القصة الكاملة: كيف فجرت أميركا خط أنابيب “نورد ستريم”‏

سيمور هيرش   *   ترجمة: علاء الدين أبو زينة‏

‏وصفت صحيفة “نيويورك تايمز تفجير خط أنابيب “نورد ستريم” بأنه “لغز غامض”، لكن الولايات المتحدة نفذت عملية بحرية سرية، تم الإبقاء عليها سرية -حتى الآن.‏

* * *

‏يمكن العثور على “مركز الغوص والإنقاذ” التابع للبحرية الأميركية في موقع غامض مثل اسمه -أسفل ما كان في السابق طريقًا زراعيًا في ريف “بنما سيتي”، وهي مدينة منتجع مزدهرة الآن في جنوب غرب فلوريدا، على بعد 70 ميلاً إلى الجنوب من حدود ألاباما. والمجمع الذي يضم المركز عسير الوصف مثلما هو موقعه -هيكل خرساني باهت من حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، يشبه مدرسة ثانوية مهنية في الجانب الغربي من شيكاغو. وثمة مغسلة للخدمة الذاتية تعمل بقطع النقود المعدنية ومدرسة للرقص يقعان عبر ما أصبح الآن طريقًا واسعًا من أربعة مسارب.‏

‏يقوم المركز بتدريب غواصين ذوي مهارات عالية في المياه العميقة منذ عقود، والذين يكونون قادرين، بمجرد تعيينهم في الوحدات العسكرية الأميركية في جميع أنحاء العالم، على الغوص التقني، سواء لعمل الخير -استخدام متفجرات C4 لتطهير الموانئ والشواطئ من الحطام والذخائر غير المنفجرة (1)- أو الشر، مثل تفجير منصات النفط الأجنبية، وتلويث صمامات السحب لمحطات الطاقة تحت سطح البحر، وتدمير الأقفال على قنوات الشحن البحري الحيوية. وكان المركز في بنما سيتي، الذي يضم ثاني أكبر مسبح داخلي في أميركا، هو المكان المثالي لتجنيد أفضل خريجي مدرسة الغوص وأكثرهم تكتمًا الذين أنجزوا -بنجاح- في الصيف الماضي ما أوكل إليهم القيام به على عمق 260 قدمًا تحت سطح بحر البلطيق.‏

‏في حزيران (يونيو) الماضي، قام غواصو البحرية، الذين يعملون تحت غطاء مناورة “الناتو” التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة في منتصف الصيف، والمعروفة باسم “عمليات البلطيق 22″، ‏‏BALTOPS 22‏‏، ‏‏بزرع متفجرات يتم تفجيرها عن بعد، والتي دمرت بعد ثلاثة أشهر ثلاثة من خطوط أنابيب “نورد ستريم” الأربعة، وفقًا لمصدر لديه معرفة مباشرة بالتخطيط العملياتي.‏

‏كان اثنان من خطوط الأنابيب التي كانت تعرف مجتمعة باسم “نورد ستريم 1″، يزودان ألمانيا والكثير من أوروبا الغربية بالغاز الطبيعي الروسي الرخيص لأكثر من عقد من الزمان. وتم بناء زوج ثان من خطوط الأنابيب، يسمى “نورد ستريم 2″، ولكن لم يتم تشغيله بعد. والآن، مع احتشاد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، وبينما يلوح في الأفق طيف حرب هي الأكثر دموية في أوروبا منذ العام 1945، رأى الرئيس جوزيف بايدن في خطوط الأنابيب وسيلة يستخدمها فلاديمير بوتين لتسليح الغاز الطبيعي لخدمة طموحاته السياسية والإقليمية.‏

لدى طلب تعليق منه، قال أدريان واتسون، وهو متحدث باسم البيت الأبيض، في رسالة بالبريد الإلكتروني: “هذا كاذب وخيال كامل”. وكتب تامي ثورب، المتحدث باسم وكالة الاستخبارات المركزية، بالمثل: “هذا الادعاء كاذب تمامًا وبالمطلق”.‏

‏جاء قرار بايدن بتخريب خطوط الأنابيب بعد أكثر من تسعة أشهر من النقاش السري للغاية داخل مجتمع الأمن القومي في واشنطن حول أفضل السبل لتحقيق هذا الهدف. وفي معظم ذلك الوقت، لم تكن القضية هي ما إذا كان يجب القيام بالمهمة، وإنما كيف يمكن تنفيذها من دون ترك أي دليل ظاهر يشير إلى المسؤول.‏

‏كان هناك سبب بيروقراطي حاسم للاعتماد على خريجي مدرسة الغوص الصارمة في “بنما سيتي”. كان الغواصون من البحرية فقط، وليسوا أعضاء في “قيادة العمليات الخاصة الأميركية” التي يجب إبلاغ الكونغرس بعملياتها السرية وأن يتم تقديم إحاطة عنها مسبقًا إلى قيادة مجلس الشيوخ ومجلس النواب -ما تسمى ‏‏بـ”عصابة الثمانية”‏‏. كانت إدارة بايدن تبذل كل ما في وسعها لتجنب التسريبات بينما يتم التخطيط للعملية في أواخر العام 2021 والأشهر الأولى من العام 2022.‏

‏كان الرئيس بايدن وفريقه للسياسة الخارجية -مستشار الأمن القومي جيك سوليفان، ووزير الخارجية توني بلينكن، ووكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند- صريحين وثابتين في عدائهم لخطيّ الأنابيب اللذين كانا يسيران جنبًا إلى جنب لمسافة 750 ميلاً تحت بحر البلطيق من ميناءين مختلفين في شمال شرق روسيا بالقرب من الحدود الإستونية، ويمران بالقرب من جزيرة بورنهولم الدنماركية قبل أن ينتهي بهما المطاف إلى شمال ألمانيا.‏

‏كان الطريق المباشر، الذي تجاوز أي حاجة لعبور أوكرانيا، نعمة للاقتصاد الألماني الذي تمتع بوفرة من الغاز الطبيعي الروسي الرخيص -ما يكفي منه لتشغيل مصانعه وتدفئة منازله، مع تمكين الموزعين الألمان من بيع الغاز الزائد، بربح، في جميع أنحاء أوروبا الغربية. وسيكون من شأن إجراءات يمكن تعقبها إلى الإدارة الأميركية أن تنتهك وعود الولايات المتحدة بتقليل الصراع المباشر مع روسيا إلى أدنى حد. كانت السرية ضرورية.‏

‏منذ أيامه الأولى، كانت واشنطن وشركاؤها المناهضون لروسيا في “الناتو” ينظرون إلى خط “نورد ستريم 1” على أنه يشكل تهديدًا للهيمنة الغربية. وقد تأسست الشركة القابضة التي تقف وراءه‏، “‏‏نورد ستريم إيه جي‏‏”، في ‏‏سويسرا في العام 2005 بالشراكة مع “غازبروم”، وهي شركة روسية مطروحة للتداول العام تحقق أرباحًا هائلة للمساهمين وتهيمن عليها الأوليغارشية المعروفة بأنها في نطاق سيطرة بوتين.

وسيطرت “غازبروم” على 51 في المائة من الشركة، بينما تتقاسم أربع شركات طاقة أوروبية -واحدة في فرنسا، وواحدة في هولندا، واثنتان في ألمانيا- الـ49 في المائة المتبقية من الأسهم، ولها الحق في السيطرة على مبيعات المصب للغاز الطبيعي غير المكلف للموزعين المحليين في ألمانيا وأوروبا الغربية. ويتم تقاسم أرباح “غازبروم” مع الحكومة الروسية، وقُدرت العائدات الحكومية من الغاز والنفط في بعض السنوات بما يصل إلى ‏‏45 في المائة‏‏ من الميزانية السنوية لروسيا.‏

كانت المخاوف السياسية الأميركية حقيقية: سوف يكون لدى بوتين الآن مصدر دخل رئيسي إضافي تشتد الحاجة إليه، وستصبح ألمانيا وبقية أوروبا الغربية مدمنة على الغاز الطبيعي منخفض التكلفة الذي توفره روسيا في حين يقلل ذلك الاعتماد الأوروبي على أميركا. في الواقع، كان هذا بالضبط هو ما حدث. رأى العديد من الألمان “نورد ستريم 1” كجزء من تحقق نظرية ‏‏Ostpolitik‏‏ (2) الشهيرة للمستشار الألماني الأسبق فيلي براندت، ‏‏الذي من شأنه أن يمكّن ألمانيا ما بعد الحرب من إعادة تأهيل نفسها والدول الأوروبية الأخرى التي دُمرت في الحرب العالمية الثانية من خلال، من بين مبادرات أخرى، استخدام الغاز الروسي الرخيص لتغذية سوق أوروبا الغربية والاقتصاد التجاري المزدهرَين.‏

‏كان “نورد ‏‏ستريم 1” خطيرًا بما فيه الكفاية، من وجهة نظر “الناتو” وواشنطن، لكن “نورد ستريم 2″، الذي اكتمل بناؤه ‏‏في أيلول (سبتمبر) من العام 2021‏‏، ‏‏سيضاعف، إذا وافق عليه المنظمون الألمان، كمية الغاز الرخيص التي ستكون متاحة لألمانيا وأوروبا الغربية. كما سيوفر خط الأنابيب الثاني ما يكفي من الغاز لتغطية أكثر من 50 في المائة من الاستهلاك السنوي لألمانيا. وكانت التوترات تتصاعد باستمرار بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، مدعومة بالسياسة الخارجية العدوانية التي انتهجتها إدارة بايدن.‏

‏اندلعت المعارضة لخط “نورد ستريم 2” عشية تنصيب بايدن في كانون الثاني (يناير) 2021، عندما أثار الجمهوريون في مجلس الشيوخ، بقيادة تيد كروز عن ولاية تكساس، مرارًا وتكرارًا التهديد السياسي الذي يشكله الغاز الطبيعي الروسي الرخيص خلال جلسة تأكيد تعيين بلينكن كوزير للخارجية. وبحلول ذلك الوقت، كان مجلس الشيوخ الموحد قد أقر بنجاح قانونًا، كما قال كروز لبلينكن، “أوقفَ (خط الأنابيب) في مكانه”. وسيكون هناك ضغط سياسي واقتصادي هائل من الحكومة الألمانية التي كانت ترأسها آنذاك المستشارة أنجيلا ميركل، لتشغيل خط الأنابيب الثاني.‏

‏هل سيقف بايدن في وجه الألمان؟ قال بلينكن نعم، ‏‏لكنه أضاف‏‏ أنه لم يناقش تفاصيل وجهات نظر الرئيس القادم. وقال: “أعرف قناعته القوية بأن هذه فكرة سيئة، أعني ’نورد ستريم 2‘. أعلم أن الأمر سيتطلب منا استخدام كل أداة إقناع لدينا لإقناع أصدقائنا وشركائنا، بما في ذلك ألمانيا، بعدم المضي قدمًا في إنشائه”.‏

‏وبعد بضعة أشهر، مع اقتراب الانتهاء من بناء خط الأنابيب الثاني، رمَش بايدن. في شهر أيار (مايو) من ذلك العام، وفي ‏‏تحول مذهل‏‏، ‏‏تنازلت الإدارة عن العقوبات المفروضة على شركة “نورد ستريم إيه جي”، حيث ‏‏أقر مسؤول في وزارة الخارجية‏‏ بأن محاولة وقف خط الأنابيب من خلال العقوبات والدبلوماسية “دائمًا يكون من غير المرجح أن تنجح”. ووراء الكواليس‏‏، ‏‏ورد أن مسؤولي الإدارة حثوا‏‏ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان يواجه في ذلك الوقت تهديدًا بالغزو الروسي، على عدم انتقاد هذه الخطوة.‏

‏وكانت هناك تداعيات فورية. أعلن الجمهوريون في مجلس الشيوخ، بقيادة كروز، إيقافًا فوريًا لجميع مرشحي السياسة الخارجية لبايدن وأخروا تمرير مشروع قانون الدفاع السنوي لعدة أشهر، ودخل عميقًا في الخريف. ‏‏ووصفت مجلة‏ “‏‏بوليتيكو”‏‏ في‏‏ وقت لاحق ‏‏ تحول بايدن بشأن خط الأنابيب الروسي الثاني بأنه “القرار الوحيد، الذي يمكن القول إنه وضع أجندة بايدن تحت الخطر، أكثر حتى من الانسحاب العسكري الفوضوي من أفغانستان”. ‏

