تعتبر مذكرات اللواء محمد نجيب ، مرجعاً من المراجع المقدسة لكل خصوم عبدالناصر والحاقدين على ثورة 23 تموز ، ولكل من أراد الإسهام بتشويه الحقبة الناصرية في مصر ، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين شيعة سيد قطب وأنصارهم وأيتام طبقة الإقطاع ورأس المال… فما هي حقيقة هذه المذكرات ؟
غريبة عجيبة … أعتقد أنها لم تحصل في عالم المذكرات …
أولاً : لم تصدر بنسخة واحدة كما هي عند كل من كتب مذكراته ، إنما بثلاث نسخ مختلفة ، متباعدة في زمن الصدور .
ثانياً : لم يكن محمد نجيب هو الكاتب بأي من هذه النسخ الثلاث ، إنما كتبها له آخرون .
– النسخة الأولى صدرت عام 1955 بكتاب عنوانه ( مصير مصر )، قام بصياغته باللغة الإنكليزية الكاتب الصحفي الإنكليزي ( لي هوايت ) ، نشر في بريطانيا والولايات المتحدة أولاً ، ومن ثم أعيد نشره باللغة العربية في مصر في ثمانينات القرن الماضي .
– النسخة الثانية صدرت عام 1975 بكتاب عنوانه ( كلمتي للتاريخ ) ، كتبه ( أحمد حمروش ) .
– النسخة الثالثة صدرت 1984 بكتاب عنوانه ( كنت رئيساً لمصر ) ، كتبه الكاتب الصحفي ( عادل حمودة ) .
لهذا لا بد أن تختلف النسخ الثلاثة في الكثير من المسائل ، ولا بد أن تتناقض في الكثير من المحتويات ، وعندما توجد التناقضات … فلا بد من وجود الأكاذيب …
أبدأ بالاعترافات أولاً .. التي يتجاهلها أنصار محمد نجيب ومعارضو وخصوم عبدالناصر ، لأنها تنسف الكثير من ادعاءاتهم .. وتكشف عن حقائق طالما سعوا ولا زالوا يسعون إلى تزييفها .
من كتاب كلمتي للتاريخ :
– في الصفحة 171 من الكتاب ، يعترف بأن الإخوان المسلمين عندما قامت الثورة كانوا يرفضون أي شكل من اشكال الديمقراطية .. بل يرفضون عودة الأحزاب السياسية :
((…. وطالبوا ببقاء الحكم العسكري الحالي ، وعارضوا عودة الأحزاب وإقامة الحياة النيابية ، كما عارضوا إلغاء الأحكام العرفية ، وطالبوا باستمرار الأوضاع كما هي ، على أن ينفرد محمد نجيب بالحكم ، وأن يتم إقصاء جمال عبدالناصر وباقي أعضاء مجلس الثورة ، وأن تشكل وزارة مدنية لا يشترك فيها الإخوان المسلمون ، ولكن يتم تأليفها بموافقتهم ، وأن يعين رشاد مهنا قائداً عاماً للقوات المسلحة ، وأن تشكل لجنة سرية استشارية يشترك فيها بعض العسكريين الموالين لي وعدد مساو من الإخوان المسلمين ، وتعرض على هذه اللجنة القوانين قبل إقرارها ، كما يعرض عليها السياسة الرئيسية للدولة وكذلك يعرض عليها أسماء المرشحين للمناصب الكبرى … كأن الإخوان المسلمين يريدون السيطرة على الحكم دون أن يتحملوا المسؤولية ) .
ويتكرر نفس النص تماماً في الصفحة 254 من كتاب ( كنت رئيساً لمصر ) .
وفي الصفحة 172 من كتاب ( كلمتي للتاريخ ) ينقل عن الإخوان المسلمين رفضهم لعودة الأحزاب السياسية والتعددية الحزبية :
( … لن نوافق على تأليف أحزاب سياسية ، لسبب بسيط ، وهو أننا ندعو المصريين جميعاً لأن يسيروا وراءنا ويقتفوا أثرنا في قضايا الإسلام )
من كتاب كنت رئيساً لمصر :
– في الصفحة 82 من الكتاب :
يعترف بأن عبدالناصر هو مؤسس ورئيس تنظيم الضباط الأحرار :
( وفي يوم من الأيام جاء عامر ومعه جمال عبدالناصر ، وعرفت يومها أنه زعيماً لتنظيمهم ، وأنه جاء ليرى ويزن تقدير عامر لي ولشخصيتي … وكان هذا شيئاً غريباً .. أن تقوم الرتب الصغيرة بفحص وطنية الضباط العظام ، ومع ذلك لم أعترض .. لأنني كنت مقتنعاً بأن خلاص مصر يقع على عاتق الضباط الأحرار الصغار .. فقد كان ينقص ضباطنا العظام الجرأة … كنا نريد حيوية وإصرار وحرارة الصغار وعقول وحكمة وخبرة الكبار .. وكان عامر وعبدالناصر يوافقاني على هذا الرأي )
وفي الصفحة 83 من الكتاب :
(( وبعد لقاءات عديدة ، اتفقنا على الخطوط العريضة … ودعاني عبدالناصر إلى تنظيم الضباط الأحرار .. وهو تنظيم سري كان هو مؤسسه ورئيسه .. ووافقت على ذلك )
– في الصفحة 150 من الكتاب :
يعترف بأنه كان يعارض إلغاء النظام الملكي ، وأن الإخوان كانوا يريدون إقامة دولة الخلافة فوراً :
( معظم أعضاء مجلس القيادة طالبوا بإقامة الجمهورية … لكنني أقنعتهم أن التحضير للجمهورية التي ستحل محل الملكية يحتاج إلى وقت .. وكان من رأي الإخوان المسلمين إسقاط الملكية وإعلان الخلافة الإسلامية فوراً )
– في الصفحة / 157 / من الكتاب :
يعترف برداءة الأوضاع الاقتصادية في مصر قبل الثورة ، عكس ما يدعي خصوم عبدالناصر – وخاصة طائفة الإخوان المسلمين شيعة سيد قطب – بأن مصر كانت في قمة النهوض والتطور الاقتصادي ، وأن عبدالناصر دمر الاقتصاد المصري .. إلخ من هذه الافتراءات ..
(( عندما قامت الثورة .. بعد 156 عاماً ، كان يقطن مصر حوالي 22 مليون نسمة ، يعيشون على إنتاج ومحاصيل 6 ملايين فدان … وباستثناء حوالي 3 ملايين شخص كانوا يعيشون حياة معقولة في مصر ، فإن باقي السكان كانوا يعيشون عند ادنى مستوى من مستويات المعيشة في العالم كله …… وكان ملاك الأراضي قبل الثورة يدفعون للفلاح الأجير 8.5 قرشاً يومياً ، في حين أن التكاليف اليومية للحيوانات كانت أكثر من ذلك … كانت تكاليف البغل 12 قرشاً … والجاموسة 22 قرشاً …. والحمار 9 قروش ))
تناقضات :
– في الصفحة 169 من كتاب ” كنت رئيساً لمصر ” :
يعترف بأنه رفض طلب عبدالناصر استثناء الإخوان من قرار حل الأحزاب .
( وأذكر ، يوم طلبنا من الأحزاب أن تنظم نفسها ، أن طلب عبدالناصر عدم اعتبار الإخوان حزباً حتى لا يطبق عليهم القانون ، وقال لي : إن جماعة الإخوان كانت من أكبر أعوان الحركة قبل قيامها ، ولا يصح أن نطبق عليها قانون الأحزاب … ورفضت طلبه ) .
ويؤكد موقفه هذا في الصفحة 122 من كتاب ” مصير مصر ” :
(( في 12 فبراير 1954 ، أثناء الاحتفال بالذكرى الأولى لإمضاء اتفاقية السودان، هاجمت مجموعة من الإخوان المسلمين شباب هيئة التحرير في جامعة القاهرة. وأشعل الإخوان النار في مكبرات الصوت وعربات البوليس ، وأصابوا اثنا عشر طالبا بجراح ، لم تكن تلك الحادثة الأولى من نوعها ، وقد حذرنا البوليس بأنها لن تكون الأخيرة ، لهذا قررتُ حل جماعة الإخوان المسلمين ، وأغلقتُ أماكن اجتماعاتها ، وأمرتُ بالقبض على كثير من قادة الجماعة ، وكان بينهم “مرشدهم العام” حسن الهضيبي ، وصالح عشماوي محرر (الدعوة) ، وهى الصحيفة الرسمية الأسبوعية الناطقة بلسانهم )).
