للأسبوع الثاني على التوالي، تظاهر أبناء الطائفة الأرمنية في القدس داخل ساحات الدير الخاص بالطائفة، احتجاجاً على تسريب البطريرك الأرمني ما يقارب 25 في المئة من الحي الأرمني، ما يُعرف بـ”حديقة البقر-غوفيرون بارديز” أو بموقف السيارات، إلى جهات إسرائيلية. يأتي ذلك بعدما قررت المملكة الأردنية الهاشمية والسلطة الفلسطينية، تجميد الاعتراف بالبطريرك الأرمني نورهان مانوغيان بعد عقده اتفاقيات وصفقات عقارية من شأنها التأثير في مستقبل المدينة، من دون التوافق أو التشاور مع الأطراف ذات الصلة، ومن دون إشراك المجمع الكنسي والهيئة العامة لأخوية مار يعقوب كما يقتضي القانون والأنظمة الكنسية.
تاريخ الأرمن في القدس
وبحسب نشطاء بارزين في الحراك الأرمني الذي يقوده الشباب في شكل لافت منذ ما يقارب العامين من الداخل والخارج بطريقة سرية، فقد أبرم البطريرك مانوغيان ومدير العقارات في الكنيسة باريت يريتسيان صفقة سرية لتأجير موقف السيارات 10 سنوات إلى بلدية القدس، وبعدها أبرمت الاتفاقية الثانية مع المليونير اليهودي الأسترالي داني روبينشتاين الذي يدعم المستوطنين من خلال منظمة تعرف باسم “أكسنا غاردنز”، تستحوذ بموجبها على “حديقة البقر” لمدة 99 عاماً، وعلى محيطها الذي يمتد من بناية القشلة (مركز الشرطة) في باب الخليل وحتى سور القدس الذي يصل إلى بوابة النبي داود. وتكمن أهميتها الاستراتيجية في كونها تقع على أعلى نقطة في “جبل صهيون”، وتعد أكبر مساحة فارغة داخل أسوار البلدة القديمة، ومن شأنها أن تغيّر من الطابع الديموغرافي والجغرافي للمدينة.
ويعد الحي الأرمني جزءاً لا يتجزأ من البلدة القديمة، وهو أرض محتلة تنطبق عليها قررات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة، وتعتبر الاتفاقات التي أبرمها البطريرك الأرمني مخالفة صريحة لكل القرارات والمواثيق الدولية، والتي تهدف إلى الحفاظ على الوضع القائم في القدس وحماية الإرث الأرمني المقدسي.
تمتد جذور الأرمن إلى أكثر من 1500 عام، تحديداً إلى القرن 3 الميلادي حين حضر الأرمن الأوائل إلى المدينة المقدسة لرمزيتها الدينية والتاريخية والثقافية، وفي القرن الـ7 الميلادي شيد الأرمن البطريركية على مساحة تبلغ 300 دونم، ما يعادل سدس مساحة البلدة القديمة. ويتكون الحي الأرمني (حارة الأرمن) كما يطلق عليها المقدسيون، من مجموعة من البيوت التي كانت سابقاً خانات ومأوى للحجاج وكنيستين ومدرسة “يارانكافوراتس” اللاهوتية والتي تعرف بـ”السيمنار”، ومدرسة “تركمانشاتس” الثانوية، ومتحف وعيادة طبية وثلاثة نواد هي “الهويتشمين” و”الهومنتمن” و”باري سرادز” (الجمعية الخيرية الأرمنية)، وفي القدس 1100 أرمني.
10 أعوام من العزلة
يتفق الأرمن الذين شاركوا في الاحتجاج على أنه لم يسبق لهم أن شهدوا سنوات عزلة عن القدس ومحيطهم الفلسطيني المسيحي والإسلامي، كما شهدوها بعد تولي البطريرك الـ97 منصبه في كانون الثاني (يناير) عام 2013. وصل مانوغيان المولود في حلب – سوريا عام 1948 إلى القدس عام 1966 ليلتحق بمدرسة “يارانكافوراتس”، ويعرف عنه قسوته وجبروته اللذان لا حدود لهما وشحصيته الانطوائية وتعجرفه، حتى أن أحد المشاركين قال إنه “زمن العبودية، يريد منا الطاعة والولاء وأن لا نناقشه بتاتاً”. آخرون وصفوه بالبارد وقالوا إنهم يتذكرون أن آخر مرة شارك البطريرك في احتفالات سبت النور في كنيسة القيامة كانت قبل 9 سنوات عام 2014، إذ إنه لا يحترم البروتوكولات المعتمدة لمنصبه منذ سنوات.
