يعدُّ نموذج نظام الأسد السياسي نموذجاً “شميتياً” -من كارل شميت- وذلك بمعنى أنه نموذج تقوم بنيته الداخلية جوهرياً على ثنائية الصديق/العدو، فمن ليس صديقه وخادماً لمصالحه هو عدوه الصريح، لا بل يمكن القول إن عدوه السياسي هو ما يحدد هويته كنموذج. ولذلك فإن تلك الثنائية هي ثنائية (وجود أو عدم)، وليست مجرد ثنائية لغوية أو كلامية أو “سياسية”، حيث إن السياسة تبعاً للنموذج الشميتي تأخذ طابعاً أنطولوجياً يبعدها عن أن تكون فناً أو علماً أو إدارةً للشأن العام.
عندما تصبح السياسة تمثيلاً فعلياً للنفي الوجودي، بدلاً من الخصام السياسي، يصبح من غير الممكن إزاحة نظام السلطة القائم على هذا النموذج أو إصلاحه أو تغييره عبر الكلام أو “نقاش برلمان” أو تصويت أو ما شابه، بل لا يمكن تغييره إلا بالقوة، لأن وجوده بالكامل قائم على القوة وليس على البرلمان أو النقاش السياسي أو الانتخاب أو التداول السلمي للسلطة. السياسة ذاتها ضمن هذا النموذج هي حرب كما يمكن أن يقول شميت، وليست حرباً بوسائل أخرى كما أخبرنا كلاوزوفيتز، ولا امتداداً للحرب كما قال فوكو، بل هي ذاتها الحرب.
وعندما تكون السياسة هي الحرب، تصبح السيادة هي جوهر السياسة وتُستبعد بالتالي كل أشكال المشاركة من معنى السياسة. والسيادة تعني سيادة السلطة على الشعب والأرض. السلطة سيّد “مثل الإقطاعي” ولكن مع إضافة ملكية الشعب لملكية الأرض، فالشعب مِلكٌ للسلطة؛ ومن هنا بالمناسبة جاء المعنى الأصلي لسيادة الدولة الذي بدأ مع صلح ويستفاليا عام ١٦٤٨، حيث للدولة (أي السلطة التي تحكمها) الحق في قتل من يعيش على أرضها دون تدخل أي دولة أخرى (فلو كان أعضاء قبيلة أو طائفة أو ديانة يعيشون في دولتين، يبقى الحق مضموناً لكل دولة أن تفعل ما تشاء في أفرادها دون تدخل الأخرى) لأن السلطة في نظام السيادة هي من يقرر حياة أو موت الأفراد الخاضعين لها؛ وهذا ما لاحظه فوكو بدقة في كتابه “المراقبة والمعاقبة”.
ليس هناك ما يُدعى خصماً سياسياً في نظام السيادة، بل فقط أعداء وأصدقاء، ولذلك لا توجد معارضة منظّمة وعلنية و”شرعية”، بالمعنى الحديث للكلمة، في الدول الديكتاتورية، بل يوجد فقط أعداء “أعداء الوطن” أو “أعداء الأمة” أو “الجراثيم”..الخ. كما أنه لم يحصل في التاريخ أن تغيّر أو استُبدل أو سقط نظام سياسي يقوم على مفهوم السيادة من خلال الاقتراع أو النقاش البرلماني أو الخصام السياسي، فهو بنيوياً لا يسقط إلا بالقوة. قوة داخلية (انقلاب أو ثورة مسلحة) أو قوة خارجية.
عندما قامت الثورة السورية، أعلن نظام السيادة الحرب مباشرة ومنذ البداية “إذا أردتم المعركة فأهلاً وسهلاً، قال بشار في خطابه الأول”، وإن كان هذا النظام قد طبقها بتصاعد؛ بوتيرة قوية أو خفيفة حسب الوضع، أو إن كان استخدم الكيماوي أو البراميل المتفجرة، فذلك غير مهم ضمن هذا السياق، المهم هو أنه حافظ على الحرب من البداية حتى النهاية، لأن وجوده قائم؛ بشكل أكثر من واضح، على الحرب، ولا يبقى أو يزول إلا بالحرب.
الناس الطبيعيون أو العاديون في سوريا (وكل شخص طبيعي) فهموا هذا الكلام، أي أنها حرب، ولمسوه بحرارة الدم، وذاقوا طعمه مع كل طلقة قتلت “مواطناً” سورياً منذ البداية، ولأنهم فهموا الأمر، قاموا بما يفعله أي إنسان طبيعي أيضاً، أي تسلّحوا ودافعوا عن وجودهم، وباتت الثورة هي ثورة مسلحة في الأماكن التي يُضرم فيها النظام نار المعركة، وسلمية في المناطق التي يمكن فيها الصراخ بسقوط النظام دون موت. ولأنه من الطبيعي أيضاً في نظام السيادة ألا توجد معارضة منظّمة وذات حامل شعبي، فقد استفرد النظام بمخرجات الحل، حيث اعتمد تقوية أي معارضة حربية شبيهة به لتسهيل حربه ذاتها، وتمزيق أي مظاهر سلمية وتحطيمها، سواء كانت مظاهرات شعبية أو بُنى سياسية، وقد تكفّل عنفه بالذات بتلك المعادلة، أي تقوية الأشباه وإضعاف الخصوم الحقيقيين.
