بعد مرور عقدين من الزمن على الاحتلال الأمريكي للعراق، يصبح من غير المجدي فتح سجل هذه الجريمة النكراء، وما ترتب عليها من نتائج تدميرية شملت العراق دولة ومجتمعا. او التذكير بأكاذيب المحتل حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وقدرته على شن هجوم نووي ضد أي بلد أوروبي خلال اقل من ساعة. وليس مجديا ايضا التطرق لوعوده الوردية في بناء عراق جديد ونظام ديمقراطي يكون منارة تهتدي بها الدول الاخرى. فجميع الخلق في جهات الارض الأربعة، قد اطلعوا على صفحات هذه الجريمة، او سمعوا بها وصارت موضع ادانة واستنكار شديدين. وحتى الصفحات التي جرى التستر عليها، لشدة بشاعتها، تم الكشف عنها سواء عبر وسائل الاعلام المختلفة. او اعتراف عدد من اقطاب الاحتلال في مناسبات مختلفة. يضاف الى ذلك، الكم الهائل من، المقالات والدراسات والندوات والمقابلات، التي تعرضت لما جرى في العراق من اهوال ومصائب، جراء هذا الاحتلال البغيض.
وفق هذا السياق، فان المجدي أكثر، الحديث عن المشروع الأمريكي الخطير، الذي شكل احتلال العراق الحلقة المركزية فيه، بل وبدونه لن يكتب لهذا المشروع النجاح. بعبارة أوضح، فان احتلال العراق ليس له علاقة بكل المبررات والاكاذيب التي روجها المحتل لتبرير جريمته، وانما له علاقة بمشروع امريكي كوني اجرامي. خاصة وان أمريكا واتباعها وعملاءها في المنطقة الخضراء، بذلوا وما زالوا يبذلون محاولات كبيرة للتستر على هذا المشروع وإقناع الناس، بانه مشروع تحرري لتخليص العالم من الأنظمة الديكتاتورية والشريرة، وبناء أنظمة ديمقراطية تخدم شعوبها وتعزز “مسيرة المجتمع الدولي السلمية نحو التقدم”. ولكي لا نطيل أكثر، فان جوهر هذا المشروع، هو إطلاق يد أمريكا في الهيمنة على دول العالم وفرض السيطرة عليها والتحكم بمقدرات شعوبها. وفي هذا الخصوص هناك من الوقائع والأدلة ما يدعو للتفكير والتأمل.
الرئيس الأمريكي بوش الأب، قال في خطابه عن حالة الاتحاد في 24/1/1990، أي قبل دخول العراق في امارة الكويت بعدة شهور، وبالحرف الواحد، “بان القرن الواحد والعشرين لابد ان يكون قرناً أمريكياً. وينبغي علينا جميعا تحقيق هذا الهدف الذي آن الأوان لتحقيقه”. وقد فسر المعنيون بالتحولات التاريخية الكبرى هذا الخطاب، بان أمريكا قد وجدت الوقت مناسبا لاتخاذ القرار بالهيمنة على دول العالم دون منازع، والتحكم بمقدراتها، وصولا الى بناء امبراطوريتها الامريكية التي ينتهي التاريخ عند أبوابها.
وقد تحدث العديد من اقطاب الإدارة الامريكية، عن هذا المشروع بوضوح أكثر بعد احتلال العراق. فعلى سبيل المثال، قال رون ساسكند في كتابه “ثمن الولاء” وبالحرف الواحد، “بانه بعد وقف الحرب العراقية الايرانية وضع بوش واقطاب ادارته على الطاولة خطة قديمة يرجع تاريخها الى عام 1986 اسمها “دليل التخطيط الدفاعي”. وملخصها منع ظهور اي منافس دولي جديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي”. وأضاف “بان هذا الأمر يتطلب احتلال العراق”. في حين قال بول اونيل وزير الخزانة الأمريكية وصاحب كتاب “جورج دبليو بوش: البيت الأبيض”، قال، “شاهدت ملفاً سرياًّ بعنوان خطة لعراق ما بعد صدام. وأضاف بان موضوع الحرب على العراق كان موضوعاً دائما في جميع اجتماعات مجلس الأمن القومي التي حضرتها شخصيا”.
