لا يمكن لباحثٍ متوازنٍ وموضوعيٍّ أن يقلل من أهمية دور الشعوب في صناعة التغيير وكتابة التاريخ، أيّ محاولةٍ بهذا الاتجاه هي تقليل من احترامنا أنفسنا، وانتقاص من التضحيات الكبيرة التي قدّمتها شعوبنا، خصوصاً في السنوات القليلة الماضية، طلباً للحرية والكرامة الإنسانية. لكن ينبغي، في المقابل، وبحسب ما دلّت تجارب الثورات العربية، ألا نستخفّ بدور الظروف الخارجية في مقاومة إرادة الشعوب وافشال سعيها نحو التغيير. الشعوب هي بالتأكيد من يُشعل الثورات، عندما تُصبح تكلفة عدم الثورة بالنسبة إليها أكبر من تكلفة القيام بها، لكنها لا تقرّر في بعض الحالات (إن لم يكن في أكثرها) وحدها نتائج الثورة، على ما تدلّ الشواهد القائمة حاليًا من اليمن إلى تونس مرورًا بسورية وليبيا ومصر والبحرين وغيرها، فالعوامل خارج الحدود تلعب دورًا لا يقلّ أهمية.
في مطلع عام 1989، لم تبدُ هناك بارقة أملٍ حقيقيةٍ لدول أوروبا الشرقية في إسقاط الاستبداد والتحوّل نحو الديمقراطية لولا ضعف القبضة السوفييتية وبداية تصدّع بنية الاستبداد في المركز نفسه، ما أدّى، في نهاية المطاف، إلى انهيار النظام الشمولي المتروبولي وتسرّب الديمقراطية نحو الأطراف. قبل ذلك، زحفت الدبابات السوفييتية مرّتين لقمع الانتقال الديمقراطي في المعسكر الشيوعي، في المجر عام 1956، وفي تشيكوسلوفاكيا عام 1968، بينما عمدت إلى خنقه في بولندا من خلال قمع نضال حركة التضامن (1981-1989).
على مدى العقد الماضي، لعبت إيران (الدولة الثيوقراطية الشمولية ذات طموحات الهيمنة الإقليمية) أدوارًا مهمة في قمع إرادة التغيير في قوس نفوذها الممتدّ في أرجاء المشرق العربي ابتداء بسورية (2011 – 2015) والعراق (2019) ولبنان (2019)، وصولا إلى اليمن، حيث شجّعت الانقلاب على مخرجات الحوار الوطني والتأسيس لانتقال ديمقراطي (2014) من خلال دعمها القوى والمليشيات الحليفة لها، واستغلال الظروف الدولية لصالحها، بما في ذلك إشاحة الولايات المتحدة بوجهها عن المنطقة بعد فشلها في تغييرها (انطلاقا من العراق) وتناقص مصالحها فيها (نتيجة اكتفائها الطاقوي)، ثم استعانتها بروسيا الطامحة بدورها إلى استعادة مكانتها الدولية. وقد نجحت إيران بذلك في منع حركة التغيير الديمقراطي في عموم المشرق العربي، لأسبابٍ بعضُها جيوسياسي، وبعضُها من باب الحرص على منع وصول المدّ إليها، فكان “الدفاع” عن دمشق وبغداد بمثابة دفاع عن طهران. وقد مثلت زيارة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى دمشق الأسبوع الماضي ما يشبه احتفالا بالانتصار على إرادة شعوب المشرق العربي التي خرجت طلبا للحرّية والعدالة والتغيير.
وبما أن التغيير في الأطراف يتم إجهاضه عبر المركز، تصبح حدود التغيير الممكن حصول تغيير في إيران نفسها التي صارت تمثل مركزا للمحور الممتد من جبال هندوكوش إلى البحر المتوسط. إن تغييرا نحو الديمقراطية في إيران سوف يغيّر كل الديناميات التي نشأت مع فشل الثورات العربية، ويفتح الباب واسعاً على تحوّل ديمقراطي حقيقي في المشرق العربي بطريقةٍ مماثلةٍ تماما لما حصل في المعسكر الشيوعي بين عامي 1989و1991. وهذا يعني أنّ نضال الشعوب العربية بات يرتبط ارتباطا وثيقا بنضال الإيرانيين من أجل الحرية والكرامة الإنسانية. هكذا تصبح ثورات 2011 العربية امتدادا للثورة الخضراء التي أجهضها النظام الإيراني عام 2009، والثورة من أجل الضحية الشابة مهسا أميني امتدادا لثورات المشرق العربي التي أجهضتها مليشيات الحرس الثوري. هكذا تتعامل طهران وحلفاؤها مع هذه الثورات، وكذلك يجب أن نعتبرها نحن، فالصراع يكاد يكون واحدا، والقضية واحدة، وجهاز القمع نفسه (الحرس ومليشياته)، وعوامل الثورة مشتركة (فساد، قمع، استبداد … إلخ).
على مدى القرن الماضي، منذ الثورة الدستورية عام 1906، خرجت حركات احتجاجية كبرى في إيران مرّة كلّ عشر سنوات تقريبا، طلباً للحرية والعيش الكريم، بما في ذلك انتفاضة مصدق (1951) وانتفاضة 1963 وثورة 1979 وانتفاضة 1999 الجامعية، وثورة 2009 الخضراء. لكن الاحتجاجات باتت، في العقد الأخير، تحصل بشكل سنوي ومستمر تقريباً في إيران. وهذا يعني أنّ حصول تغيير في طهران، سواء عبر ثورة أو عبر إصلاحاتٍ يضطر إليها النظام سوف يسري سريعا في دول المشرق العربي، وقد يأتي هذا مفاجئا على نحو ما حصل عام 1989 في المعسكر الشيوعي.
المصدر: العربي الجديد