الإسلاميون من جهتهم، ونتيجة ضعف حسّهم السياسي بمعناه المعاصر، وعدم استبطانهم الذاتي للديمقراطية، وتشابه بنية النظام الديني بالعموم مع بنية النظام السيادي الخ. فهموا أيضاً مسألة موازين القوى مع نظام الحرب ودخلوا الحرب ذاتها بأدواتها، على قدر المستطاع، ولم يكن خطأهم أنهم أعلنوا الحرب، بل الخطأ في بنيتهم الآنتي ديمقراطية والمنفّرة لكل ما هو وطني عام. أما المعارضة العلمانية؛ بأجنحتها التي لا تعد أو تحصى، فقد تعاملت؛ في غالبيتها، مع الأمر بطريقة سياسية “بالمعنى المعاصر للسياسة” أي بوصفها خصاماً وبرامج وإثبات وجود وإقناع. والمثال الأكثر سطوعاً كان “هيئة التنسيق الوطنية”، فعندما ننظر إلى ما حصل لقائدها المخطوف/الضحية عبد العزيز الخيّر الذي تعامل مع النظام كخصم سياسي، سنرى النتيجة الأوضح والأكثر تلخيصاً لمعنى السياسة ضمن نظام السيادة، حيث قام بخطفه بعد مجيئه من زيارة “رسمية” للصين، وغيّبه عن الوجود حرفياً دون عودة.
النتيجة المنطقية لكل ما سبق ذكره فيما يخص المعارضات العلمانية هي التالية: إذا كانت المعارضة قد اعتبرت الأسد خصماً سياسياً، فهي وبكل بساطة لا تفقه شيئاً في السياسة. أما إذا تعاملت معه كعدو وجودي، فهي لم تقم بما يكفي لتدافع عن نفسها وشعبها، ولم تتحالف “حتى مع الشيطان” لتكسب المعركة ضد عدوها.
والنتيجة الأكثر مأساوية، هي أن نظام الأسد انتصر على كل أشكال المعارضة، والدليل الأكثر سطوعاً على ذلك الانتصار، هو أن العالم كلّه؛ كان وما يزال، يحتقر المعارضة، وما زال يفضّل بقاء الأسد عليها. صحيح أن ذلك التفضيل هو تفضيل براغماتي ومصلحي “أي سياسي” وليس تفضيلاً مثالياً، ولكن من قال إن العالم في أي يوم من تاريخه، كانت تحكمه أخلاق المُثل، وأن الأخلاق منفصلة بالطبيعة عن المصلحة!
سنترك لأصحاب النواح الأخلاقي المثالي القول: إن النظام الدولي غير عادل، وإن العالم ساقط أخلاقياً، وإن الدول تمضي خلف مصالحها، وإن الحق سيعود لأصحابه ولو بعد حين، فقد سمعنا وسمع آباؤنا “وأجدادنا” الكثير من هذا الكلام حول فلسطين.
إذا ما استثنينا الرئيس وزعماء أمنه، فيمكننا القول بثقة: إنه لم يكن هناك سوري واحد يفضّل الحرب على السياسة، وذلك لسبب بسيط، ليس أن الناس مسالمين بطبعهم ولا يحبون الحرب، بل لأنه إن كان يمكن الانتصار عبر التظاهر السلمي وإسقاط النظام بالصراخ واستثمار الصوت، فلماذا سيختار أي شخص سوري الحرب؟ ومن أجل ماذا؟ إذا كان ما يريده الشعب سيتحقق دون حرب، فلماذا سيقدمون على الانتحار! ومن هنا عندما يسأل أي أحمق اليوم، وهل تفضل السلاح، أو تدافع عن السلاح والثورة المسلحة؟ لا بد أن يكون الجواب عدوانياً وليس تبريرياً، لأنه لا أحد في العالم يفضل السلاح إذا كان ما يريد تحقيقه ممكناً بالكلام والصراخ والتظاهر السلمي وإسقاط “الحكومة”.
ليس للمعارضة السياسية أي حق “سياسي” بالاعتراض على تطبيع الدول العربية مع نظام الأسد، لأن المعارضة لم تقدم بديلاً أخلاقياً أو سياسياً بأي شكل من الأشكال، ولا يوجد طفل سوري صغير ولا رئيس دولة في العالم يحترمها كمعارضة، ولا يمكن لعاقل في العالم أن يراها معارضة قابلة لأن تحل مكان الأسد. أما النواح والشكوى من لا أخلاقية العالم فكان سيأخذ مصداقية لو قدّمت المعارضة مثالاً أخلاقياً بفعلها ذاته، وهل هناك ما هو أخلاقي أكثر من إعلان الفشل والاعتذار للشعب؟ علينا أن نبحث عن معارض سياسي واحد؛ حيّ أو ميّت، قال أنا فشلت، ولم يقُل الآخرون هم من فشلوا!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا