انطلقَت في السابق موجاتٌ احتجاجية عديدة ضد نظام الحكم الديني الفاسد في إيران. ولكن هذه الموجة الأخيرة مختلفة، فهي حركةٌ لاستعادة الحياة. ومهما حدَث، لا عودة إلى الوراء. هذا ما يشرحه في هذا المقال عالم الاجتماع الإيراني آصف بيات، الأستاذ في مركز كاثرين وبروس باستيان للدراسات العالمية وعبر الوطنية في جامعة إلينوي، أوربانا شامبين. نُشر المقال في Journal of Democracy مطلع شهر آذار (مارس) الجاري.
تسبّبَ مقتل مهسا أميني في 16 أيلول (سبتمبر) 2022، أثناء احتجازها لدى الشرطة لعدَمِ ارتدائها الحجاب بطريقة «سليمة»، باشتعال أشدّ الاضطرابات السياسية التي واجهها النظام الإسلامي في إيران حِدّةً واستمراريّة على الإطلاق. فقد اندلعَت على الفور إثر الحادثة موجاتٌ احتجاجية قادتها النساء في الغالب، دَفعت نحو مليوني شخص إلى شوارع مئة وستين مدينة وبلدة صغيرة، مما ألهمَ كمّاً استثنائياً من الدعم الدولي.
حطّمَ هاشتاج #مهسا_أميني على تويتر رقماً قياسياً بمشاركته في 248 مليون تغريدة؛ وصوّتَت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في 24 تشرين الثاني (نوفمبر)، على فتح تحقيق في القمع الشرس الذي يمارسه النظام ضد الشعب الإيراني، والذي أودى حتى الآن بحياة خمسمئة شخص، واعتقال الآلاف، ومحاكمة ألفٍ ومئةِ مُحتج ومُحتجّة. على الأرجح، سيُبْطئ قمعُ النظام والإرهاقُ الذي يعتري المعارضين سيرَ الاحتجاجات، ولكن ليس من المُرجَّح على الإطلاق أن تنتهي الانتفاضة، فالحياة السياسية في إيران قد انطلقت في مسار مجهول لا رجعةَ فيه.
كيف نفهم هذا الحدَث السياسي الاستثنائي؟ إنّ ما يحدث في إيران ليس «ثورةً نسوية» تماماً، ولا ثورةً تخصُّ الجيل «زِد» وحده، ولا هي محض احتجاجٍ على الحجاب الإلزامي. إنها حركةٌ لاستعادة الحياة، ونضالٌ لتحرير الذات الحُرّة والكريمة من الاستعمار الداخليّ. ولأنَّ النساء لطالما كُنّ الهدف الأساسي لهذا الاستعمار الداخلي، فقد أصبحنَ البطلات الرئيسيات في حركة التحرير هذه.
النظام وعِلّاته
منذ قيامها، عام 1979، والجمهورية الإسلامية الإيرانية ساحةُ معترك بين الإسلاميين المتشدّدين، الذين يريدون فرضَ الحكم الديني من خلال ولاية الفقيه، والجمهوريين الذين يؤمنون بالإرادة الشعبية ويتشبّثون بسيادة الدستور. تمخّضت عن هذه المعركة الإيديولوجية عقودٌ من الصراعات السياسية والثقافية داخل مؤسسات الدولة، وأثناء الانتخابات، وفي الشوارع، وخلال الحياة اليومية. وصمّم الإسلاميون المتشدّدون، في المؤسسات غير المنتخبة التابعة لولاية الفقيه، على فرض «القيم الإلهية» في جميع المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، فلم تتمكن إلا المقاومة الشعبية من أسفل، والانتصاراتُ الانتخابية للإصلاحيين، من كبحِ حملتهم لإخضاع الدولة والمجتمع والثقافة بشكلٍ كامل.
ولعقدَين، بعد تسعينيات القرن الماضي، منحَت الانتخابات معظم الإيرانيين أملاً في دمَقرَطة المسارِ الإصلاحيّ للنظام بشكل تدريجي؛ اعتُبر فوز الإصلاحيّ المعتدل محمد خاتمي في الانتخابات الرئاسية عام 1997 بارقةَ أمل، جاءت بعد موجة انفتاح اجتماعي وثقافي ملحوظ. لكن المتشددين رأوا في المشروع الإصلاحي تهديداً وجودياً لنظام الملالي، فهاجموه بضراوة، ونظّموا حملات تخريبية استهدفت حكومة خاتمي، وقَمعوا الحركة الطلّابية، وأغلقوا الصحف الناقدة، واحتجزوا النشطاء والناشطات. وبعد 2005، استمروا في حظر الأحزاب الإصلاحية، وتلاعبوا في الاقتراعات، ومَنعوا المرشحين المنافسين من المشاركة في الانتخابات، فكانت الحركة الخضراء – التي قامت احتجاجاً على الغشّ الانتخابي ضد المرشح الإصلاحي مير حسين موسوي في انتخابات 2009 – بمثابة الردّ الشعبيّ على ذلك الهجوم.