‏كانت الإدارة تتخبط، على الرغم من الحصول على مهلة للتعامل مع الأزمة في منتصف تشرين الثاني (نوفمبر)، عندما علق منظمو الطاقة في ألمانيا ‏‏الموافقة على‏‏ تشغيل خط أنابيب “نورد ستريم 2”. وارتفعت أسعار الغاز الطبيعي ‏‏بنسبة 8 % في غضون أيام‏‏‏‏، وسط مخاوف متزايدة في ألمانيا وأوروبا من أن يؤدي تعليق تشغيل خط الأنابيب والاحتمال المتزايد لاندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا إلى شتاء بارد غير مرغوب فيه على الإطلاق. ولم يتضح لواشنطن أين يقف أولاف شولتس، المستشار الألماني المعين حديثًا. وقبل ذلك بأشهر، بعد سقوط أفغانستان، كان شولتس قد أيد علنًا دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى انتهاج سياسة خارجية أوروبية أكثر استقلالية في خطاب ألقاه في براغ -فيما أشار بوضوح إلى تقليل الاعتماد على واشنطن وأفعالها الزئبقية المتقلبة.‏

خلال كل هذا، كانت القوات الروسية تحتشد بشكل مطرد ومشؤوم على حدود أوكرانيا، وبحلول نهاية كانون الثاني (ديسمبر)، كان أكثر من 100.000 جندي روس في وضع يسمح لهم بالهجوم من بيلاروسيا وشبه جزيرة القرم. كان القلق يتزايد في واشنطن، بما في ذلك تقييم صدر عن بلينكن بأن هذه الأعداد من القوات يمكن أن “تتضاعف في وقت قصير”.‏

‏أصبح اهتمام الإدارة مركزًا مرة أخرى على “نورد ستريم”. فطالما ظلت أوروبا تعتمد على خطوط الأنابيب للحصول على الغاز الطبيعي الرخيص، كانت واشنطن تخشى أن تكون دول مثل ألمانيا مترددة في تزويد أوكرانيا بالأموال والأسلحة التي تحتاجها لإلحاق الهزيمة بروسيا.‏

وكان في تلك اللحظة غير المستقرة حين أذن بايدن لجيك سوليفان بتجميع مجموعة مشتركة من الوكالات الأمنية الأميركية للتوصل إلى خطة. ‏وكان من المقرر أن تكون جميع الخيارات مطروحة على الطاولة. لكن واحدًا منها فقط هو الذي سيظهر.‏

التخطيط‏

‏في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2021، قبل شهرين من اندفاع الدبابات الروسية الأولى داخل الأراضي الأوكرانية، عقد جيك سوليفان اجتماعًا لفرقة عمل مشكلة حديثًا -رجال ونساء من هيئة الأركان المشتركة، ووكالة المخابرات المركزية، ووزارتي الخارجية والخزانة- وطلب توصيات حول كيفية الرد على غزو بوتين الوشيك.‏

‏وسيكون هذا الاجتماع هو الأول في سلسلة من الاجتماعات السرية للغاية التي عُقدت في غرفة آمنة في الطابق العلوي من “مبنى المكتب التنفيذي القديم”، المجاور للبيت الأبيض، الذي كان أيضًا مقر “المجلس الاستشاري للاستخبارات الخارجية” التابع للرئيس. وكانت هناك الثرثرة المعتادة والكر والفر التي أدت في النهاية إلى طرح سؤال أولي حاسم: هل ستكون التوصية التي أحالتها المجموعة إلى الرئيس قابلة للتراجع عنها -مثل إضافة طبقة أخرى من العقوبات والقيود على العملة- أم أنها ستكون عملية لا رجعة فيها -أي إجراءات ناشطة حركية، من التوع الذي لا يمكن نقضه أو التراجع عنه؟‏

‏كان ما أصبح واضحًا للمشاركين، وفقًا للمصدر الذي لديه معرفة مباشرة بالعملية، هو أن سوليفان ينوي أن تضع المجموعة خطة لتدمير خطي أنابيب “نورد ستريم” -وأنه يحقق بذلك رغبات الرئيس.‏

خلال الاجتماعات العديدة التالية، ناقش المشاركون خيارات الهجوم. واقترحت البحرية استخدام غواصة حديثة التحقت بالخدمة للتو لمهاجمة خط الأنابيب مباشرة. وناقش سلاح الجو خيار إسقاط قنابل ذات صمامات تفجير قابلة للتوقيت المتأخر ويمكن تفجيرها عن بعد. وجادلت وكالة المخابرات المركزية بأنه مهمًا كان ما يتم القيام به، فإنه يجب أن يكون سريًا. كان جميع المعنيين يعون المخاطر. وكما قال المصدر: “لم تكن هذه لعبة أطفال”. إذا كان الهجوم من النوع الذي يمكن تعقبه إلى الولايات المتحدة، “فإنه عمل من أعمال الحرب”.‏

‏في ذلك الوقت، كان يقود وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز، السفير السابق الهادئ في روسيا، والذي شغل منصب نائب وزير الخارجية في إدارة باراك أوباما. وسرعان ما أوكل بيرنز المهمة إلى مجموعة عمل تابعة للوكالة كان من بين أعضائها المخصصين -بالصدفة- شخص على دراية بقدرات الغواصين في أعماق البحار التابعين لقوات البحرية في بنما سيتي. وخلال الأسابيع القليلة التالية، بدأ أعضاء مجموعة عمل وكالة المخابرات المركزية في حياكة خطة لعملية سرية تستخدم الغواصين في أعماق البحار، والتي تهدف إلى إحداث انفجار على طول خط الأنابيب.‏

‏وكان قد تم القيام بشيء من هذا القبيل من قبل. في العام 1971، ‏‏علم مجتمع الاستخبارات الأميركي‏‏ من ‏‏ مصادر لم يتم الكشف عنها بعد أن وحدتين مهمتين من البحرية الروسية كانتا تتواصلان عبر كابل تحت البحر مدفون في بحر أوخوتسك، على ساحل الشرق الأقصى لروسيا. وكان الكابل يربط نقطة قيادة بحرية إقليمية بمقر البر الرئيسي في فلاديفوستوك.‏

وعلى الأثر، تم تجميع فريق منتقى بعناية من عملاء وكالة الاستخبارات المركزية ووكالة الأمن القومي في مكان ما في منطقة واشنطن، تحت غطاء عميق من السرية، ووضعوا خطة نجحت، باستخدام غواصين من البحرية وغواصات معدلة ومركبة إنقاذ غواصة عميقة، بعد الكثير من التجربة والخطأ، في تحديد موقع الكابل الروسي. وزرع الغواصون جهاز استماع متطور على الكابل، اعترض بنجاح المحادثات الروسية المارة وقام بحفظها على نظام تسجيل.‏

