بما أن حركة الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتفاعلاته في كافة المجتمعات والأمم لا تتوقف .. وأن الاستقرار والاستمرار وبقاء الحال من المحال ، ويتناقض مع حركة التاريخ التي هي دائماً في حالة تغير وتقدم ، وتمر بمنعطفات استثنائية قد تشد الى الوراء أو تتقدم بعيداً إلى الأمام ، أذ تبقى حالة السكون عارضة في حياة البشر . فالأمم في مراحل حياتها بحاجة دائماً لتغيير ما تقادم في بنية مجتمعاتها والسير نحو التقدم واللحاق بالتطور الذي يحصل حولها ، وإلا فإنها ستبقى على هامش صناعة التاريخ الإنساني .
ولكن كيف يمكن أن يحدث هذا التغيير وهل يمكن استيعابه وضبط مآلاته ؟ وهل يتم التغيير من فوق من داخل السلطة عبر صراعاتها الداخلية بما قد يؤدي الى انهيار بنيتها الصلبة ، أو الاتجاه الى انقلاب عسكري يفتح الباب أمام مرحلة جديدة ؟ أم لا بد من ثورة شعبية ؟ وكيف يمكن أن تنجح الثورة وتستمر بدون ارتدادات أو ثورة مضادة تهدر كل الجهود والتضحيات وتمنع الوصول إلى التغيير المأمول ؟؟ .
ولقد مرت الدولة السورية بمراحل وأطوار منذ بداية القرن الماضي ، أثناء وبعد الانتداب الفرنسي الذي أسس السلطة السورية على أساس طائفي وإثني ، وصنع الجيش السوري عبر ماسمي ” قوى الشرق الخاصة ” المستند على بنيةٍ أقلويةٍ في مواجهة أي تغيير شعبي يطيح بامتيازاته أو يسعى لإنجاز قواعد ديمقراطية في الدولة الجديدة .
وباستثناء مرحلة الخمسينيات العابرة في استنشاق المجتمع السوري لحياة ديمقراطية قاصرة ومحدودة زمنياً ، لم تترسخ فيها القواعد والتقاليد الديمقراطية التي تمد القوى الشعبية بالقوة اللازمة للإمساك بها وتحصينها والدفاع عنها ، فإن الانقلابات العسكرية وما رافقها من سيادة أنماط الحكم العسكري الديكتاتوري وارتباطه على الغالب بقوى خارجية قد خيم على المراحل اللاحقة وطبع السلطات المتعاقبة بطابعه .
وإذا كانت الانقلابات العسكرية المتلاحقة قد أمسكت برقاب الناس وتحكمت بمصير الدولة ومستقبلها ، فإن تعدد الانقلابات – ولو شكلياً – قد فرض حالة من الحراك المجتمعي وآمالاً في تغيير محتمل لأوضاع الناس ما بين انقلاب وآخر ، إلى أن وصلنا في نهاية المطاف إلى الحركة التصحيحية عام ١٩٧٠ وامتداد إمساكها بالسلطة والحكم الى يومنا هذا …
وهنا لن نتوقف أو نرصد تأريخاً للحركة التصحيحية والمراحل التي مرت بها والصراعات التي تحركت داخل سلطتها وأجهزتها طيلة العقود العديدة منذ إمساكها بالسلطة وحتى اليوم . كما لن نتوقف هنا عند الحركة الشعبية وقواها السياسية التي عارضتها مرحلة بعد أخرى ودفعت الأثمان الباهظة نتيجة الملاحقات والاعتقالات وهجرة الكثير من هذه النخب ومثقفيها خارج أوطانهم ….
ولكننا سنرصد هنا الثورة السورية الحديثة ومآلاتها ، وما عجزت عن تحقيقه ، ولماذا لم تحقق أو تصل إلى أهدافها في التغيير الوطني الديمقراطي ؟؟ وما هو التصور الواقعي للتغيير اليوم ؟؟
لم تأت الثورة السورية بدون إرهاصات تراكمية ، وإنما انطلقت بعد معاناة طويلة مع الاستبداد والفساد واحتكار السلطة وتغييب حضور القوى السياسية والمجتمعية وقوى المجتمع المدني عن أي دور أو فعل ، وفي انسداد الافق السياسي في الإصلاح والتغيير وتدهور الحياة الاقتصادية وفقدان الأمل للشباب في حياتهم ومستقبلهم ، وبعد تفتت البنى الاجتماعية وتصادمها وانتشار الفقر والبطالة والجريمة وانهيار التعليم والثقافة وفساد القضاء إضافة الى الشرخ الكبير بين الريف والمدينة وسيادة المحسوبيات والنافذين والمتنفذين في مفاصل الدولة وأجهزتها ….