شكّلَت الحركة الخضراء، والانتفاضات التي عمّت البلاد إثرها بين عامَي 2017-2019 جرّاء ما تعانيه إيران من علل اجتماعية واقتصادية، وما تواجهه من طغيان الحاكم، تحديّاً حقيقياً للنظام الإسلاميّ – لكنها لم تستطع تغييره. ولم تُسفر الانتفاضات عن ثورة، بل عن تخوّفٍ من الثورة، تفاقمَ إثرَ اندلاع ثوراتٍ أُخرى ساهمَت إيران بقمعها، في سوريا ولبنان والعراق. وعلى عكس التوقعات، لمْ يسارع النظام الإسلامي لإعادة إنتاج نفسه في مواجهة تلك التحديات، عبر سلسلة من الإصلاحات التي تهدف إلى استعادة الهَيمنة، بل أحكمَ المتشدّدون قبضتَهم على السلطة السياسية، كي يَضمنوا سيطرتهم المطلقة بعد وفاة المرشد الأعلى. وهكذا، بمجرد توَّليهم الحكم في 2021، واستحواذهم على البرلمان في 2022 بعد انتخابات مزوّرة (وتحديداً، من خلال النقضِ التعسفي لمرشَّحين منافسين يتمتعون بالمصداقية)، عزمَ المتشدّدون على إخضاع الشعب المِقدام مرةً أخرى. لم يكن بسطُ سلطة «شرطة الأخلاق» في الشوارع والمؤسسات لفرض الارتداء «السليم» للحجاب سوى إجراء واحد، ولكنه كان الإجراءَ الذي أطلق العنان لانتفاضةٍ وطنيةٍ تحتلُّ النساء فيها موقع المركز.
لم تنهض النساء فجأةً ليقُدْن ثورةً بعد وفاة مهسا أميني، إنما كان تحركهنّ تتويجاً لسنوات من النضال المستمر ضد كراهية النساء التي مأسَسها النظام الإيراني بعد الثورة. فعندما ألغى النظامُ قوانين حماية الأسرة، الليبرالية نسبياً، عام 1967، فقدت النساء الإيرانيات بين عشيّة وضحاها حقهنّ في طلب الطلاق، وحضانة الأطفال، وتولّي منصب القاضي، والسفر إلى الخارج دون إذن وليّ الأمر. عادَ تعددُ الزوجات، وفُرض الفصل بين الجنسَين، وأُجبِرت جميع النساء على ارتداء الحجاب في الأماكن العامة. كما أَجبَرت الرقابة الاجتماعية والمحاصصةُ التمييزية في شواغر التعليم والتوظيف الكثيرَ من النساء على البقاء في المنزل، أو التقاعد مبكراً، أو العمل في شركات عائلية أو غير رسمية.
دعمَت النظامَ شريحةٌ من النساء المسلمات في إيران، ولكنّ أُخرياتٍ كثيرات قاومنَ، فنَزلنَ إلى الشوارع للاحتجاج على الحجاب الإلزامي، ونظّمنَ حملات جماعية، وضغطنَ على رجال الدين «المتحررين» كي يعيدوا تفسير النصوص الدينية التي تخصُّ المرأة. ولكن عندما وسَّع النظام مجالَ قَمعِه، لجأت النساء الإيرانيات إلى «فن الوجود»، وأعني به القدرة على تأكيد الإرادة الجَمعيّة رغم كل الصعاب، عبر التحايل على القيود، واستخدام ما هو موجود، واكتشاف مساحاتٍ جديدة يمكن من خلالها إيصالُ أصواتهنّ، أو نقل صورهنّ ومشاعرهنّ وأفكارهنّ. بعبارةٍ أخرى، رفضت النساء مغادرة الحياة العامة، ليس من خلال الاحتجاجات الجماعية، وإنما من خلال أشياء عادية مثل متابعة التعليم العالي، والعمل خارج المنزل، والانخراط في الفنون أو الموسيقى أو صناعة الأفلام، وممارسة الرياضة. ولم تمنع مشقّة التعرّق تحت الحجاب والثوب الطويل الكثيرَ من النساء من الركض أو ركوب الدراجات أو لعب كرة السلة.
في المحاكم، ناضلت النساء ضد الأحكام التمييزية في مسائل الطلاق، وحضانة الأطفال، والميراث، والعمل، والوصول إلى الأماكن العامة. «لماذا يتعيّن علينا استخراج إذنٍ من شرطة الأخلاق للحصول على غرفةٍ في فندق، بينما لا يتعيّن على الرجال ذلك؟» كتبَت امرأة غاضبة لمجلّة زَنان النسائية عام 1988. بعدها، أخذَت أفواجٌ من النساء غير المتزوجات بمغادرة بيوت عائلاتهنّ للعيش بمفردهنّ، وبحلول 2010 أصبح لدى واحدةٍ من كل ثلاثة نساء تتراوح أعمارهن بين 20-35 منزلٌ خاص. ودخلَت الكثيرات منهن في ما أصبح يُعرف باسم «الزواج الأبيض»، أي العيشَ مع شركاء من دون الزواج بشكلٍ رسمي. هذه الرغبات والمطالب التي قد تبدو عاديّة اعتُبرت خطواتٍ لإعادة تحديدِ مكان المرأة في الجمهورية الإسلامية. وصارت كل خطوةٍ للأمام ركيزةً لإحراز المزيد من التقدّم على النظام الأبويّ. يمكن لهذا الأثر أن يتراكم.