بول ولفويتز وريتشارد أرميتاك ودوجلاس فيث، الذين يشغلون مناصب عليا في الإدارة الامريكية، عبروا عن ذلك بطرق مختلفة. حيث اجمعوا على “ان من الضروري إعادة الاستقرار الأمريكي، وبأنه من حق الولايات المتحدة الأمريكية وواجبها أن تفرض النظام وتهذب الأشرار في مختلف أنحاء العالم، لأنها الدولة الوحيدة في الجماعة الدولية التي تمتلك القوة والسلطة الأخلاقية للقيام بهذا الدور”. في حين قال الجنرال انتوني زيني، الرئيس السابق للقيادة الوسطى الأمريكية، التي نفذت احتلال العراق، “إن المثقفين اليهود المعروفين بالمحافظين الجدد، هم من أشعل حرب العراق خدمة لإسرائيل” وحدد ثلاثة أسماء بارزة هم بول ولفوفيتز نائب وزير الدفاع الأمريكي لشؤون التخطيط أثناء احتلال العراق ودوجلاس فيث مسؤول السياسة الدفاعية أثناء احتلال العراق، ريتشارد بيرل الذي شغل منصب رئيس مجلس السياسة الدفاعية التابع لوزارة الدفاع الأمريكية، من يوليو 2001 وحتى 2003.
وليام كبريستول ولورانس كابلان وهما مثقفان من صلب التيار، الذي كان يرسم مخططات إدارة بوش، أصدرا كتاباً قبل بدء العمليات ضد العراق بعنوان “طريقنا تبدأ ببغداد” قالا فيه: “تعتبر حرب العراق اختبار تحدٍ لما بعد الحرب البارد”. بينما كتب كينيث أدلمان وهو ناشط من المحافظين الجدد وموظف في البنتاجون، عمل مع مجلس السياسة الدفاعية حتى عام 2005، افتتاحية شهيرة في صحيفة “واشنطن بوست” في فبراير 2002، قال فيها: “أؤمن بأن تدمير قوة صدّام حسين العسكرية وتحرير العراق سيكون في غاية السهولة”. وقد رأى هؤلاء في تبديل نظام بغداد، ظرفاً ملائماً للبرهان على صحة منطقهم، فأطلقوا بلاغهم القائل: “من الآن وصاعداً أمريكا هي القوة العليا على الكوكب، ولها السلطة، ومن واجبها إعادة رسم خريطة العالم بعد الحرب الباردة”.
من جانب اخر، وصف العديد من الصهاينة هذا التوجه بالقول، ان قرار احتلال العراق لم يستهدف السيطرة على نفط العراق وحماية إسرائيل فحسب وانما، يدخل ضمن مخطط كوني، يستهدف الكرة الأرضية، ويجعل من الولايات المتحدة إمبراطورية عظمى وفريدة من نوعها. اما أري شافية فقد كتب في صحيفة هآرتس الإسرائيلية في 15نيسان/ إبريل 2004: “إن حرب العراق كانت من بنات أفكار خمسة وعشرين شخصاً من المحافظين الجدد، أغلبهم من اليهود. في حين حدد أوري أفنيري في مقال تحت عنوان “بعد انقضاء الليل” المجموعة التي بادرت إلى الحرب وغزو العراق، بأنها “خليط من المتدينين المسيحيين المتطرفين والمحافظين الجدد من اليهود”. إذ تنادى هؤلاء للحرب على العراق قبل وقت طويل من هجمات سبتمبر 2001، حتى أصبحت مسألة العراق من الأفكار الثابتة لديهم.
لم ينتظر بوش الاب وادارته طويلاً للانقضاض على العراق. حيث استغل دخول الجيش العراقي الى أمارة الكويت. وما حدث كان معروفاً، بدءا بالحصار الجائر، ومروراً بمناطق الحظر الجوي على شمال العراق وجنوبه وانتهاء بالعدوان العسكري الوحشي. لكن بوش فشل في تحقيق حلمه، مثلما فشل خليفته بيل كلنتون. وشاءت الأقدار أن يصل بوش الأبن إلى البيت الأبيض ليحقق ما عجز الاسلاف عن تحقيقه. حيث توفرت له مجموعة من رموز المحافظين الجدد التي وضعت احتلال العراق على راس جدول الأولويات للسياسة الخارجية الامريكية. كان أبرزهم ديك تشيني نائب الرئيس ودونالد رامسفيلد وزير الدفاع وبول وولفيتز نائبه، وكوندا ليزارايس مسؤولة الأمن القومي وريتشارد بيرل رئيس مجلس سياسة الدفاع التابعة للبنتاغون ودوف زاكهايم الحاخام اليهودي مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية وآخرين. وقد أطلق على هذه المجموعة اسم العصابة السرية.