‏علمت وكالة الأمن القومي أن كبار ضباط البحرية الروسية، مقتنعين بأمن رابط اتصالهم، تحدثوا مع أقرانهم من دون تشفير. وكان لا بد من استبدال جهاز التسجيل وشريطه شهريًا واستمرت متابعة المشروع بمرح لمدة عقد من الزمان حتى قام باختراقه فني مدني في وكالة الأمن القومي يبلغ من العمر أربعة وأربعين عامًا ‏‏يدعى رونالد بيلتون‏‏ كان يجيد اللغة الروسية. وكان بيلتون قد تعرض للخيانة من منشق روسي في العام 1985 وحُكم عليه بالسجن. وحصل على خمسة آلاف دولار فقط من الروس مقابل ما كشفه عن العملية، ‏‏إلى جانب 35.000 دولار‏‏ أخرى مقابل بيانات العمليات الروسية الأخرى التي قدمها والتي لم يتم الإعلان عنها مطلقًا.‏

كان ذلك النجاح تحت الماء، الذي أُطلق عليه اسم “عملية آيفي بيلز” Ivy Bells، مبتكرًا ومحفوفًا بالمخاطر، وأنتج معلومات استخباراتية لا تقدر بثمن حول نوايا البحرية الروسية وتخطيطها.‏

‏ومع ذلك، كانت المجموعة المشتركة بين الوكالات في البداية متشككة بشأن حماس وكالة المخابرات المركزية لتنفيذ هجوم سري جديد في أعماق البحار. كان ثمة الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها. كانت البحرية الروسية تقوم بدوريات مكثفة في مياه بحر البلطيق، ولم تكن هناك منصات نفط يمكن استخدامها كغطاء لعملية الغوص. هل سيتعين على الغواصين الذهاب إلى إستونيا، عبر الحدود مباشرة من أرصفة تحميل الغاز الطبيعي الروسية، للتدرب على المهمة؟ قيل للوكالة: “سوف يكون ذلك شيئًا لن ينتهي إلى خير”.‏

وقال المصدر أنه خلال “كل هذه العملية من إعداد المكائد، كان بعض العاملين في وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية يقولون: ’لا تفعلوا هذا. إنه غبي وسيكون كابوسًا سياسيًا إذا افتُضح أمره‘”.‏

‏ومع ذلك، في أوائل العام 2022، أبلغت مجموعة عمل وكالة المخابرات المركزية مجموعة سوليفان المشتركة بين الوكالات بما يلي: “لدينا طريقة لتفجير خطوط الأنابيب”.‏

‏ما حدث بعد ذلك كان مذهلاً. في 7 شباط (فبراير)، قبل أقل من ثلاثة أسابيع من الغزو الروسي الذي بدا حتميًا لأوكرانيا، التقى بايدن في مكتبه بالبيت الأبيض بالمستشار الألماني أولاف شولتس، الذي أصبح الآن، بعد بعض التذبذب، يقف بقوة في الفريق الأميركي. وفي المؤتمر الصحفي الذي أعقب ذلك، قال بايدن بتحد: “‏‏إذا غزت روسيا… لن يكون هناك نورد ستريم 2 بعد الآن. سوف نضع نهاية له‏‏”.‏

وقبل ذلك بعشرين يومًا، كانت وكيلة الوزارة، نولاند، قد أوصلت الرسالة نفسها بشكل أساسي في مؤتمر صحفي لوزارة الخارجية بتغطية صحفية قليلة. وقالت ردًا على سؤال: “أريد أن أكون واضحة جدًا معكم اليوم. إذا غزت روسيا أوكرانيا، بطريقة أو بأخرى ‏‏لن يمضي نورد ستريم 2 قدُمًا”.‏‏

‏وأعرب العديد من أولئك المشاركين في التخطيط لمهمة خط الأنابيب عن استيائهم مما اعتبروه إشارات غير مباشرة إلى الهجوم.‏

وقال المصدر: “كان الأمر أشبه بوضع قنبلة ذرية على الأرض في طوكيو وإخبار اليابانيين بأننا سنقوم بتفجيرها. كانت الخطة هي تنفيذ الخيارات بعد الغزو وعدم الإعلان عنها على الملأ. لم يفهم بايدن ذلك ببساطة، أو أنه تجاهله”.‏

‏ربما كان طيش بايدن ونولاند، إذا كان هذا حاله، قد أحبط بعض المخططين. لكنه خلق أيضًا فرصة. وفقًا للمصدر، قرر بعض كبار المسؤولين في وكالة المخابرات المركزية أن تفجير خط الأنابيب “لم يعد من الممكن اعتباره خيارًا سريًا لأن الرئيس أعلن للتو أننا نعرف كيف نفعل ذلك”.‏

وهكذا، تم تغيير رتبة خطة تفجير “نورد ستريم 1 و2” فجأة من عملية سرية تتطلب إبلاغ الكونغرس عنها، إلى واحدة اعتبرت عملية استخباراتية سرية للغاية بدعم عسكري أميركي.

وأوضح المصدر أنه بموجب القانون، “لم يعد هناك شرط قانوني يقضي بإبلاغ الكونغرس بالعملية. كل ما كان عليهم فعله الآن هو التنفيذ -ولكن ما يزال يتعين أن يكون ما يفعلونه سريًا. الروس لديهم مراقبة فائقة لبحر البلطيق”.‏

‏لم يكن لدى أعضاء مجموعة عمل الوكالة أي اتصال مباشر مع البيت الأبيض، وكانوا حريصين على معرفة ما إذا كان الرئيس يعني ما قاله -أي ما إذا كان هناك إذن بتنفيذ المهمة الآن. ويتذكر المصدر: “ويعود بيل بيرنز ويقول: ’افعلوها‘”.‏

العملية‏

‏كانت النرويج هي المكان المثالي لتكوين البعثة.‏

‏في السنوات القليلة الماضية من الأزمة بين الشرق والغرب، وسع الجيش الأميركي وجوده بشكل كبير في داخل النرويج التي تمتد حدودها الغربية لمسافة 1.400 ميل على طول شمال المحيط الأطلسي وتندمج فوق الدائرة القطبية الشمالية مع روسيا. وكانت وزارة الدفاع الأميركية قد خلقت وظائف عالية الرواتب وأبرمت عقودًا مجزية، وسط بعض الجدل المحلي، من خلال استثمار مئات الملايين من الدولارات لتحديث وتوسيع منشآت البحرية والقوات الجوية الأميركية في النرويج. وشملت الأعمال الجديدة، أهم من كل شيء آخر، تثبيت رادار متقدم ذي فتحة تركيبية في أقصى الشمال، كان قادرًا على اختراق عمق روسيا ودخل في الخدمة في الوقت الذي فقد فيه مجتمع الاستخبارات الأميركي إمكانية الوصول إلى سلسلة من مواقع التنصت بعيدة المدى داخل الصين.