رغم أن الكثير من النساء، بمن فيهنّ والدتي، قد ارتدينَ الحجاب طواعيةً، إلا أنه مثَّلَ لأُخريات كثيراتٍ وعظَاً قسرياً كان لا بد من تقويضه. لذلك أخذنَ يُرجعن حجابهنّ للوراء، لكي يكشِفنَ عن شَعرهنّ قليلاً في الأماكن العامة. ومع مرور السنوات، استمر الحجاب بالرجوع إلى الوراء، حتى صار يوضع على الكتفَين في النهاية. شعرَ المسؤولون مراراً بالعجز حيال انتشار الحجاب «غير السليم» بين الملايين من النساء الإيرانيّات، فمرَّروا عقوبة السجن الأولية التي تتراوح بين عشرة أيام وشهرَين لمخالفات ارتداء الحجاب، مما أدى إلى إشعال عقودٍ من حروب الشوارع اليومية بين النساء الجريئات وجِهات إنفاذ الأخلاق مثل سارَالله (غضب الله)، وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الإيرانية، وإداره أماكن (إدارة الأماكن العامة). ووفقاً لتقرير شرطةٍ صدرَ خلال الحملة المناهضة لمخالفات ارتداء الحجاب في 2013، تعرّضت حوالي 3.6 مليون امرأة إلى التوقيف، والإهانة في الشارع، وتوجيه التهم الرسمية بحقهن. من بينهنّ توقيف حوالي 180,000 امرأة. مع ذلك، لم تَلِن عريكة النساء وطالبنَ بإلغاء الحجاب الإلزاميّ. وهكذا، على مر السنوات، ومن خلال النضالات اليومية، تمكّنت النساء من إرساء معاييرَ جديدة للسلوك في الحياة الخاصة والعامة، وعلَّمْنها لأطفالهنّ كي يحملوا الشُّعلة قُدماً. لكن المتشدّدين يريدون إيقاف هذه المسيرة الآن.
هذه قصةُ «لا-حركةِ» النساء في إيران، قصةُ الأعمال الجماعية والترابطية التي قام بها أفرادٌ لا ينتهجون سياسة الإنصاف، ولا تهدف أفعالهن المباشرة إلى تحدي السلطات عن عمد؛ «لا-حركة» تصبو لإرساء معاييرَ وممارساتٍ بديلة تضمنُ الحياة الكريمة للنساء الإيرانيات بعد حرمانهنَّ منها لزمنٍ طويل. إنها عملية بطيئة، ولكنّها ثابتة، تهدف مطالِبها التدريجية إلى تقويض الهَيمنة الأبويّة على السياسة. والآن، بعد مقتل مهسا أميني التي كانت جزءاً من هذه «اللا-حركة»، اندلَعت اضطراباتٌ سياسية استثنائية أصبحت فيها المرأةُ وكرامتها، بل والكرامة الإنسانية جمعاء، نقطةَ حشدٍ والتقاء.
استعادة الحياة
لم تَعُد الانتفاضة اليوم محصورةً بمسألة الحجاب الإلزامي وحقوق المرأة، بل توسّعت لتشملَ اهتماماتٍ ودوائرَ أوسع، فشاركَ فيها الشباب والطلاب والمعلمون، والعائلات والموظفون من الطبقة الوسطى، وسكان الأرياف والمجتمعات الفقيرة، والأقليات الدينية والعرقية (من أكرادٍ، وعرب، وأذريين، وبلوش)، ممن شعروا جميعاً، بلا شك، أنهم مواطنون ومواطنات من الدرجة الثانية، وتَعاطفوا مع شعار «امرأة، حياة، حرية»، وصارت مهسا أميني تجسِّدُ بالنسبة إليهم معاناتهم وشبابهم المسروق، وشعورهم المستمر بانعدام الأمن.
تُخبرنا آلاف التغريدات التي كُتبت حول أسباب احتجاج الشعب الإيراني برغبةٍ شائعةٍ في عيش حياةٍ طبيعية ومتواضعة، لطالما أنكَرها عليهم نظام الملالي وعسكره. قد يبدو النظامُ الحاكم بالنسبة إلى المُنشقّين من أصحاب هذا الرأي على هيئة كيان استعماري، له أفكاره ومشاعره وأسلوب حُكمه الخاص، ولا تربطه بأغلبية السكان ولا بوجهات نظرهم أيّة صلة؛ كيانٌ اغتصب البلاد ومواردها، وما يزال يقهر الشعب ويقمع طُرقهم الخاصة في العيش. «امرأة، حياة، حرية» هي حركة تحرر من هذا الاستعمار الداخلي.
لكن نسويةَ هذه الحركة ليست معاديةً للرجال، فهيَ تحتضن المقهورين والمضطهَدين. ولا يمكن اختزال أهدافها باستعادة السيطرة على الجسد ومحاربة الحجاب القسري، فالكثير من النساء المحجبات والتقليديات يتعاطَفن أيضاً مع شعار «امرأة، حياة، حرية». إن نسويَّةَ هذه الحركة هي نسوية معادية للنظام، تتحدى تَحكُّمه الممنهج بالحياة اليومية وبحياة النساء. هذه النسوية تهدف إلى تحرير جميع المقهورين، لا النساء فقط، إنما الرجال أيضاً، وأبناء الأقليات والجماعات المهمّشة الذين تعرضوا للإهمال والتعجيز الاقتصادي. تشير عبارة «امرأة، حياة، حرية» إذن، إلى نقلة نوعية في وعي الذات الإيرانية لنفسها، وإدراكها بأن تحرير المرأة قد يُفسح المجالَ لتحرير جميع المضطهدين والمهمشين. وذلك يجعل حركة «امرأة، حياة، حرية» حركةً استثنائية.