لتحقيق هذا الهدف الغادر، اتخذ الابن استراتيجية متوحشة لم يسبق لأية دولة عظمى الاقدام عليها. مثل من ليس معنا فهو ضدنا والحرب الاستباقية والحرب الوقائية والاحادية والاستثنائية وتغيير العقيدة النووية من دفاعية الى هجومية وخروجه من أهم المعاهدات الدولية والشروع ببناء جدار الصواريخ العابرة للقارات وتعطيل دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لتكون يده طليقة في كل اتجاه. على العكس من استراتيجية والده، التي اعتمدت على عقد المعاهدات غير المتكافئة مع دول الشرق الأوسط، وعلى الاتفاقات التجارية والسياسات المالية والبنوك الدولية. ويرى جون لوكار، وهو أشهر روائي بريطاني معاصر، ان أمريكا بهذه الاستراتيجية المتوحشة، “دخلت مرحلة جنون تاريخي اسوأ من المكارثية، واسوأ من خليج الخنازير واشد كارثية من حرب فيتنام”.
وكما استغل بوش الاب دخول الجيش للعراقي للكويت، وقام بحربه ضد العراق، استغل الابن أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر 2001، الغنية عن التعريف، واعتبرها هدية من السماء لوضع مخطط احتلال العراق موضع التنفيذ. وفعلا جرى احتلال العراق على مسمع ومرأى من الأمم المتحدة ومجلس الأمن، اللذين لم يحركا ساكناً. بل على العكس من ذلك. فمجلس الأمن بقراره 1483، اعترف بأمريكا وبريطانيا قوتي احتلال في العراق”.
بكل تأكيد مازال مشروع الاحتلال قائما، ومن يدعي بان الاحتلال انتهى لمجرد انسحاب القوات الامريكية من العراق، بعد الاتفاقية الأمنية التي وقعت بين أمريكا والعراق، فهو اما ساذج او مدلس. وهنا لا داعي للحديث عن القواعد العسكرية الامريكية في شمال العراق ووسطه وجنوبه، ولا عن مساحة السفارة الامريكية الكبيرة في بغداد، او الاف الموظفين والخبراء العسكريين، فهذا ما يتحدث به الناس يوميا، وانما يكفي مراجعة بنود الاتفاقية الأمنية سيئة الذكر، التي تم نشرها على الملا. خاصة المادة السادسة والسابعة، والتي تحول العراق بموجبها الى ولاية أمريكية بامتياز وقاعدة عسكرية متقدمة في منطقة الشرق الأوسط. حيث نصت بنود المادة السادسة، “على حق القوات الامريكية الاحتفاظ بكافة أنواع الأسلحة والمركبات والطائرات، وحقها في التحرك في كل انحاء العراق إذا وجدت ذلك ضروريا وفي أي وقت تشاء”. في حين نصت بنود المادة السابعة على ” انه يجوز لقوات الولايات المتحدة ان تضع داخل المنشآت والمساحات المتفق عليها وفي مواقع اخرى مؤقتة يتفق عليها الطرفان معدات دفاعية وتجهيزات ومواد تحتاجها قوات الولايات المتحدة”.
بالمقابل، ووفق المادة 4 من هذه الاتفاقية، بطريقة مباشرة او غير مباشرة، الاحتفاظ بمنظومات اسلحة الدمار الشامل ومنها الاسلحة الكيميائية والاسلحة النووية والاسلحة الراديولوجية والاسلحة البيولوجية والنفايات المتصلة بتلك الأسلحة”. ناهيك عن سيطرة البنك الفدرالي على واردات النفط، واستمرار وجود العراق تحت تهديد الفصل السابع، على الرغم من تحوله الى الفصل السادس. فكلا الفصلين له ذات الفاعلية من حيث الجوهر.
السؤال الكبير الذي نضعه نصب اعيننا ومطلوب الإجابة عنه هو، هل أصبح هذا المخطط الأمريكي قضاء وقدرا لا راد له؟ آم أنه لاتزال لدى الشعب العراقي القدرة من الخلاص من المحنة، التي المت بالعراق؟
بكل تأكيد يستطيع الشعب العراقي ان يهزم اعداءه، كما هزمت الشعوب الحية اعداءها في ارجاء المعمورة كافة. وعلى الرغم من فشل العراقيين في تحقيق الهدف المنشود لحد الان، الا ان ثورة تشرين العظيمة قد اكدت بوضوح القدرة على المواجهة والتغيير. خاصة وان ثوار تشرين، الذين عاهدوا الله والوطن، على طرد المحتل وعملائه، يعدون العدة لتحقيق هذا الهدف النبيل. ومن يعتقد ان ثورة تشرين انتهت لمجرد تراجعها، او ان العراق أصبح في خبر كان، لهو في ضلال مبين.
المصدر: كتابات