه المرحلة بالذات سقطت الدولة العثمانية، وانتهى سلطان الخلافة العثمانية، وصارت مصر وحدها في الميدان، وجاء ذلك في رحاب دعوات للالتحاق بالغرب وتقاليده، وكان من نتيجة ذلك أن ظهر لدى هذا الجيل مشروع للنهضة المستقلة، “لا أقول معارضا للإسلام، وإنما أقول إنه يتبنى معايير الاحتكام الغربية، ويترسم أنساقها ويقررها، ويجري تنفيذها، بعيدا عن معايير الشرعية والاحتكام الإسلامية، وغير متصل بها، ولا واردا منها” على حد تعبير الأستاذ البشري.
** ودفع فشل الحركة الوطنية في تحقيق أهدافها، وسقوط دولة الخلافة لصالح دعوات التغريب، التيار الشعبي إلى الإحساس بالنقص في توازنه العام، وإلى انكشاف المساحات الشاغرة في تفكيره، هذه المساحات التي جاءت “الدعوة الإسلامية ” لتستأثر باحتلالها.
ولعله من قبيل القاعدة العامة أنه كلما أصيب النضال الوطني بحالة انكفاء شديدة، وحصار شامل، تراجع الضمير الشعبي للتحصن بحصن “الإسلام” لمقاومة هذه الحالة، وهذا بالضبط ما كانت بوادره مرئية في تلك الفترة، لذلك ” يمكن ـ وفق تعبير البشري ـ ملاحظة أن فترة ظهور الإخوان المسلمين كانت فترة توجه إسلامي عام”.
في إطار هذه الظروف ولدت حركة الإخوان المسلمين، وقد كان الجو مهيأ لها، وأضيف إلى الظروف الموضوعية العامة، عوامل ذاتية: منها القصر وتشوفه أنذاك للاستئثار ب “الخلافة الإسلامية”، ومنها الاحتلال وحاجته إلى ضرب حزب الأغلبية ” الوفد”، وتعطيل سيطرته الفاعلة على الحياة السياسية.
وما كان لهذه العوامل الذاتية أن تعني شيئا لولا أن هناك ظرفا موضوعيا عاما يشير إلى وظيفة اجتماعية لم تجد من يتحمل مسؤولية القيام بها، وبالاستناد الى هذا الظرف الموضوعي العام نستطيع أن نفهم التطور والانتشار الضخم حيث قفزت عضوية الجهاز الطليعي ـ التنظيم الخاص ـ للإخوان المسلمين قفزات هائلة حتى وصلت مع قيام ثورة يوليو في مصر لحدود ستين ألف عضو.
إننا إذ نشير هنا إلى الظرف الموضوعي العام فحتى نتبين حقيقة أن الأحزاب والقوى السياسية، إذ تنمو فإنها لا تنمو نتيجة جهود أعضائها ودعاتها فحسب، ولكن أيضا نتيجة توفر شروط حقيقية لنموها، أي نتيجة وظيفة اجتماعية تستدعي هذا النمو، وكلما كانت هذه الوظيفة الاجتماعية متقدمة في سلم الأولويات في حياة الناس، كلما افسحت الفرصة لهذه الأحزاب أن تتوسع وتنتشر، وبالتالي فإن المواجهة الحقيقية لا تكون مع هذه القوة أو تلك أساسا، وإنما مع الظرف والوظيفة.
إن ما قدمناه في كل هذا البحث ليس تاريخا لحزب الإخوان المسلمين، ولكنه تماما كما أشار عنوان هذا البحث “محاولة تفسير”، وما كان له أن يكون كذلك لو لم يكن القائمون بها أصحاب رأي واتجاه، لذلك فإننا لا نشك أن هناك العديد الذين يرون تفسيرا خلاف ما ذهبنا إليه، إما جنوحا في الموقف ضد الإخوان، وإما ميلا لهم، وتعاطفا معهم يصل إلى حد وصفهم بالدعاة الثوريين الأطهار.
ومثل هذا التباين في الرأي مفهوم، وطبيعي، وعلى وجه الخصوص في مواجهة الإخوان المسلمين الذين لعبوا في التاريخ المعاصر لهذه الأمة دورا بالغ التأثير، واستطاعوا باستمرار أن يثبتوا لهم مواقع في خريطة الحياة السياسية في غالبية الأقاليم العربية، ورغم النكبات التي ألمت بهم فإن دعوتهم مستمرة، تكبوا أحيانا، وتنهض أحيانا أخرى.
ولا شك أن وضعا كهذا يستعصي على مجرد التوصيف التقليدي الذي يحصر التقيين بين رجعيين وتقدميين، ويدل ـ كما أشرنا قبل قليل ـ على وظيفة أساسية يلمسها هذا التيار ويتمثلها، ويقوم بها ، وما دامت هذه الوظيفة موجودة ، لا يتقدم أحد للاضطلاع بها فإن هذا التيار قائم، وإذا كان البعض بحكم التمزق والهوان الذي تعيشه الأمة، أو بحكم مظاهر القوة التي يعيشها هذا التيار هنا أو هناك، ينطلقون في الدعوة إلى وجوب إيجاد نقاط التقاء وحوار بين التيارين اللذين تعمر بهما الحياة العربية: التيار الوحدوي العروبي، والتيار الديني الإسلامي، ـ وهو انطلاق له ما يبرره ـ وتطوير هذا الحوار ليصل إلى برامج عمل مشتركة تستطيع أن ترفع هذه الأمة مما هي فيه، ونحن من دعاة الدعوة للقاء والحوار مستهدفين العمل المشترك ـ فإن الأمر عندنا لا ينطلق من هذه الزاوية فحسب، وإنما من زاوية أخرى تستوعب ما سبق، لكنها تمسك بالأصل والجوهر في المسألة كلها، فتصبح هذه الدعوة خطا ثابتا عندنا، يمتلك القدرة والمرونة على تجاوز العقبات الذاتية والموضوعية التي تعترضه. ويؤسس لموقف ونهج أصيل. يمسك بهوية الأمة” الإسلام والعروبة”، ويعمل على جمع قواها على طريق واحد، وفي جبهة عمل واحدة.