حركة أم لحظة؟
استثنائية، نعَم، لكن هل هي حركة أم لحظةٌ عابرة؟ لقد شهدت إيران بعد الثورة الإسلامية موجات احتجاجية عديدة، لكن ما يحدث الآن يبدو مختلفاً بشكل جوهري. عندما قامت الحركة الخضراء في 2009، اقتصرت مطالبها على إرساء الديمقراطية وإخضاع الحكومة للمساءلة، وتألّف المشاركون فيها إلى حدٍّ كبير من أبناء وبنات الطبقة الوسطى الحضرية، وغيرهم من المواطنين والمواطنات الساخطين. وبعد نحو عقدٍ من الزمن، خلال احتجاجات 2017، خرجَ عشرات الآلاف من العاملين، والطلاب، والنساء، والمزارعين، والفقراءَ من الطبقة الوسطى، إلى شوارعِ أكثر من 85 مدينة لعشرة أيام، قبل أن تردّ الحكومة على التمرّد بقبضةٍ من حديد. اعتبر بعض المراقبين تلك الأحداث مقدمة للثورة، ولكنها لم تكن كذلك. ورغم ترابطها وتزامنها إلا أنها كانت احتجاجاتٍ معنيّة في الغالبِ بمطالبَ قطاعية محددة، مثل تأخر الأجور، والجفاف، وفقدان المدّخرات، وقلّة فرص العمل للشباب؛ وبذلك، لم تكن عملاً جماعياً واحداً لحركةٍ موحدة، بل جملة من الأفعال المترابطة نتيجةَ مجموعة من المخاوف المتوازية، ونوعاً من الاحتجاجات المتفرّقة والمتزامنة التي ما كانت لتحدث لولا التقنيات الرقمية الحديثة.
شهدَت انتفاضة لاحقة أكبر، قامت في كانون الأول (ديسمبر) 2019 بسبب ارتفاع أسعار البنزين بنسبة 200 بالمئة، قدراً من العمل الجماعي، حيث أظهرَت مجموعات احتجاجية مختلفة قدراً كبيراً من التلاحم، لا سيما فقراء الحضر، والفقراء من الطبقة المتوسطة، والمتعلمون العاطلون عن العمل، والعاطلون جزئياً. ولم تقتصر شكاويهم على تكاليف المعيشة فحسب، بل واجهت أيضاً غيابَ أيّ أفقٍ مستقبليّ. كانت أغلبية المشاركين من أبناء وبنات المناطق المهمشة في المدن والمحافظات، ممن اتّبعوا أساليبَ راديكالية؛ مثل إشعال النار في البنوك والمكاتب الحكومية، وترديد شعاراتٍ مناهضة للنظام.
أما الانتفاضة الحالية، فقد ذهبت أبعد من ذلك بكثير، من حيث الرسالة والحجم والتركيب. واتخذت طابعاً وديناميّاتٍ مختلفة بشكلٍ نوعيّ. جمعت هذه الانتفاضة أبناء وبنات الطبقة الوسطى الحضرية، وفقراءَ الطبقةِ الوسطى، وسكان العشوائيات، والجماعات العرقية المختلفة (بمن فيهم الأكراد، والفارسيون، واللورين، والأذريون الأتراك، والبلوش) جميعاً تحت شعار «المرأة، الحياة، الحرية». أعلنَ هذا الشعار عن مطلبٍ جماعيٍّ واحد، يوحّد كلَّ المجموعات الاجتماعية المتفرّقة، ويدفعَهم إلى عدم الاكتفاء بالتعاطف والمشاركة، بل البدء بالعمل أيضاً. ومع ظهور «الشعب» بهذه الطريقة، كجماعةٍ عظمى تذوب فيها مؤقتاً كلّ اختلافات الطبقة والجنس والعرق والدين لصالحِ الخير الأعمّ، اتخذت الانتفاضة بُعداً ثورياً. وما عاد يكفي إلغاء شرطة الآداب والحجاب الإلزامي. ولأول مرة، دعَت حركةٌ احتجاجية على مستوى البلاد إلى تغيير نظام الحكم القائم، وإجراء تحوّل اجتماعي واقتصادي هيكلي كامل.
هل يعني ذلك أن إيران على شفا ثورةٍ أخرى؟ ما تزال إيران في الوقت الحالي بعيدةً كلّ البعد عن «الوضع الثوري»، أي عن وجود «سلطةٍ مزدوجة»، تواجه فيها قوةٌ ثوريةٌ منظَمّةٌ يدعمها الملايين حكومةً متداعية وقواتٍ أمنيةً منقسمة. مع ذلك، فإن ما نشهده اليومَ هو صعود حركة ثورية لها لغتها وهويتها وذخيرتها الاحتجاجية، قد تنجح في وضع المجتمع الإيراني على «المسار الثوري».
في الأشهر الثلاثة الأولى بعد وفاة مهسا أميني، نفّذَ مليونا إيرانيّ من جميع مناحي الحياة نحو 1200 حركة احتجاجية في أكثر من 160 مدينة وبلدة صغيرة. أدَّت خُطَبُ الجمعة في محافظتَي سيستان وبلوشستان الفقيرتَين، بالإضافة إلى جنازات ضحايا النظام في كردستان، إلى خروج أكثر الحشودِ تنوعاً إلى شوارع إيران. ونَظَّمت طالبات الجامعات والمدارس الثانوية الاعتصامات، وتحدَّين الحجاب الإلزامي والفصل بين الجنسين، وقاوَمنَ ببسالة. وأعرب المحامون، والأساتذة، والمعلّمون، والأطباء، والفنانون، والرياضيون، دعمهم العام للانتفاضة، بل وانضموا إليها أحياناً. أما في المدن والبلدات الصغيرة، فقد زيَّنت الشعارات السياسية جدرانَ المباني قبل أن يُعيد وكلاء البلدية طلاءها. وصدحت هتافات المساء من الشرفات وأسطحِ المنازل في الأحياء السكنية، فرَجع صداها في سماء المدن المظلمة.