‏أصبحت قاعدة الغواصات الأميركية التي ‏‏تم تجديدها حديثًا، والتي كانت قيد الإنشاء لسنوات‏، ‏‏جاهزة للعمل،‏‏ وأصبح بإمكان المزيد ‏‏من الغواصات الأميركية الآن العمل عن كثب‏‏ مع زميلاتها النرويجية للمراقبة والتجسس على معقل نووي روسي رئيسي على بعد 250 ميلاً إلى الشرق، في “شبه جزيرة كولا”. كما وسعت أميركا بشكل كبير ‏‏قاعدة جوية نرويجية‏‏ في الشمال وسلمت للقوات الجوية النرويجية أسطولاً من ‏طائرات الدوريات “ف8 بويسيدون” P8 Poseidon التي صنعتها شركة بوينغ‏ لتعزيز تجسسها بعيد المدى على كل ما يتعلق بروسيا.‏

و‏في ‏‏المقابل، أغضبت الحكومة النرويجية الليبراليين وبعض المعتدلين في برلمانها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي من خلال تمريرها “اتفاقية التعاون الدفاعي التكميلي” (SDCA). وبموجب الاتفاق الجديد‏‏، ‏‏سيكون للنظام القانوني الأميركي ولاية قضائية في بعض “المناطق المتفق عليها”‏‏ في ‏‏الشمال على الجنود الأميركيين المتهمين بارتكاب جرائم خارج القاعدة، وكذلك على المواطنين النرويجيين المتهمين أو المشتبه في تدخلهم في العمل في القاعدة.‏

كانت النرويج من الموقعين الأصليين على معاهدة الناتو في العام 1949، في الأيام الأولى من الحرب الباردة. واليوم، يشغل منصب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، وهو مناهض ملتزم للشيوعية، شغل منصب رئيس وزراء النرويج لمدة ثماني سنوات قبل أن ينتقل إلى منصبه الرفيع في حلف شمال الأطلسي، بدعم أميركي، في العام 2014. وكان متشددًا في كل ما يتعلق ببوتين وروسيا وتعاوَن مع مجتمع الاستخبارات الأميركي منذ حرب فيتنام. وقد تمتع بالثقة الكاملة منذ ذلك الحين. وقال المصدر: “إنه القفاز الذي يناسب اليد الأميركية”.‏

‏هناك، في واشنطن، عرف المخططون أن عليهم الذهاب إلى النرويج. وقال المصدر: “لقد كرهوا الروس، وكانت البحرية النرويجية مليئة بالبحارة والغواصين الرائعين الذين لديهم أجيال من الخبرة في عمليات التنقيب عن النفط والغاز في أعماق البحار المربحة للغاية”. كما يمكن الوثوق بهم للحفاظ على سرية المهمة. (ربما كانت للنرويجيين مصالح أخرى أيضًا. سوف يسمح تدمير “نورد ستريم” -إذا تمكن الأميركيون من تنفيذه- للنرويج ببيع المزيد من الغاز الطبيعي الخاص بها إلى أوروبا).‏

‏في وقت ما من شهر آذار (مارس)، سافر عدد قليل من أعضاء الفريق إلى النرويج للالتقاء بأعضاء من الأجهزة السرية وقوات البحرية النرويجية. وكان أحد الأسئلة الرئيسية التي طُرحت في اللقاء هو أين بالضبط في بحر البلطيق كان أفضل مكان لزرع المتفجرات. وكان خطا “نورد ستريم” 1 و2، ولكل منهما مجموعتان من خطوط الأنابيب، ينفصلان عن بعضها بعضا في جزء كبير من الطريق لمسافة تزيد قليلاً على ميل واحد أثناء دخولهما ميناء غريفسفالد في أقصى شمال شرق ألمانيا.‏

‏كانت البحرية النرويجية سريعة في العثور على المكان الصحيح، في مياه بحر البلطيق الضحلة على بعد أميال قليلة من جزيرة بورنهولم الدنماركية. هناك، امتدت خطوط الأنابيب متباعدة بأكثر من ميل على طول قاع البحر الذي كان عمقه 260 قدمًا فقط. سوف يكون ذلك العمق في نطاق قدرة الغواصين، الذين يتكونون من صيادي ألغام نرويجيين من الفئة “ألتا”، الذين سيغوصون بمزيج من الأكسجين والنيتروجين والهيليوم المتدفق من خزاناتهم، ويزرعون شحنات من C4 مموهة في شكل نباتات على خطوط الأنابيب الأربعة المحمية بأغطية واقية خرسانية. سيكون هذا عملاً شاقًا وخطيرًا ويستغرق وقتًا طويلاً، لكن المياه قبالة بورنهولم تتمتع بميزة أخرى: لم تكن فيها تيارات المد والجزر الكبيرة التي كانت لتجعل مهمة الغوص أكثر صعوبة.‏

وبعد قليل من التداول، كان الأميركيون جميعًا موافقين.‏

كان في هذه المرحلة حين ظهرت مجموعة الغوص العميق الغامضة التابعة للبحرية في بنما سيتي في الصورة مرة أخرى. في العادة، يُنظر إلى مدارس أعماق البحار في بينما سيتي التي كان خريجوها قد شاركوا في عملية “آيفي بيلز”، على أنها مرافق مياه راكدة غير مرغوب فيها من وجهة نظر نخبة خريجي الأكاديمية البحرية في أنابوليس، الذين يسعون عادة إلى المجد الذي يعنيه تعيينهم في قوات البحرية الخاصة “الفقمات” في الجيش الأميركي، أو كطيارين مقاتلين أو ضمن طاقم غواصة. وإذا كان يجب على المرء أن يصبح “حذاء أسود” -أي أن يُعيّن في العمل الأقل جاذبية على متن سفينة سطحية- فهناك دائمًا على الأقل الخدمة على مدمرة أو طراد أو سفينة برمائية. أما الأقل بريقًا على الإطلاق فهو العمل في الألغام البحرية. ولا يظهر الغواصون من هذا النوع أبدًا في أفلام هوليوود أو على أغلفة المجلات الشعبية.‏

وقال المصدر: “أفضل الغواصين ذوي مؤهلات الغوص العميق هم مجتمع ضيق، ويتم تجنيد الأفضل بينهم فقط للعملية ويُطلب منهم الاستعداد لاستدعائهم إلى وكالة المخابرات المركزية في واشنطن”.‏

‏الآن، كان لدى النرويجيين والأميركيين موقع لاستهدافه وعملاء للتنفيذ، ولكن كان هناك مصدر قلق آخر: أي نشاط غير عادي تحت الماء في المياه قبالة بورنهولم قد يلفت انتباه القوات البحرية السويدية أو الدنماركية، التي يمكن أن تقوم بالإبلاغ عنه.

‏كانت الدنمارك أيضًا من المُوقِّعين الأصليين على معاهدة حلف الناتو، وكانت معروفة في مجتمع الاستخبارات بعلاقاتها الخاصة مع المملكة المتحدة. وقد تقدمت السويد في الآونة الأخيرة بطلب للانضمام إلى عضوية منظمة حلف شمال الأطلسي، وأظهرت مهارتها الكبيرة في إدارة أنظمة الاستشعار الصوتية والمغناطيسية تحت الماء، التي نجحت في تعقب الغواصات الروسية التي كانت تظهر أحيانا في المياه النائية للأرخبيل السويدي وإجبارها على الصعود إلى السطح.‏

‏وهكذا، انضم النرويجيون إلى الأميركيين في الإصرار على ضرورة إطلاع بعض كبار المسؤولين في الدنمارك والسويد بشكل عام على نشاط الغوص المحتمل في المنطقة. وبهذه الطريقة، يمكن لشخص أعلى أن يتدخل ويبقي تقريرًا ما خارج سلسلة القيادة بحيث يتم بالتالي عزل عملية خط الأنابيب. وقال لي المصدر: “ما قيل لهم وما عرفوه كان مختلفًا، عن قصد”. (طُلب من السفارة النرويجية التعليق على هذه القصة، ولم تستجب).‏

كان النرويجيون مفتاحًا لحل العقبات الأخرى. من المعروف أن البحرية الروسية تمتلك تكنولوجيا مراقبة قادرة على اكتشاف وتفجير الألغام تحت الماء. ولذلك، كانت المتفجرات الأميركية تحتاج إلى التمويه بطريقة تجعلها تبدو للنظام الروسي جزءًا من الخلفية الطبيعية -وهو أمر يتطلب التكيف مع درجة الملوحة المحددة للمياه. وكان لدى النرويجيين حل.‏

‏وكان لدى النرويجيين أيضًا حل للمسألة الحاسمة الأخرى: “‏‏متى”‏‏ يجب أن تتم العملية. في شهر حزيران (يونيو) من كل عام، على مدى السنوات الـ21 الماضية، قام الأسطول السادس الأميركي الذي يقع مقر قيادته في جيتا، إيطاليا، جنوب روما، برعاية مناورة كبيرة لقوات حلف الناتو في بحر البلطيق، والتي شاركت فيها عشرات سفن الحلفاء في جميع أنحاء المنطقة. وسوف تُعرف المناورات الحالية، التي أقيمت في حزيران (يونيو)‏‏، ‏‏باسم “عمليات البلطيق 22”. واقترح النرويجيون أن هذا النشاط سيكون الغطاء المثالي لزراعة الألغام.

ومن جهتهم، قدم الأميركيون عنصرًا حاسمًا واحدًا: أقنعوا مخططي الأسطول السادس بإضافة تمرين حول البحث والتطوير إلى البرنامج. وشارك في التمرين، بالشكل الذي ‏‏أعلنته البحرية‏‏‏، الأسطول السادس بالتعاون مع “مراكز الأبحاث والحرب” التابعة للبحرية. وسوف يُقام الحدث في البحر قبالة ساحل جزيرة بورنهولم، وستشارك فيه فرق “الناتو” من الغواصين الذين يزرعون الألغام، بينما تستخدم الفرق المتنافسة أحدث التقنيات تحت الماء للعثور عليها وتدميرها.‏

‏كان ذلك تمرينًا مفيدًا وغطاء بارعًا. سيقوم أولاد بنما سيتي بعملهم، وستكون متفجرات C4 قد زُرعت في مكانها بحلول نهاية “عمليات البلطيق 22″، مع وصل ساعة توقيت لتأخير التفجير لمدة 48 ساعة. وسيكون جميع الأميركيين والنرويجيين قد غادروا المكان منذ فترة طويلة قبل الانفجار الأول.

كانت الأيام في عد تنازلي. وقال المصدر: “كانت الساعة تدق، وكنا نقترب من إنجاز المهمة”.‏

‏ثم، ظهرت لدى واشنطن أفكار أخرى. سوف تظل القنابل المزروعة خلال تمرين “عمليات البلطيق” في مكانها، لكن البيت الأبيض كان قلقًا من أن نافذة يومين لتفجيرها ستكون قريبة جدًا من نهاية التمرين، وسيجعل ذلك من الواضح أن أميركا متورطة.‏

‏بدلاً من ذلك، أصبح لدى البيت الأبيض طلب جديد: “هل يمكن للرجال في الميدان التوصل إلى طريقة ما لتفجير خطوط الأنابيب في وقت لاحق عند طلب القيادة؟‏”.

‏كان بعض أعضاء فريق التخطيط غاضبين ومحبطين من تردد الرئيس الظاهر. لقد تدرب غواصو بنما سيتي مرارًا وتكرارًا على زراعة متفجرات C4 على خطوط الأنابيب، كما كانوا يفعلون خلال تدريبات “البلطيق”، ولكن الآن أصبح على الفريق في النرويج التوصل إلى طريقة لمنح بايدن ما يريد -القدرة على إصدار أمر تنفيذ ناجح في الوقت الذي يختاره.

‏كان أمر تكليفك بإحداث تغيير تعسّفي، في اللحظة الأخيرة، شيئًا اعتادت وكالة المخابرات المركزية إدارته. لكن هذا التطور جدد أيضًا المخاوف التي يتقاسمها البعض بشأن مدى ضرورة -وقانونية- العملية برمتها.‏

كما أثارت أوامر الرئيس السرية أيضًا معضلة كانت وكالة المخابرات المركزية قد واجهتها في أيام حرب فيتنام، عندما أصدر الرئيس جونسون، الذي واجه في ذلك الحين مشاعر متزايدة مناهضة لحرب فيتنام، إلى الوكالة أمرًا بانتهاك ميثاقها -الذي كان يمنعها على وجه التحديد من العمل داخل أميركا- من خلال التجسس على قادة الحركات المناهضة للحرب لتحديد ما إذا كانوا خاضعين لسيطرة روسيا الشيوعية.‏

‏أذعنت الوكالة في نهاية المطاف، وطوال عقد السبعينيات، أصبح من الواضح إلى أي مدى كانت على استعداد للذهاب. وظهرت اكتشافات صحفية لاحقة في أعقاب فضائح “ووترغيت” حول تجسس الوكالة على المواطنين الأميركيين، وتورطها في اغتيال قادة أجانب، وتقويضها للحكومة الاشتراكية لسلفادور أليندي.

وأدت هذه الاكتشافات إلى سلسلة دراماتيكية من جلسات الاستماع في منتصف السبعينيات في مجلس الشيوخ، بقيادة السيناتور فرانك تشيرش من أيداهو، والتي أوضحت أن ريتشارد هيلمز، مدير الوكالة في ذلك الوقت، قبل بفكرة أنه ملزم بعمل ما يريده الرئيس، حتى لو كان ذلك يعني انتهاك القانون.‏

‏في شهادة سرية غير منشورة، أوضح هيلمز بحزن أنه “يكاد يكون لديك ’حبَل بلا دنس‘ عندما تفعل شيئًا” بموجب أوامر سرية من الرئيس. “سواء كان من الصواب أن تفعل، أو من الخطأ أن تفعل، فإن (وكالة المخابرات المركزية) تعمل بموجب قواعد أساسية ومختلفة عن أي جزء آخر من الحكومة”. بذلك، كان يخبر أعضاء مجلس الشيوخ بشكل أساسي بأنه فهم، بصفته رئيسًا لوكالة المخابرات المركزية، أنه يعمل لصالح “التاج”، وليس الدستور.‏

‏عمل الأميركيون المكلفون بالعملية في النرويج في ظل الدينامية نفسها، وبدأوا العمل بإخلاص على حل المشكلة الجديدة -كيفية تفجير متفجرات C4 عن بعد بناء على طلب بايدن ولدى الطلب. وكانت هذه مهمة أكثر تطلبًا بكثير مما فهمه أولئك في واشنطن. لم تكن هناك طريقة ليعرف الفريق في النرويج متى قد يضغط الرئيس على الزر. هل سيكون ذلك في غضون أسابيع قليلة، في أشهر عدة أم في نصف عام أو أكثر؟‏

سوف يتم تفجير شحنات C4 المتصلة بخطوط الأنابيب بواسطة عوامة سونار تقوم بإسقاطها طائرة في وقت قصير، لكن الإجراء تضمن استخدام أكثر تقنيات معالجة الإشارات تقدمًا. بمجرد وضعها في المكان، يمكن تشغيل أجهزة التوقيت المتأخرة المتصلة بأي من خطوط الأنابيب الأربعة عن طريق الخطأ نتيجة لمزيج معقد من ضوضاء خلفية المحيط في جميع أنحاء بحر البلطيق الذي يشهد حركة مرور بحرية نشطة -من السفن القريبة والبعيدة، والحفر تحت الماء، والأحداث الزلزالية، والأمواج، وحتى الكائنات البحرية. ولتجنب ذلك، فإن عوامة السونار، بمجرد وضعها في مكانها، ستصدر سلسلة من الأصوات النغمية الفريدة منخفضة التردد -التي تشبه إلى حد كبير تلك المنبعثة من آلة الفلوت أو البيانو- والتي سيتعرف عليها ويميزها جهاز التوقيت، وبعد ساعات تأخير محددة مسبقا، تنطلق المتفجرات. (“إنك تريد إشارة قوية بما فيه الكفاية بحيث لا يمكن لأي إشارة أخرى أن ترسل عن طريق الخطأ نبضة تقوم بتفجير المتفجرات”، كما أخبرني الدكتور ثيودور بوستول، الأستاذ الفخري للعلوم والتكنولوجيا وسياسة الأمن القومي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وقال بوستول، الذي عمل مستشارًا علميًا لرئيس العمليات البحرية في البنتاغون، إن القضية التي تواجه المجموعة في النرويج بسبب تأخير بايدن كانت تعتمد على الصدفة: “كلما طالت مدة بقاء المتفجرات في الماء، زاد خطر انبعاث إشارة عشوائية تطلق زناد القنابل”).‏

‏في 26 أيلول (سبتمبر) 2022، قامت طائرة مراقبة من طراز “بي-8” تابعة للبحرية النرويجية برحلة روتينية على ما يبدو، وأسقطت عوامة سونار. وانتشرت الإشارة تحت الماء، في البداية إلى “نورد ستريم 2″، ثم إلى “نورد ستريم 1”. وبعد ساعات قليلة، انطلقت متفجرات C4 عالية الطاقة، وتم إيقاف تشغيل ثلاثة من خطوط الأنابيب الأربعة. وفي غضون بضع دقائق، أصبح بالإمكان رؤية برك غاز الميثان التي بقيت في خطوط الأنابيب المغلقة وهي تنتشر على سطح الماء، وعلم العالم أن شيئًا لا يمكن نقضه ولا رجعة فيه قد حدث.‏

التداعيات‏

‏في أعقاب تفجير خط الأنابيب مباشرة، تعاملت وسائل الإعلام الأميركية مع الأمر على أنه لغز لم يتم حله. تم ‏‏ذكر روسيا مرارًا وتكرارًا على أنها الجاني المحتمل‏‏، ‏‏وكان ذلك مدفوعًا بتسريبات محسوبة من البيت الأبيض -ولكن من دون تحديد دافع واضح للقيام بمثل هذا العمل من التخريب الذاتي، بما يتجاوز الانتقام البسيط. وبعد بضعة أشهر، عندما تبين أن السلطات الروسية كانت تحصل بهدوء على تقديرات لتكلفة إصلاح خطوط الأنابيب، ‏‏وصفت صحيفة “نيويورك تايمز‏”‏ هذه الأخبار بأنها “تعقد النظريات حول من هو الطرف الذي كان وراء الهجوم”. ولم تنقب أي صحيفة أميركية كبرى في التهديدات السابقة لخطوط الأنابيب التي أطلقها بايدن ووكيلة وزارة خارجيته، نولاند.‏

في حين أنه لم يكن من الواضح أبدًا لماذا قد تقدم روسيا إلى تدمير خط أنابيبها المربح، جاء الأساس المنطقي الأكثر دلالة لعمل الرئيس من وزير الخارجية بلينكن.‏

