ليست قضية النازحين السوريين تفصيلاً عادياً في الأزمة السورية، بل لعلها تصبح جوهر الأزمة بعدما توقفت المعارك العسكرية وارتسمت خطوط تماس بين الاطراف المتنازعة المتنافسة على الأرض السورية، تنظيمات وألوية عسكرية طائفية، وأطرافاً اقليمية ودولية. نصف الشعب السوري تقريباً بات يعيش خارج أرضه التي أخرجته الحرب منها، وان اختلفت ظروف الهجرة والتهجير وأسبابها المباشرة.
أرّقت قضية النازحين السوريين أوروبا منذ بدايات الحرب، استشرفت دولها ما يمكن أن يشكله ملايين السوريين من عبء على الاقتصادات وعلى الإدارة وعلى النسيج الاجتماعي فأقفلت حدودها وعقدت صفقات مع تركيا لمنع تسرب النازحين عبر اليونان وبلغاريا وغيرهما.
لكن أوروبا التي تعرف كيف تستفيد من أي أزمة في مكان في العالم نظرت إلى الموضوع نظرة مصلحية أيضاً، فألمانيا مثلاً فتحت أبوابها لمئات آلاف السوريين، المختارين بعناية. أخذت الأطباء والمهندسين والتقنيين والحرفيين والعمال الماهرين، وهي كانت بحاجة اليهم. كوادر عليا كلفوا بلادهم ملايين الدولارات فخطفتهم مجاناً. ومثل ألمانيا فعلت فرنسا وسويسرا وأوستراليا وأميركا وكندا وبلجيكا وهولندا والسويد والنرويج والدنمارك… وإن بأعداد أقل. أخذ العالم حاجته وفوقها “حبة مسك” وترك الأزمة تتفاعل وتحتقن في جوار سوريا حيث العدد الأكبر من النازحين يشكل عبئاً على بلدان هي في الأصل ترزح تحت أعباء لا تستطيع القيام من تحت ثقلها.
كانت تركيا سعيدة في بداية الحرب بتزايد أعداد النازحين إليها. كانت تحصي أعدادهم وترى فيها مؤشراً الى قرب سقوط النظام، فكلما تصاعدت الحرب اعتبرت أنقرة أن فرصتها للانقضاض على سوريا أو بعضها أصبحت أقرب.
فتحت تركيا حدودها للنازحين، وتحملت كثيراً من الأعباء، لا سيما بعد ما بات اللاجئون يشكلون ما يعتبره كثير من الأتراك خطراً ديموغرافياً واجتماعياً ومنافسة على فرص العمل. ربما لم تكن تركيا تريد كل هذه الأعداد وقد فاجأتها الأزمة بتضخم حجمها. وها هي اليوم تسعى، بموالاتها ومعارضتها، إلى التخلص منهم ولا تستطيع إلى ذلك سبيلاً، فلا العالم يساعد ولا سوريا جاهزة لاستقبال النازحين ولا الوضع في مناطق الشمال السوري حيث النفوذ التركي يضمن عودة آمنة. لم تنضج الطبخة بعد. أميركا وروسيا وإيران في “الدق” وليس أردوغان وحده سيد اللعبة في الشمال السوري.
الانتخابات الرئاسية الشهر المقبل تضغط عليه وعلى غيره وهو يراهن على حل ما، أو وعد بحل أو جزء من حل، ولو كان عبر تنازل كبير في العلاقة مع الرئيس السوري بشار الأسد، وابتزاز أوروبا لم يعد فعالاً، فدولها أحكمت إغلاق حدودها من الداخل وانخفضت خطورة التهديد التركي بإطلاق موجات من المهاجرين في البر والبحر.
وإذا كانت تركيا القوية اقتصادياً، رغم بعض الهزات المتكررة، قد ناءت تحت ضغط الكلفة العالية لوجود النازحين مع أنها استفادت من وجودهم إلى الحد الأقصى كيد عاملة ماهرة وكصناعيين نقلوا مصانعهم واستثماراتهم من حلب، أكبر مدينة صناعية في سوريا الى مناطق تركية متنوعة، فإن بلدين آخرين أغرقتهما موجات النزوح في دوامة قاتلة من المعاناة، هما لبنان والأردن. البلدان صغيران ومرهقان وهشان من دون عبء النازحين السوريين فكيف مع ملايين الأفواه الإضافية، هما اللذان تحملا منذ 75 عاماً العبء الأكبر، مع سوريا، من تداعيات نكبة فلسطين باستقبال معظم اللاجئين الفلسطينيين وبتحمل اعباء الحروب المتتالية منذ 1948 وحتى اليوم، وبشكل أخص لبنان.
كلما تقادم الزمن تعقدت أزمة النازحين السوريين، لا أحد يريدهم، ولا هم حتى يريدون العودة، ما حفلات التطبيل والتزمير للعودات المنظمة إلا استعراضات، من يعودون طوعاً ما زالوا قلة. غالبية النازحين يسعون إلى الاستقرار حيث هم، أو الهجرة الى وجهة ثالثة، وبعضهم استقر فعلياً ويعمل على تكريس استقراره عملاً وعلماً وتجارة وسكناً وزواجاً، وتملكاً واستثماراً عند القادرين على التملك والاستثمار.
وبغض النظر عن الوضع السياسي والأمني والطائفي في بلدهم، فإن سوريا نفسها غير قادرة على استقبالهم. هناك من تعتبر عودتهم ممنوعة، وهناك من هم مطلوبون للخدمة العسكرية ومن هم معارضون راديكاليون ومن كانوا في تنظيمات متطرفة وإرهابية ومن ومن… فصلاً عن أن أرض سوريا الواسعة باتت تضيق برزق 12 مليون مقيم بعدما دمرت الحرب المصانع وخربت الأراضي الزراعية وقطعت الأوصال وجعلت موارد البلاد النفطية عرضة للنهب، فكيف إذا عاد مثلهم من النازحين. ليس خافياً على أحد أن سوريا اليوم تعاني الأمرّين وأن السوريين يكابدون حتى لا يموتوا جوعاً، وأن العودة في هذه الظروف مجتمعة تحتاج إلى أكثر من رغبة نازح بالرجوع إلى وطنه وبيته – إذا كان ما زال قائماً – هذه أزمة عالمية كبرى العالم كله مسؤول عنها وعن حلها.
بالتأكيد ليس لبنان قادراً على حل أزمة النازحين المرهقة وهو يتحمل العبء الأكبر من تبعات الحرب السورية، وهذا موضوع بحث مستقل.
المصدر: النهار العربي