أحبطَت الاحتجاجات قوات الأمن لبعض الوقت، فقد جمعت بين المواجهات الشوارعية وأساليب حرب العصابات: باندلاعاتها المفاجئة والمتزامنة في مظاهراتٍ مسائية داخل شتى الأحياء الحضرية، ومعاودتها الاختفاءَ والظهورَ بسرعة خاطفة. طغَت شجاعة المتمردات الشابات على قوات النظام. وأظهرَ مقطع فيديو أحد رجال الأمن وهو يقف مشدوهاً، من المتظاهرين الشباب في الشوارع الخلفية الذين «ما عادوا يخافون منا»، ومن الجيران الذين «هاجمونا بوابلٍ من الحجارة والكراسي والمقاعد وأواني الزهور» أو رموا أي شيء ثقيل من النوافذ والشرفات عليهم.
دفع الوجود غير المتكافئ للنساء الشابات وطلاب الجامعات والمدارس الثانوية في شوارع الانتفاضة، إلى تأويلها كثورةٍ تخصُّ الجيل «زِد» وحده على نظامٍ عفى عليه الزمن. يتجاهل هذا التأويلُ مظاهرَ المعارضةِ لدى الأجيال الأكبر سناً، ممن قاموا بتربية وتسييس شُبّان وشابات هذا الجيل، ولطالما شاركوهم نفسَ المشاعر. وجد استطلاعٌ حكوميٌّ سُرِّب في تشرين الثاني 2022 أن 84 بالمئة من الإيرانيين لديهم وجهةُ نظرٍ إيجابية حيال الانتفاضة. ولو سمحَ النظام بقيام الاحتجاجات السلمية، لربما رأينا المزيد من كبار السن في الشوارع، لكنه أبى أن يفعل ذلك. يرتبط الحضور الاستثنائي للشباب والشابات في هذه الاحتجاجات بإمكانياتهم الجاهزة، أي امتلاكهم الطاقة، وخفة الحركة، والتعليم، والتطلّع إلى مستقبلٍ أفضل، والرغبةَ بالتحرّر النسبيّ من المسؤوليات الأسرية، مما يجعلهم أكثر ميلاً إلى سياسة الشارع والقيام بأنشطة راديكالية. لكن الشباب بمفردهم لا يمكنهم إحداث تحوّل سياسي. ذلك يتحقق فقط بانخراط الناس العاديين، من آباء وأطفال وعمّال وأصحاب متاجر ومهنيين، إلخ. لكي تتغلغل الاحتجاجات المذهلة حقاً في الحياة الاجتماعية في إيران.
صحيحٌ أن بعض العمّال انضموا إلى الاحتجاجات من خلال الإضرابات العمّالية، إلا أن مواجهةً عمّاليةً واسعةَ النطاق لم تتحقق بعد. وقد لا يكون ذلك سهلاً، فعملياتُ إعادة الهيكلة النيوليبرالية التي تمّت خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أدّت إلى تفتّت الطبقة العاملة، وتقويض الأمن الوظيفي للعمال (بما في ذلك قطاع النفط)، وتقليص قدرٍ كبيرٍ من قوتهم الجماعية. وبدلاً منهم، ظهرَ المعلمون كقوة معارضة مُحتملة تتمتّع بدرجة جيدة من الخبرة في التنظيم والاحتجاج. وفي 14 شباط (فبراير) 2023، أصدرت عشرون جمعيةً أهليةً ومهنية بقيادة نقابة المعلمين «ميثاقاً مشتركاً للحد الأدنى من المطالب» يشمَلُ إطلاق سراح جميع السجناء السياسيين، وضمان حرية التعبير والتجمّع، وإلغاء عقوبة الإعدام، و«المساواة الكاملة بين الجنسين». وانضمّ أصحاب المتاجر وتُجار الأسواق إلى المعارضة، بل وفاجأوا السلطات عندما شارك ما لا يقل عن 70 بالمئة منهم بإضرابٍ في طهران و21 محافظة أخرى يوم 15 تشرين الثاني 2022، إحياءً لذكرى انتفاضة 2019. بالطبع، زادت قوّات الأمن من وتيرة تهديداتها بإغلاق الأعمال التجارية للمشاركين.
ردُّ النظام
إن النظام الإيراني يُدرك ويخشى قوة التيار الاجتماعي السائد، وقد بذل قصارى جهده كي يمنع قيامَ أيّة تجمعات جماهيرية على مستوى مظاهرات ميدان التحرير في القاهرة أول الربيع العربي، عندما تمكّن المتظاهرون من فهم ضخامة قوتهم الاجتماعية واستخدموها في مواجهة حكامهم. استغلّ متظاهرو الربيع العربي كافة الموارد الثقافية المتاحة لديهم، وأبرزها الطقوس الدينية ومواكبَ الجنازات، للحفاظ على زخم الاحتجاجات، وكانت أهمّها صلاة الجمعة، بمواعيدها ومواقعها المحدَّدة، التي ساعدت على انطلاق أكبر التجمّعات والمظاهرات آنذاك. لكن صلاة الجمعة ليست جزءاً من الثقافة اليومية لدى المسلمين الشيعة في إيران (على عكس البلوش السنّة)، ومعظم الإيرانيين لا يصلّون وقت الظهر، سواء يوم الجمعة أو في أيّ يومٍ آخر، إلا ما ندَر. كذلك تُعتبر خُطب الجمعة في إيران طقساً استحدَثه النظام الملالي لكي يكون مسرحاً لسلطة النظام. لذا، تعيّن على المتظاهرين والمتظاهرات في إيران أن يلجأوا إلى مساحاتٍ ثقافية ودينية أخرى، مثل الجنازات أو العزاءات أو الطقوس الدينية في شهرَي محرم ورمضان.