وفي الصفحة 220 من نفس الكتاب ” مصير مصر ” يناقض نفسه ويدعي أنه لم يكن موافقاً على حل الجماعة :
( لم أكن موافقاً على حل الإخوان … ولم أكن موافقاً على البيان … وأحسست أن موقفي أصبح في غاية الحرج … هل أنا موافق على كل هذا ؟ هل أنا رافضه وغير مقتنع به ؟ … أين أنا من كل هذا بالضبط ؟ ولم أجد مفراً من أن أقدم استقالتي )
– في الصفحة 268 من كتاب ” كنت رئيساً لمصر ” :
يناقض نفسه في رواية واحدة وفي نص واحد ( عن حادثة المنشية ومحاولة اغتيال عبدالناصر ) :
( .. وبينما يلقي جمال عبدالناصر خطاباً في المنشية في 26 أكتوبر ، احتفالاً بتوقيع الاتفاقية ، أطلقت عليه عدة رصاصات ، وسط 10 آلاف شخص في السرادق ، واتهم محمود عبداللطيف .. كان محمود عبداللطيف يجلس على بعد 15 متراً من المنصة والضيوف ، وقيل إنه أطلق عليه 9 رصاصات ، لكن عبدالناصر لم يصب ، وأصيب ميرغني حمزة ( وزير سوداني ) وأحمد بدر المحامي … وكانت هذه المسرحية المدبرة ، محاولة لتحويل عبدالناصر إلى بطل شعبي ، ومحاولة لينسى الناس عوار اتفاقية الجلاء ، ثم هي فرصة ليتخلص عبدالناصر من القوة الوحيدة الباقية وهي الإخوان .. أقول مسرحية لأن محمود عبداللطيف المتهم باغتيال عبدالناصر كان معروفاً عنه مهارته في إصابة الهدف بالمسدس ، كما أنه من الفدائيين المحترفين الذين أرقوا الإنكليز في منطقة القناة عام 1951 ، ثم أن المسافة كانت قريبة تسمح له بإصابة الهدف وهو جسد جمال عبدالناصر العملاق ، ثم إن الرصاصات كانت تسع ، وكان من الطبيعي أن يصاب بواحدة منها على الأقل ، ولو إصابة سطحية . .. أكثر من ذلك ذهب الاتهام إلى حد القول بشريك آخر يسنده بمسدس أو قنبلة … ولو أراد الإخوان أن يقتلوا عبدالناصر ويضمنوا نجاح العملية فلماذا لم يرسلوا خمسة أو عشرة لتنفيذها .. واتضح فيما بعد أن الحائط المواجه لإطلاق النار لم يكن به أي أثر للرصاص ، مما يثبت أن المسدس كان محشواً برصاص ” فشنك ” ) .
والسؤال : كيف أصيب الوزير السوداني مبرغني حمزة والمحامي أحمد بدر برصاص الـ ” الفشنك ” ؟؟
تناقضات برأيه بجمال عبدالناصر :
– في الصفحة 21 من كتاب ” مصير مصر ” :
(( ذات يوم أحضر عامر أحد أصدقائه معه صاغاً شاباً تذكرت أنى قابلته في الفالوجة في فلسطين وأعجبت بشجاعته في القتال ، واسمه جمال عبد الناصر ، كان قد أصيب خلال المعارك ، وكاد يموت وبمجرد تعافيه رفض أن يعود للقاهرة ، وصمم على العودة لميدان القتال )) .
ويناقض نفسه في الصفحة 81 من نفس الكتاب ” كنت رئيساً لمصر ” :
( وفي خلال شهور الحرب ، لم يلفت جمال عبدالناصر انتباهي ، لكني أتذكر أنه كان يحب الظهور ويحب أن يضع نفسه في الصفوف الأولى ، والدليل على ذلك ما حدث في الفالوجا … كنا نلتقط صورة تذكارية في الفالوجا ، ففوجئت بضابط صغير ، يحاول أن يقف في الصف الأول مع القواد ، وكان هذا الضابط هو جمال عبدالناصر ، ولكني نهرته ، وطلبت منه أن يعود لمكانه الطبيعي في الخلف .. وعرفت عنه بعد ذلك ، أنه لم يحارب في عراق المنشية كما ادعى ، ولكنه ظل طوال المعركة في خندقه لا يتحرك … وفي الحقيقة كان الجنود السودانيون هم الذين حاربوا في هذا المكان ……… والمعروف أن السودانيين مغرمون بكتابة الشعر ، وقد سجل بعضهم تفاصيل القتال الذي دار في عراق المنشية في قصائد طويلة ، وصفوا فيها عبدالناصر وصفاً غير لائق بضابط مصري )
تناقضات بموقفه من الإصلاح الزراعي :
– في الصفحة 97 من كتاب مصير مصر :
(( …. كان قانون الاصلاح الزراعي وسيلتنا لتحويل الفلاح المصري لرجل قادر على بناء وتنمية وطنه. لذا تخلصت من وزارة على ماهر لأصدر القانون الذى غير مسار حياة الفلاح المصري للأفضل)) .
– وفي الصفحة 159 من كتاب ” كنت رئيساً لمصر ” :
(( صدر قانون الاصلاح الزراعي رغم معارضتي ، ونزولا على رأى الأغلبية . فقد كنت مع الضرائب التصاعدية . وكنت أرى اننا سنعلم الفلاح الذى حصل على الأرض بلا مجهود أو تعب ، الكسل والنوم في العسل .. وكنت أرى ان تطبيق القانون سيفرض علينا إنشاء وزارة جديدة لمباشرة تنفيذه “وزارة الاصلاح الزراعي” وهذا سيكلفنا أعباء مالية وإدارية لا مبرر لتحملها . وكان من رأيي ان وجود الملاك الجدد بجانب الملاك الأصليين سيثير الكثير من المتاعب والصراعات الطبقية )) .
هذا بعض من الاعترافات والتناقضات …
وعندما توجد التناقضات وتختلف الروايات بموضوع ما ، فهذا يعني لا بد من وجود الأكاذيب والافتراءات … وهي كثيرة في مذكراته قياساً إلى ما جاء متوافقاً متطابقاً في مذكرات غيره ممن شارك في الثورة وفي صنع القرار بتلك المرحلة …
435 7 دقائق