يذكر أن البطريركية الأرمنية من الكنائس الثلاث الرئيسية التي تشرف على كنيسة القيامة بعد بطريركية الروم الأرثوذكس وبطريركية اللاتين.
خلال الأعوام العشرة الماضية لم يتجاوز حضور البطريرك خمسة قداديس، أغلب المشاركين في التظاهرة أجمعوا على أنهم لا يرونه أصلاً، إذ إنه لا يخرج إلى الحي الأرمني، ونادراً ما يغادر المنزل إلا إلى أحد المطاعم الفاخرة، أو لحضور حفلة في بيت الرئيس الإسرائيلي، ولا يحضر أياً من الحفلات التي تتم دعوته إليها، حتى أنه يقول “إذا لم أذهب أنا لن يذهب أحد آخر”، علاقاته شبه معدومة مع رؤساء الكنائس والطوائف الأخرى المنضوين تحت “مجلس البطاركة ورؤساء الكنائس في القدس”، إذ يتم التواصل مع مساعديه.
أما أقرب المقربين إليه فهو مدير العقارات في البطريركية الأرمنية باريت يريتسيان، لا يرى غيره تقريباً، يجزم أبناء الرعية بأنه العقل المدبر والقوة الدافعة لتسريب العقارات التي لا تقدر بثمن، وصفه البعض بأنه “يكره حتى نفسه”، عرف بقسوته تجاه طلاب “السيمنار” عندما كان مشرفاً عليه، إذ كان يضرب الطلاب ويمارس التنكيل الجسدي واللفظي ضدهم، وسبق أن حكم عليه في قضية تحرش واغتصاب لطالب لاهوت في الولايات المتحدة الأميركية ترتب عليه بعدها أن يدفع نحو 500 ألف دولار.
عمل يرتسيان عن كثب مع البطريرك على تسريب عقارات الكنيسة الأرمنية في القدس، وكثير ما تصادم مع السلطة الفلسطينية حول العقود غير القانونية التي ينجزها، تخلى عن جنسيته الأردنية ومنع من دخول الأردن في تشرين الأول (أكتوبر) عام 2022.
قبل أسبوعين قام الشباب الأرمن بالتظاهر ضده وملاحقته وطرده من البطريركية بعد رفض تقديم أي شرح عن تسريب العقارات، في الوقت الذي قام فيه البطريرك والكهنة في “السيمنار” باستدعاء عناصر الشرطة الإسرائيلية لحمايته، وقاموا فعلاً بإخراجه، بعدها تم رصده على طائرة غادرت مطار تل أبيب إلى تركيا.
القدس الأرمنية
وصفت صحيفة “كهارات” التي تهتم بشؤون الأرمن كلاً من يرتسيان ومانوغيان بـ”يهوذا الأسخريوطي”، قائلة: “إنهما ماضيان قدماً بمشروعهما، ويتصرفان كأنهما لن يخضعا للمساءلة أمام أحد، ربما الطمع والجشع ما يدفعانهما إلى ذلك، فقيمة العقار تتخطى 1.5 مليار دولار لمساحة تبلغ 10 آلاف متر مربع، لذلك رفضا كشف بنود العقد، على الرغم من أنهما ينتهكان بنود أخوية مار يعقوب، ويهددان الوجود الأرمني ويلحقان الضرر بالقدس الأرمنية، وقد شجع نشاطهما انتشار الشائعات عن أنهما يخططان للهروب والسفر بحثاً عن ملاذ إلى الولايات المتحدة كونهما مواطنين أميركيين وبعدنا … الطوفان”.