لن يتوانى نظام الملالي عن حظر حتى أكثر التقاليد الثقافية والدينية قُدسية في حال اعتبرها تهديداً له. خلال الحركة الخضراء في 2009، حظرَ المتشدّدون إقامة الجنازات ومراسم الحداد، وحظرَت السلطات بعض الشعائر الشيعية في بعض الحالات. هذا ليس مستغرباً، فآية الله الخميني، الأب المؤسس للجمهورية الإسلامية، هو من أصدر مرسوماً يمنح «السلطة المطلقة» للفقيه بأن يتجاهل أي مبدأ أو قانون، بما في ذلك الدستور أو الالتزامات الدينية مثل الصلوات اليومية، «لمصلحة الدولة». لن يتردد الحُكام الدينيون بمنع أي شعائر ثقافية أو دينية، بالضبط لأنهم يدّعون استحقاقها، ولا بالتضحية بأي قيم وممارسات يستمدون منها شرعيتهم، لأنهم يعتبرون أنفسهم الهيئة الشرعية الوحيدة القادرة على تحديد ما هو مقدّس ومدّنس، وما هو صوابٌ وخطأ.
هذه المظاهرات الجماعية هائلة النطاق إنما تعلنُ، بالنسبة لعملاء النظام، عن اندلاع الثورة في إيران. قد لا يرغبون بسماع ندائها، ولكنهم يشعرون بها بلا شك، فالهواء يحمل طنينها وهمسَها، ويمكن سماع صوتها والإحساس بها داخل المنازل، وفي التجمعات الخاصة، وعرض الشوارع. كما يمكن رؤيتها وسماعها في القدر الكبير من الأعمال الفنية والأدبية والشعرية والموسيقية التي أنتجتها الانتفاضة؛ كما في النقاشات الإعلامية والفكرية حول معنى اللحظة الحالية، وأشكال التنظيم والاستراتيجية، ومسألة العنف، والطريق إلى الأمام. أما النظام، حتى الآن، فاكتفى بالنفي والسخرية والغضب والمراضاة وممارسة العنف على نطاقٍ واسع.
وألصقَت صحيفة كيهان، المقرّبة من مكتب المرشد الأعلى، بالمتظاهرين والمتظاهرات تهمة «النزع الإجباري للحجاب»، وحذّرت من أن «الثورة الإسلامية لن تزول… لذا اغضبوا وموتوا من غضبكم»، وأصدرَ قادة قوات الأمن الرئيسية؛ الجيش، والحرس الثوري الإسلامي، ومليشيا البَسيج، وجهاز الشرطة في 5 تشرين الأول (أكتوبر) 2022، بياناً مشتركاً أعلنوا فيه ولاءهم للمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي. وأقرّ البرلمان المتشدد في 9 تشرين الأول 2022 على قانون طارئ «يعدّل» رواتب موظفي الخدمة المدنية، بما فيهم 700 ألف متقاعدٍ أثبتوا خلال موجة احتجاجاتٍ قامت آخر 2017 أنهم قوةٌ معتبرة. من المقرر أن يحصل المعلمون والمعلمات المعيّنون حديثاً على عقود عملٍ أكثر أماناً، وأن يحصل عُمّال قصب السكر على أجورهم غير المدفوعة، وأن يزيد دعم الاحتياجات الأساسية للعائلات الفقيرة بنسبة 50 بالمئة. أثناء هذا كله، أكّد رئيس مجلس النواب محمد باقر قاليباف أنه مستعد لتنفيذ «أيّة إصلاحاتٍ من أجل المصلحة العامة» إذا تخلّى المتظاهرون عن مطلب «تغيير النظام».
تزامنَت محاولة استرضاء الشعب من خلال «تعديل الرواتب» والتدابير المالية المشابهة، مع أعمال القمع الوحشي بحق المتظاهرين والمتظاهرات، شملت الضرب، والقتل، والاعتقال الجماعي، والتعذيب، والإعدام، والمراقبة بطائرات من دون طيّار، ووضع علاماتٍ على منازل المنشقين وأماكن عملهم. وبحسب ما ورد، فقد خلّف قمع النظام التعسفي 525 قتيلاً، من بينهم 71 قاصراً وقاصرة، و 1100 شخصاً قيد المحاكمة، وحوالي 30 ألف معتقلٍ ومعتقلة. وفقدت قوات الأمن وميليشيا البَسيج 68 عنصراً منها. ما يزال النظام يلقي باللوم على «المشاغبين» في إحداث الفوضى، وعلى الإنترنت في تضليل الشباب، والحكومات الغربية في التآمر للإطاحة بالحكومة.
