على أبواب الانتخابات الرئاسية التركية في دورتها الثانية، في 28 أيار/مايو الجاري، يستفزنا المشهد التركي للعودة إلى أصول الصراع على سدة الرئاسة بين حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري الأتاتوركي.
إنّ الفهم التاريخي للتطور التركي يؤكد أنّ الأتاتوركية، في وجه من وجوهها، وليدة الدولة العثمانية منذ بداية عصر التنظيمات في العام 1839، ثم إعلان أول دستور في العام 1876، مروراً بتكوين جمعية ” الاتحاد والترقي ” التي أجبرت السلطان عبد الحميد على إعادة العمل بالدستور في العام 1908، ثم الحرب التحريرية التي قادها كمال أتاتورك، انطلاقاً من فضاء الدولة الوطنية، كزعيم محرر للأرض التركية. إذ نالت تركيا استقلالها في 29 تشرين الأول/أكتوبر 1923 بتأييد الحلفاء، على أن تتخلى عن فكرة الخلافة الإسلامية، وتضع وتطبق قوانين مدنية صرفة.
لقد باشر مصطفى أتاتورك سياسة التغريب في تركيا، وكتب لغتها بالحروف اللاتينية، ومنع التعليم الديني، وأصر ومعه المؤسسة العسكرية التركية بأجيالها المتتابعة على التمسك بالعلمانية التي نص عليها الدستور صراحة.
إنّ العلمانية التركية السائدة تستمد جذورها من سياسات النظام العسكري، الذي أقامه كمال أتاتورك، حيث مثلت هذه السياسات محاولة للحفاظ على وجود الدولة التركية، والعمل من أجل وضعها على النسق نفسه الذي كانت عليه الدول الأوروبية المنتصرة في الحرب، غير أنّ هذه العلمانية ركزت على المظاهر أكثر من تركيزها على المضامين.
ويدخل ضمن هذه التقاليد العلمانية المنغلقة إسناد مهمة استثنائية للجيش التركي كحارس للنظام العلماني، تمتد لتشمل التحكم بالنظام السياسي، على الرغم من التحوّلات التي شهدتها تركيا والتي أوصلتها إلى اعتماد النظام البرلماني والتعددية الحزبية وإجراء الانتخابات كمصدر للشرعية. وفي ظل هذه المعطيات السياسية فشلت تركيا في مغادرة ارثها الديكتاتوري بالكامل، وتعطلت مساعيها من أجل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وتتحمل الأحزاب التركية، بحرصها على التمسك بموروثات أتاتورك، مسؤولية منع تركيا من إنضاج تجربتها الديمقراطية، علاوة على أنّ الدور السياسي المسند إلى الجيش وضع الحياة السياسية تحت سيطرته كحارس للنظام، مما قاد تركيا إلى التخبط في معمعة الأزمات السياسية والاقتصادية، ورهنها للاحتقانات الاجتماعية الخطيرة، الأمر الذي حال دون أن يأخذ مسار تطورها خطاً مستقيماً حتى النهاية، حين ترسخ في ذهن المواطن أنّ ” العسكريتاريا ” من صلب العلمانية، وحين ساد في المجتمع ما يُعرف بـ ” ثقافة الثكنة ” حيث القائد العام للجيش في مقام الرئيس السري للبلاد، أوامره بمثابة تعاليم مقدسة.
لقد بات من الثابت أنّ الديمقراطية التركية حالة خاصة تماماً في واحد من أكبر وأعقد وأصعب ملفات أي نظام ديمقراطي، أي ملف تنظيم العلاقة بين المدنيين والعسكر. فقد قام الجيش بانقلاب في العام 1960، وقام بانقلاب آخر في العام 1971، وفي عام 1980 قام الجيش بالانقلاب الثالث، ومنذ تسعينيات القرن الماضي تغير أسلوب الجيش، حيث تخلّى عن الانقلابات العسكرية، إرضاء للاتحاد الأوروبي الذي تسعى تركيا للانضمام إليه.
والخشية اليوم، بعد الدورة الثانية من الانتخابات، أن يتمكن الحزب الأتاتوركي/حزب الشعب الجمهوري من إيصال مرشحه إلى سدة الرئاسة، بما ينطوي عليه ذلك من إعادة وضع سلطات المؤسسة العسكرية فوق المجتمع والدستور واللعبة الديمقراطية، بعد أن استطاع حزب العدالة والتنمية من تحديد دور هذه المؤسسة في حماية حدود تركيا. وتكمن خشيتنا في أنّ الأتاتوركية، التي أسسها مصطفي كمال أتاتورك كأيديولوجية رسمية لتركيا، تسند إلى العسكر مهمة الضامن شبه الوحيد للنظام السياسي العلماني.
ورغم أنّ الكمالية تحظى بشبه إجماع شعبي، بما فيه الرئيس أردوغان وحزبه، فإنّ المؤسسة العسكرية هي وحدها التي حوّلت المبادئ الكمالية، بصدد العلمانية والأمّة – الدولة والديمقراطية، إلى قواعد سلوك عليا تسمح بتجاوز المجتمع وخرق الدستور.
ومن المرجح أنّ ثمة نقاط ضعف رئيسية اعترت ديموقراطية تركيا وأصابت كل جهودها نحو التجدد والتحديث بتراجعات في مجال الحريات العامة والخاصة، بالرغم من دورية الانتخابات الديمقراطية التي تعرفها تركيا منذ عدة عقود: أولاها، التوجهات الرئاسوية الفردية التي شهدتها تركيا في السنوات الأخيرة. وثانيتها، أولوية المقاربات الأمنية لدى القيادة التركية للتعامل مع مكوّنها الكردي. وثالثتها، ابتعادها عن حلفها التقليدي مع الغرب، مما أثر على مصالحها السياسية والاقتصادية في علاقاتها ومواقفها الداخلية والإقليمية والدولية.