كان غريباً بالنسبة الى الأوروبيين أن يستعجل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 9 نيسان (أبريل) الجاري “الانقلاب” على الحلف الأوروبي الأميركي بشأن الصين، بعد ساعات من انتهاء زيارته لبكين التي استغرقت 3 أيام، ومن على متن الطائرة التي أقلته عائداً إلى بلاده. لم يفته أن اصطناع هذا الموقف لا يمكن أن يُفسَّر إلا بأنه تراجع أمام سطوة الصين وخضوع لها وتأثّر بمحادثاته مع الزعيم الصيني شي جينبينغ.
والأغرب أن تحوّلات العائد من بكين لا تشبه ثوابت رفيقته في هذه الرحلة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فان دير لاين، التي كررت ما قالته قبل زيارتها من مواقف منتقدة للصين في ملفات حقوق الإنسان وتايوان والشبهة في مساعدة روسيا في حربها ضد أوكرانيا. والواضح أن في استنتاج الرئيسين، الفرنسي والأوروبي، للرحلة الصينية تناقضاً وانقساماً وشططاً.
يعود ماكرون إلى باريس محاضراً في الأوروبيين، داعيا الدول الـ 27 للاتحاد الأوروبي إلى “الاستيقاظ” من هذه “التبعية” للولايات المتحدة بشأن الصين، مناشداً إياها عدم الانخراط في أجندات واشنطن حيال قضية تايوان. في المقابل لا يفصح الرئيس الفرنسي عن مواضع الاختلاف في موقف باريس عن واشنطن في مسألة الموقف من تايوان، وبماذا تتناقض عن موقف الولايات المتحدة إلى درجة الإيحاء بالاستقالة من “حملاتها الصينية”.
بدا موقف ماكرون غير جدّي ولا صدقية له.
غير جدّي لأن فرنسا التي تعاني ما تعانيه من توعّك على مستوى موقعها الجيوستراتيجي إثر نكستها الأفريقية خصوصاً، وأزمتها الداخلية الحادة بسبب الموقف من قانون إصلاح نظام التقاعد، لا تمتلك قوة قيادة “أوروبا” والتأثير عليها في مواضيع استراتيجية تتعلق بالحليف الأميركي والشريك الصيني.
ولا صدقية لها لأن فرنسا كانت متورّطة في برنامج عداء للصين حين أبرمت عام 2019 صفقة لبيع أستراليا 19 غواصة تعمل بالديزل بقيمة 50 مليار دولار تهدف إلى تعديل ميزان القوى ضد بكين. ولم تتخلّص باريس من انخراطها المعادي للصين إلا من خلال “خيانة” ارتكبتها واشنطن ولندن بالتواطؤ مع كانبيرا عام 2021 حين ألغت الأخيرة “عقد القرن” الفرنسي واستبدلت به عقداً أميركياً بريطانياً لتوريد غواصات تعمل بالطاقة النووية، وهي الصفقة التي عرفت باسم صفقة أوكوس Aukus.
على هذا لا تبدو صحوة فرنسا ورئيسها إلا انتقاماً متأخراً من “ظلم ذوي القربى” ولن تلزم شركاء فرنسا في أوروبا بها، ناهيك بأن دعوة ماكرون الى انتهاج سياسة أوروبية مستقلة عن السياسة الأميركية حيال الصين وملف تايوان تفترض في ثناياها أن الاتحاد الأوروبي هو فعلاً ملتصق بمزاج واشنطن وتعليمات البيت الأبيض.
فإضافة إلى خطيئة غمز ماكرون من قناة الاتحاد الأوروبي وما يستبطنه من انتقاد وتباهٍ بموقف فرنسي مختلف حذق وأكثر حصافة، وهو بالحقيقة مستجد لم يظهر إلا في تصريحه الأخير، فإن لأوروبا عامة، لا سيما اتحادها، موقفاً مختلفاً تماماً عن موقف الولايات المتحدة. صحيح أن أوروبا الأطلسية بدأت تعتبر الصين “تحدياً حقيقياً”، لكن ذلك بقي بعيداً جداً عن خطاب العداء الذي تنتهجه الإدارات في واشنطن. فحتى بريطانيا (من خارج الاتحاد) والتي لطالما اعتبُرت حليفاً تاريخياً لواشنطن و”ذيلاً” لها بحسب غلاة المنتقدين، لا تماشي واشنطن في العداء للصين، بل إنها في وثائقها بشأن الدفاع الاستراتيجي تعتبر روسيا لا الصين العدو الأول.