انطلقت الثورة بروح وطنية سلمية وطالبت بالإصلاح السياسي ، ورفعت شعارات تنادي بالوحدة الوطنية وبالتغيير الديمقراطي ، لكنها جوبهت بالعنف المفرط خلف ضحايا ودمار ونزوح وتهجير ، خاصة بعد أن ركبت موجتها قوى دفعت بها إلى العسكرة والتطييف واعتمدت على أجندات خارجية لتتأسس منظمات وفصائل قتالية بعضها يقودها قوى ظلامية ، حملت شعارات الدعوة الى الخلافة وأقامت الإمارات ودخلت في حرب دموية بينية حولت الثورة إلى حرب واحتراب داخلي ، وجعلت من الأرض السورية ملعب للقوى الخارجية تتصارع عبر وكلائها لتثبيت وجودها ونفوذها .. لتصل الثورة بعد دخولها السنة الثالثة عشر الى ما وصلت إليه من تعثر وانقسام وتوهان في الرؤية والهدف ، وعجز في الإنجاز ، وانقطاع الكثير ممن تنطح لقيادتها عن قاعدته الشعبية ، بعد أن أوغلت تلك القيادت في الفساد والإفساد وجمع الثروات والإثراء على حساب حياة الناس ودمائهم .
ولقد أثبتت التجربة السورية فشل خيار الانقلابات في تحقيق الانتقال السياسي فهي مجرد انتقال للسلطة من زعيم عسكري ديكتاتوري إلى آخر ، كما أثبتت تجربة الثورة السورية فشل الخيار العسكري في تحقيق الانتصار لارتباطه وجوداً وعدماً بالقوى الخارجية ووضعها مصالحها فوق أي مصلحة وطنية .. وقد جرت العسكرة والخيار العسكري إلى الدمار والخراب ، وإلى كانتونات الأمر الواقع ، والى انسحاب الجزء الأكبر من القوى الشعبية وتقوقعها على ذاتها بعد أن اندفعت بكل ثقلها على طريق الخيار السلمي لتحقيق التغيير الديمقراطي الذي لا يستقيم وجوده والخيار العسكري .. وقد عرج الدكتور عبد الإله بلقزيز في إحدى مقالاته على العلاقة بين العنف المسلح والنضال السلمي للتغيير بأنه ” من غير الممكن لمعارضة مسلحة أن تكون معارضة ديمقراطية، أو حاملة لمشروع ديمقراطي، حتى وإن هي زعمت أنها ما حملت السلاح إلا لتحقيق ذلك المشروع الذي امتنع عليها من طريق النضال السلمي، وحتى لو هي ادعت أنها أُجبرت على حمله للدفاع عن نفسها و”عن الشعب” ضد العنف المسلح للنظام، ذلك أن بين العنف المسلح والديمقراطية بوناً لا يقبل التجسّر والرتْقَ، ولا يمكن اختراع القرابة بينهما باسم أي مبدأ، فهما متجافيان متنابذان لا يقوم الواحد منهما إلا على أنقاض الثاني ” .
كما اثبتت التجربة أيضا فشل الاعتماد على القوى الخارجية ودعمها في تحقيق الانتقال السياسي ، وقد جاءت الأحداث لتؤكد أن الاعتقاد بوقوف الدول الخارجية الى جانب الثورة كان مجرد وهم كبير ، وأنه لا يمكن بأي حال أن تقف الدول الخارجية الكبرى شرقاً وغرباً أو الدول الاقليمية مع القضية السورية ومع حركات التغيير السياسي ومع مطالب شعبنا بالحرية والديمقراطية ، بل انها طوال مسار الثورة عملت على إنهاك المعارضة دون انتصارها ، وإنهاك النظام دون هزيمته .
وقد جاءت التجربة لتؤكد أيضا أن القرارات الدولية بما يخص القضية السورية ابتداء من بيان جنيف ١ والقرارات الاخرى وعلى رأسها القرار٢٢٥٤ عدا عن أنها صيغت بطريقة تقبل التفسير المتعدد ، ولا تتضمن في صياغتها القابلية للنفاذ والتطبيق ، فإن تلك القرارات لم تكن إلا لشراء الوقت واستغلاله لتنفيذ الدول أجنداتها وسياساتها وفق مصالحها ، وتحجيما للثورة ومنعا لها من الوصول الى أهدافها …
الثورة تغيير للبنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية السائدة .. فليس كل حراك شعبي ثورة ، ويفترض لكل ثورة إرهاصاتها ، وأولها وعي قيادتها بما يجب عليها فعله وتغييره ، وهي نتاج تراكمات كمية قد تنفجر في لحظة نتيجة ظروف آنية أو نتيجة حدث يفرض انتفاض الناس وثورتهم ، لكن إذا لم يتم التحضير المجتمعي لها من القوى الحية في المجتمع ، وإذا لم تمتلك تلك القوى الوعي والقدرة على قيادتها فإنها سرعان ما تذوب في ” البنية التقليدية للمجتمع التي هي بحاجة أصلاً للتغيير ” ، ومن هنا فإن الثورة ليس بالضرورة أن تكون مسلحة – وقد خبرنا نتائج الثورة المسلحة – وإنما هي ثورة الفكر والمعرفة والخروج من عباءة القديم المحمولة على البدع والخرافات وطغيان العقلية العشائرية والقبلية ومختلف النوازع ما قبل الوطنية ..