مسارٌ ثوري
من المرجّح أن يؤدي قمع النظام وتوقُّف المحتجين إلى تراجع وتيرة الاحتجاجات. لكن ذلك لا يعني نهاية الحركة، بل يعني نهاية هذه الدورة الاحتجاجية بالذات، قبل أن تُشعِلَ شرارةٌ ما دورة أُخرى. لقد شهدنا اشتعال هذه الدورات المتلاحقة منذ عام 2017 على الأقل. ما يميز هذه المرّة هو أنها وضعت المجتمع الإيراني على «مسارٍ ثوري». ذلك يعني أن جزءاً كبيراً من المجتمع الإيراني ما عاد يتوقف عن التفكير، والتخيل، والتحدث، والعمل من أجل مستقبل مختلف. وصارَ صدى «الثورة» يشكِّل أحكام أغلبية الناس، بالإضافة إلى الاعتقاد المتنامي بأنهم (أي النظام) «سوف يذهبون». لذا فإن أي مشكلةٍ أو أزمة، مثل نقص المياه على سبيل المثال، أصبحت تُعتبر فشلاً للنظام، وأي تعبير عن السخط، على تأخر الأجور مثلاً، صار يعتبر عملاً ثورياً. إذن، فالوضع القائم مؤقت، والتغيير آتٍ لا محالة، ويمكن لفترات الهدوء والنزاع المتقطعة أن تتطور إلى حالة ثورية. لقد شهدنا مثل هذا المسار الثوري من قبل؛ في بولندا على سبيل المثال، عندما أُعلِنت الأحكام العرفية، وحُظرت حركة التضامن في 1982 إلى أن وافق النظام العسكري على الانتقال إلى نظام جديد في 1988. كذلك شهدَ السودان حالة مماثلة، عندما أعلن الديكتاتور عمر البشير حالة الطوارئ وحلَّ الحكومتَين الوطنية والإقليمية في شباط 2019، قبل أن يوقّع الجيشُ مع قوى الحرية والتغيير المعارضة اتفاقاً على الانتقال إلى حكمٍ ديمقراطي مدني بعد سبعة أشهر.
الإصلاحُ السياسي الجذري، والتحسين الحقيقيّ لمعيشة الناس، هما الشيئان الوحيدان اللذان يمكنهما أن يعطّلا المسار الثوري: إجراء استفتاءٍ حول شكل الحكومة، على سبيل المثال، أو تعديل الدستور ليصبح أكثر شمولاً، أو تنفيذ برامجَ اجتماعية جادة. خلافاً لذلك، ينبغي أن نتوقع إما استمرارَ حالة الأزمة الدائمة وعدم القدرة على الحكم، أو تحركاً محتملاً نحو وضعٍ ثوري. لكنّ الوضع الثوري ما يزال أمراً بعيد المنال مؤقتاً عن حركة «المرأة، الحياة، الحرية»، لأنه ما يزال عليها أن تُثبت نفسها بديلاً عملياً وموثوقاً للنظام الحالي. يتطلب البديل العملي والموثوق وجود منظمة قيادية ورؤية استراتيجية تستطيع كسب الثقة الشعبية؛ كما يتطلب قوة جماعية، وكياناً ملموساً يستطيع تجسيد تحالف مختلف المجموعات والدوائر المعارضة، وصياغة المستقبل الذي يريدون تحقيقه.
يوجد بالطبع قادةٌ محليون، ومجموعاتٌ تعاونية تقوم بإيصال الأفكار وتنسيق الإجراءات في الأحياء والجامعات وأماكن العمل، وبفضل طابعهم الأفقي والمتشابك والمرن، فإن عملياتهم أقل عرضةً لقمع النظام من أي منظمة حراكية تقليدية. هذا النشاط اللامركزي والتشابكيّ أكثر مرونة، ويسمح بإيصال أصوات وأفكار أكثر تنوعاً، كما يمكنه استخدام الوسائط الرقمية لتعبئة حشودٍ أكبر في وقتٍ أقل. لكن الحركات اللامركزية والتشابكية من هذا النوع، قد تعاني من ضعفٍ في الالتزام، وجموحٍ في اتخاذ القرارات، وهشاشةٍ في البنية الهيكلية، فمثلاً، من سيتعامل مع حالات العنف التي قد تُرتكب باسم الحركة؟ لذلك تميل الحركات الثورية إلى تبني هيكل خليط، يجمع بين النشاط اللامركزي والجسم المركزي. وحركة «المرأة، الحياة، الحرية» لم تصل إلى هذه المرحلة بعد.
قد يشكل نشطاء وناشطات المجتمع المدني، الأحرار منهم والمساجين، ممن يتمتعون حالياً بالاعتراف والاحترام على نطاقٍ واسع، لالتزامهم الاستثنائي وذكائهم السياسي، نوعاً من القيادة الفكرية والأخلاقية. ولكن حتى أولئك يجب أن يكونوا جزءاً من منظمةٍ قياديةٍ وطنيةٍ أوسع. فالقيادة الوطنية، على منوال حركة تضامُنْ البولندية، أو المؤتمر الوطني الإفريقي في جنوب إفريقيا، أو قوى التحرير والتغيير في السودان، لا تتوقف عند صياغة الرؤى الاستراتيجية وتنسيق الإجراءات، وإنما تعني أيضاً الإمساك بزمام المسؤولية، والتمثيل، والثقة الشعبية، والوحدة التكتيكية.