المؤرخ جورج هنتيليان قال لـ”النهار العربي”: “نحن مصممون على الاستمرار في المجابهة لوضع حد لهذه الصفقة، وسنستمر بالوقفات الاحتجاجية ونتظاهر كل يوم جمعة، سيقوم الشباب بشرح كل التفاصيل والمستجدات على صعيد الحي، لأنه ليس لدينا أي تفاصيل عن بنود الصفقة، لكننا نعرف المكان”.
وتابع هنتيليان: “حضورنا تخطى 1500 عام في المدينة، وهذا الحي هو قطعة من القدس وفلسطين، وهذا ما يجعله “القدس الأرمنية” لأهميته الروحانية الدينية والتاريخية والثقافية، لذلك يجب علينا الحفاظ عليه والدفاع عن ممتلكاتنا لنكمل الدفاع عن المدينة. في القدس أربعة أحياء وكل حي له تاريخه وخصوصيته، لذلك تتأثر الأحياء بعضها ببعض وبكل ما يحدث في أي حي منها، لأنها واحدة وترسم صورة متكاملة للمدينة بأفراحها وأحزانها”.
واعتبر الناشط هاغوب دجيرنازيان، الطالب في قسم الدراسات الدولية والشرق أوسطية، أن “البطريرك يعرف تماماً تفاصيل الاتفاقية التي وقّعها، إنها غير قانونية لأنها لم تستوف دستور البطريركية ولا القوانين
التي تنص على ذلك، لا يستطيع البطريرك أن يبيعها بمفرده، عام 2019 سمعنا بأن هناك مخططاً لموقف السيارات و”أرض حديقة البقر”، بعدما بدأت البلدية في إصلاح شارع البطريركية لم نكن نعرف التفاصيل، بعد أشهر أُبرم أول عقد تأجير مع البلدية، وقامت البلدية بتنظيف الأرض من المخلفات وتسويتها، ومن ثم تجهيزها كموقف للسيارات، افتُتح في نيسان (أبريل)2021 بحضور رئيس البلدية والبطريرك، في تموز (يوليو) 2021 تم توقيع الاتفاقية الثانية لتأجير الأرض كاملة مع داني روبنشتاين لـ99 عاماً”.
وتابع دجيرنازيان أن “الرعية والأرمن في العالم بدأوا يطلعون على تقارير تتحدث عن الصفقة المبرمة، بعدها قام 12 رجل دين من أخوية مار يعقوب بكتابة بيان مشترك ضد الصفقة”
انضم إليهم 17 مطراناً من جميع أنحاء العالم. بعد ذلك انضمت المملكة الأردنية الهاشمية والسلطة الفلسطينية وأرمينيا، ثم أرسلت السلطة وفداً إلى أرمينيا لمناقشة التطورات مع وزارة الخارجية والكنيسة ورئيس الجمهورية، تقرر بعدها تشكيل لجنة متابعة من الأردن وفلسطين وأرمينيا.
وأضاف دجيرنازيان: “للأسف لم ينتج أي شيء عنها، منذ شهرين دخل روبنشتاين إلى الأرض ووظّف حارساً، لم تقدم البطريركية أي توضيح لتساؤلاتنا ولم تجب عنها، ثم سمعنا بأن البيوت جزء من المخطط، إضافة إلى حديقة البقر والدكاكين والمطعم والسيمنار وموقف السيارات الداخلي والبيوت”.
وختم دجيرنازيان بالقول:” الآن بدأنا إسماع أصواتنا، حتى لو كان ذلك متأخراً. هذه معركتنا الأخيرة، ما لم ينجح الإسرائيليون في الحصول عليه خلال مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، يريدون أخذه الآن بالتزوير، الإسرائيليون يمارسون ضغوطاً سياسية كبيرة علينا منذ احتلال 1967، واعتداءات المستوطنين المتكررة تستهدف وجودنا، يريدون أن يسكنوا المستوطنين بيننا، نحاول حالياً عن طريق مكتب محاماة إبطال العقود غير القانونية لأنها أصبحت معركة وجود”.
المصدر: النهار العربي