لم تنتظر دول الاتحاد الأوروبي وصايا ماكرون حتى تطوّر علاقاتها السياسية والاقتصادية مع الصين. يزور منسق السياسة الخارجية للاتحاد جوزيب بوريل الصين (11-13 نيسان)، وكان زارها خلال الأشهر الماضية قبل الثنائي ماكرون – فان دير لاين كل من المستشار الألماني أولاف شولتس (ألمانيا، كبرى دول الاتحاد الأوروبي استثماراً في الصين، لا سيما من خلال صناعة السيارات)، ورئيس وزراء أسبانيا بيدرو سانشيز، ويتوقع أن يزورها زعماء آخرون. ولا ينتظر الزعيم الصيني محاضرة ماكرون لكي تمتد اتفاقات بلاده الاقتصادية مع كل دول أوروبا إلى درجة اقترابها المقبل من عتبة التريليون دولار من التبادلات سنوياً.
قد تكون لمواقف ماكرون أبعاد صينية أو ربما داخلية يهرب بها نحو قضايا تُبعده عن أزمته البيتية التي أدت إلى أن يسجل آخر استطلاع للرأي ارتفاع صورته السلبية لدى الفرنسيين بنسبة 62 في المئة. لكن الرجل يعيد بهذه المناسبة التذكير بدعواته من أجل قيام استقلال أوروبي استراتيجي وامتلاك وسائل الدفاع المستقلة عن الولايات المتحدة. ويدعو هذه المرة إلى أن تكون أوروبا القوة الدولية الثالثة (بعد الولايات المتحدة والصين).
تطيب هذه الفكرة للصين التي تشجع كل دوافع فكّ الارتباط الاستراتيجي بين ضفتي الأطلسي لما يُسهله ذلك على بكين من تمرير لطموحاتها الدولية. كان الزعيم الصيني نفسه في القمّة الافتراضية الصينية الأوروبية في الأول من نيسان (أبريل) 2022 قد دعا الاتحاد إلى “تشكيل تصوّره الخاص بشأن الصين، واعتماد سياسة مستقلة حيالها”.
لكن بكين لا تؤمن بذهاب أوروبا هذا المذهب ولا تثق بإمكانات فرنسا ورئيسها لتغيير هذا الواقع. فحتى عندما قرر الرئيس الفرنسي الراحل الجنرال شارل ديغول حفر تميّز بلاده عن الولايات المتحدة وأخرج فرنسا من القيادة العسكرية الموحدة للحلف عام 1966 (لم تعد إلا في عام 2003 في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي)، بقي المسعى فرنسياً ولم يتمدد نحو أوروبا خصوصاً نحو ألمانيا شريكة فرنسا الأولى في صناعة مشروع الاتحاد.
لن تستمع معظم أوروبا إلى مواعظ الرئيس الفرنسي في عزّ التضامن الأطلسي حيال حرب أوكرانيا. ولا يبدو أن الولايات المتحدة قلقة من خطابات ماكرون الصينية. حتى إعلام باريس تفاجأ واستغرب إدلاء ماكرون بمواقف عصيّة على الاستهلاك فيما كانت مناورات الصين العسكرية تحاصر تايوان، ناهيك بأن شي جينبينغ سيبتسم من دون أوهام لما يمكن لضيفه المغادر أن يُحدِثُه داخل حدائق أوروبا وهو المتعثّر في حدائقه البيتية.
بولندا وتشيكيا ودول البلطيق انتقدت بشراسة تصريحات ماكرون. تحدثت صحافة ألمانيا بغضب عن “ركوع ماكرون الخطر أمام الصين” وعن ارتكابه “لعبة صينية لإحداث انقسام أوروبي” و عن “جنون العظمة عند الرئيس الفرنسي”. أما سياسيو ألمانيا فاعتبروا، بلسان أحد قادة الحزب الديموقراطي المسيحي (يمين)، أن “ماكرون فقد عقله من خلال خطاب ساذج وخطير”، وبلسان أحد قادة الحزب الاجتماعي الديموقراطي (يسار)، أنه ارتكب “خطأ كبيراً إذا ما أراد مغازلة بكين عبر الابتعاد عن واشنطن”.
لن تتجاوز تصريحات ماكرون جلبة إعلامية موقتة لن يأخذ أحد فحواها في الاعتبار ولا أعراض لصدى حاضن لها داخل أوروبا. في واشنطن خرج السناتور الجمهوري ماركو روبيو متهكماً مقترحاً أن تتفرّغ بلاده لأمر تايوان وأن يُترك أمر أوكرانيا للأوروبيين، فيما اكتفى جون كيربي من البيت الأبيض بلهجة مفرطة في الهدوء بطلب توضيحات. والأرجح أن حلفاء فرنسا سيتفهمون أسباب الرجل وحيثيات اعتناقه لهجة صينية بعد 3 أيام فقط قضاها في ضيافة الحزب الشيوعي الصيني وزعيمه.
المصدر: النهار العربي