قد يكون هذا التحدي الأصعب أمام حركة «المرأة، الحياة، الحرية» ، لكنه تحدٍ لا بدّ منه. أولاً، لأنه من غير المرجّح حدوث اختراقٍ سياسيٍّ دون معارضة منظمة ذات قاعدة واسعة. ثانياً، لأنه من المستحيل الانتقال عن طريق التفاوض إلى نظامٍ سياسيًّ جديد في غياب منظمة قيادية بديلة؛ مَع من سيتفاوض الحُكم القائم إذا لم يكن هناك ممثلٌ لدى المعارضة؟ وثالثاً، إذا حصل انهيارٌ سياسي من دون بديل منظم وموثوق للنظام الحالي، فإن قوىً أُخرى منظمة وراسخة وانتهازية، مثل الجيش أو الأحزاب والجماعات الطائفية أو المنظمات الدينية، سوف تتحرك لتشكيل مسار الانتقال ونتائجه. ويمكن لهذه القوى أن تدّعي تمثيل المعارضة، وتعقد الصفقات باسمها، أو قد تكتفي بسد فراغ السلطة عند انهيارها. كانت حنّا آرنت محقّةً في ملاحظتها أن انهيار السلطة يصبح ثورةً «فقط إذا كان هناك أشخاصٌ راغبون وقادرون على التقاط السلطة، على الدخول إليها والتغلغل فيها.» بعبارةٍ أخرى، إذا كانت الحركة الثورية غير راغبةٍ أو قادرة على التقاط السلطة، فإن آخرين سيفعلون ذلك عنها. ذلك ما حصل في معظم انتفاضات الربيع العربي، في مصر والعراق ولبنان واليمن، على سبيل المثال. في هذه التجارب، بقي الأبطال الذين أطلقوا الانتفاضات ودفعوها إلى الأمام على الهامش في عمليات صنع القرار، بينما احتلّ الانتهازيون وأنصارُ الثورة المضادة موقع المركز.
لا أحد يعرف إلى أين ستتجه الانتفاضة في إيران بالضبط. ما تزال الدائرة الحاكمة موحدةً حتى الآن، رغم ظهور أمارات الشكّ والنزاع بين أعضاء رُتبها الدنيا. بقيت الزعامات التقليدية وآيات الله صامتين في الغالب؛ لكن الجماعات الإصلاحية صارت تعرب بشكلٍ متزايد عن معارضتها، وتحثّ الطبقة الحاكمة على إجراء إصلاحاتٍ جادة لاستعادة الهدوء. لم يُفصح أحدٌ عن الرغبة بتغيير النظام، ولكن يبدو أنهم جميعاً يتطلعون إلى لعب دور الوساطة خلال العملية الانتقالية في حال حدوثها. حتى الرئيس السابق محمد خاتمي، اعترف بأن المسار الإصلاحيّ الذي ترأَّسه ودافع عنه قد وصل إلى طريقٍ مسدود، لكن علاج الأزمة الحالية برأيه يكمن في تعديل الدستور وتطبيقه. كذلك طالب عددٌ متزايدٌ من الشخصيات الإصلاحية، بقيادة رئيس الوزراء السابق مير حسين موسوي، بإجراء استفتاءٍ ووضع دستورٍ جديد. مع كل ذلك، ما يزال الحكام المتشدّدون متّحِدين، لا يُظهرون أي رغبةٍ بإعادة النظر في سياساتهم، ناهيك عن إجراء إصلاحاتٍ جادة فيها. هؤلاء يهدفون فقط إلى التمسّك بالسلطة، بالاعتماد على دعم «أعضائهم» في «الساحة»، ومن خلال إجراءات التهدئة والسيطرة والإكراه.
أياً تكن النتيجة، فقد تغيَّر الكثير بالفعل. من غير المرجّح أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانتفاضة. لقد حدث تحولٌ جذريّ في الذات الإيرانية، يتمثّل بوضوحٍ تامٍّ في الاعتراف بالنساء كفاعلاتٍ مستقلات، وبالاعتراف بـ«مسألة المرأة» كمحورٍ استراتيجي للنضال. معظم الإيرانيين والإيرانيات صاروا يريدون حكومة من نوعٍ مختلفٍ الآن. واقترن التحول الخطابي بعيداً عن الدين، مع مناهضةٍ قويةٍ للنظام الملالي والاستياء العامّ من دين الدولة. سُنَّت معاييرُ جديدة على أرض الواقع، ومن المرجّح أن تبقى. وقد تصبح شرطة الآداب، والحجاب القسري، والفصل بين الجنسين في الأماكن العامة أشياء من الماضي. لقد اكتسب المجتمع الذي عانى من الخمول والجمود في السابق طاقة جديدة. وبعد سنواتٍ من الألم واليأس، ظهر نوعٌ جديدٌ من الأمل غير المؤكد، واعتقادٌ ضبابيّ بأن الأشياء قد تتغير إلى لأفضل بالفعل. أولئك الذين يتوقعون نتائج سريعة سيصيبهم الإحباط، ولكن يبدو أن إيران تسير على دربٍ جديد. لقد عطّلت إرادة الشعب آلة القهر، وقد يلوح لهم أفقٌ جديد، وإن كان غير واضحٍ حتى اللحظة.
آصف بيات هو مفكر وعالم اجتماع إيراني أميركي، من كتبه المترجمة إلى العربية الحياة سياسة: كيف يغيّر بسطاء الناس الشرق الأوسط؛ ثورة بلا ثوّار: كي نفهم الربيع العربي. كما حرر كتاب ما بعد الإسلاموية: الأوجه المتغيّرة للإسلام السياسي.
المصدر: الجمهورية. نت