ولقد رسمت القوى السياسية قبل الثورة استراتيجيتها للتغيير تقوم على التمسك بخيار التغيير السلمي التدرجي الهادئ يرتكز إلى العمل ضمن الإطارات الشعبية وفق برامج سياسية وبرامج مطلبية للتغيير .
واليوم بعد المآلات التي وصلت إليها أحوال بلدنا ، وبعد الاستدارات الواضحة ممن اعتبروا أنفسهم أصدقاء الشعب السوري وداعميه من القوى الاقليمية والدولية ، وبعد تدافع عمليات التطبيع العربية التي تجري على قدم وساق ، لا بد من العمل على تنشيط الحواضن المجتمعية الشعبية ، والعمل على فتح حوار واسع وصولاً الى وحدة القوى السياسية واجتماعها على برنامج سياسي واستراتيجي للتغيير الوطني ..
فالتغيير أي تغيير يتطلب إحداث أرضية مجتمعية واعية ، وأدوات فاعلة وقادرة على تحقيق النقلة النوعية لإنجازه .
وهذا يرتب على القوى السياسية التفكير بمخارج وطرق للتغيير مع فهم واعي للمتغيرات السياسية والدولية وكيفية التعامل معها ، فقد أصبح من الضروري والملح التفكير خارج الصندوق بما يقتضي إعادة المراجعة والتقييم واستكشاف رؤى مختلفة وقراءة جديدة للمشهد السوري مقدمة لابتداع آليات فاعلة ومبتكرة للتغيير .. وان يحيط هذا التوجه ببنية المجتمع وأن يتم عبر دور متعاظم للنخب في بث الوعي السياسي بأهمية الانتقال السياسي ودوره في تغيير أحوال الناس وظروفهم ، وأهميته في الحفاظ على وحدة بلدهم ، وخلاصه من الاحتلالات المتعددة التي تستنزف موارد الوطن وخيراته ، وتستبيح سيادته …
ولا مناص – بعد كل المتغيرات التي تحصل حولنا – من الاعتماد من جديد على التغيير التدرجي الهادئ والمنظم فهو اليوم وفق التجربة السورية أكثر جدوى من التغيير المفاجئ الذي يحمل في طياته أخطاراً كبرى ، ولا يقود إلا إلى استبدال سلطة استبدادية بسلطة أخرى .. وربما أن ضعف النظام وتناقضاته الداخلية وصراع القوى الخارجية والداخلية وتناقض المصالح بينها فرصة متاحة للعمل على إحداث ثورة في الفكر والمعرفة وتجاوز التخلف والفكر المتخلف ، وتهيئة المجتمع لوعي أهداف التغيير ومتطلباته .. ويبقى الاصلاح التدرجي الواعي للتغيرات السياسية والاقليمية ، والمتفهم لطبيعة البنية الاقتصادية والاجتماعية وكيفية التعامل معها ، أكثر رسوخا وتغلغلا في النسيج الاجتماعي والفردي وأكثر أماناً بالوصول الى التغيير المنشود . وهذا يشكل مدخلا فعليا للبدء بالعمل على إنجاز الثورة الثقافية ، والقيام بحملات متواصلة في عمق المجتمع لبث الوعي السياسي وأهميته في التغيير الوطني الديمقراطي .
هذا الدور ليس بديلاً أبداً عن المضي قدما بالمطالبة بالتغيير السياسي واستثمار ما أحدثته الثورة من مناخات سياسية دولية ، إضافة الى تعريتها لبنية النظام وسلوكياته وتجاوزاته لأبسط معايير حقوق الإنسان ، في أن تستمر المعارضة بالتمسك بالقرارات الدولية بالتوازي مع دورها المجتمعي ، وأن تطالب وان تضغط بكل الطرق المتاحة لتطبيق وتنفيذ القرارات الدولية والعمل على الحشد الإعلامي والدبلوماسي من أجل استمرار التفاوض الفعال للوصول لمخرجات جدية وفعلية تمهيداً للانتقال السياسي . فلا يموت حق ووراءه مطالب عنيد لا يكل ولا يمل .