‏ردًا على سؤال في مؤتمر صحفي في أيلول (سبتمبر) الماضي حول عواقب تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا الغربية، ‏‏وصف بلينكن‏‏ اللحظة بأنها قد تكون جيدة:‏

‏”إنها فرصة هائلة للتخلص من الاعتماد على الطاقة الروسية مرة واحدة وإلى الأبد، وبالتالي سحب وسيلة تسليح الطاقة من فلاديمير بوتين كوسيلة لتعزيز مخططاته الإمبريالية. هذا أمر مهم للغاية ويوفر فرصة استراتيجية هائلة للسنوات القادمة، ولكن في الوقت نفسه نحن مصممون على بذل كل ما في وسعنا للتأكد من أن عواقب كل هذا لا يتحملها المواطنون في بلداننا أو، في جميع أنحاء العالم”.‏

‏وفي وقت أقرب بعد ذلك، أعربت فيكتوريا نولاند عن ارتياحها لخراب أحدث خطوط الأنابيب. وفي شهادتها في جلسة استماع للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في أواخر كانون الثاني (يناير)، قالت للسيناتور تيد كروز: “مثلك، أنا، أعتقد أن الإدارة ممتنة جدًا لمعرفة أن ’نورد ستريم 2‘ هو الآن، كما تحب أن تقول، مجرد قطعة كبيرة من المعدن في قاع البحر”.‏

‏كانت لدى المصدر وجهة نظر أكثر وضوحًا بشان قرار بايدن بتخريب أكثر من 1.500 ميل من خط أنابيب “غازبروم” مع اقتراب فصل الشتاء. “حسنا”، قال المصدر متحدثًا عن الرئيس، “يجب أن أعترف أن الرجل لديه الكثير من الجرأة. قال إنه سيفعل ذلك، وقد فعله”.

وردًا على سؤال حول سبب اعتقاده بأن الروس فشلوا في الرد، قال بسخرية: “ربما يفتقرون إلى القدرة على فعل الأشياء نفسها التي فعلتها الولايات المتحدة”.‏

‏وتابع قائلاً: “كانت هذه قصة غلاف جميلة. وراء كل ذلك كانت عملية سرية وضعت خبراء في الميدان والمعدات التي عملت على إشارة سرية”.‏

‏”العيب الوحيد كان قرار القيام بتنفيذها”.‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: How America Took Out The Nord Stream Pipeline

‏*سيمور مايرون‏‏ “‏‏سي‏‏” ‏‏هيرش‏‏ Seymour Hersh: (من مواليد 8 نيسان/ أبريل 1937). ‏‏صحفي استقصائي‏‏ وكاتب سياسي أميركي. حصل على تقدير في العام 1969 لفضحه “‏‏مذبحة ماي لاي”‏‏ ‏‏والتستر‏‏ عليها خلال ‏‏حرب فيتنام‏، وحصل عنها على ‏‏جائزة بوليتزر للتقارير الدولية‏‏ للعام 1970. خلال السبعينيات، غطى هيرش ‏‏فضيحة ووترغيت‏‏ لصحيفة “‏‏نيويورك تايمز”‏‏، كما أبلغ عن ‏‏القصف الأميركي السري لكمبوديا‏‏ وبرنامج ‏‏وكالة المخابرات المركزية للتجسس المحلي‏‏.

في العام 1991، أصدر هيرش كتابة “خيار شمشون، الترسانة النووية الإسرائيلية والسياسة الخارجية الأميركية”، وذكر فيه أن نيكولاس ديفيس، محرر الشؤون الخارجية في صحفية “الديلي ميرور” هو الذي أبلغ السفارة الإسرائيلية في لندن عن مردخاي فعنونو، الخبير النووي الإسرائيلي الذي كشف وجود البرنامج النووي الإسرائيلي وفي العام 2004، فضح تفصايل ‏‏تعذيب الجيش الأميركي وإساءة معاملته للسجناء في أبو غريب في‏‏ العراق ‏‏لمجلة “النيويوركر”‏‏. فاز هيرش بخمس ‏‏من جوائز جورج بولك‏‏، ‏‏وجائزتين من جوائز المجلة الوطنية‏‏. وهو مؤلف لأحد عشر كتابًا، منها أيضاً “‏‏ثمن القوة: كيسنجر في بيت أبيض نيكسون”‏‏ (1983)، وهو سرد لمهنة ‏‏هنري كيسنجر‏‏ فاز ‏‏بجائزة دائرة نقاد الكتب الوطنية‏‏. ‏في العام 2013، شككت تقارير هيرش في الادعاء بأن حكومة ‏‏بشار الأسد‏‏، وليس ‏‏قوات المتمردين السوريين‏‏، هي التي ‏‏هاجمت المدنيين بالأسلحة الكيميائية في الغوطة‏‏ خلال ‏‏الحرب الأهلية السورية‏‏، وفي العام 2015، أفاد بأن الولايات المتحدة وباكستان كذبتا بشأن الأحداث المحيطة ‏‏بمقتل أسامة بن لادن‏‏، وفي كلتا المرتين أثارت تغطيته الجدل. وفي العام 2023، أفاد هيرش بأن الولايات المتحدة والنرويج مسؤولتان عن ‏‏تخريب خط أنابيب “نورد ستريم‏”‏ بين روسيا وألمانيا، مما أثار الجدل مرة أخرى. وعلى وجه الخصوص، تعرض هيرش لانتقادات بسبب اعتماده الشديد على مصادر مجهولة. ‏

هوامش المترجم:

(1) سي فور C-4: هي مادة شديدة الانفجار تصنع في المنشئات العسكرية. وهي ذات قدرة واسعة على تدمير الدروع، وحسب الخبراء العسكريين، فإن العبوة التي تزن كيلو غرامين من مادة C4 تعادل في حال انفجارها قوة 10 كيلو غرامات من مادة تي إن تي شديدة الانفجار. والمادة مفجر لدن سهل التشكيل له لون رمادى فاتح، يذوب في مادة الأسيتون، ولا ينفجر بالاشتعال وإنما يحتاج إلى مفجر مباشر. وهو يتكون من أربع مواد: poly Iso Butelene + RDX +TNT وDiethyle hexyl. ومن هنا جاءت إضافة رقم 4 إلى اسمه.

‏‏(2) السياسة العليا Ostpolitik: هي السياسة الخارجية لدول أوروبا ‏‏ الغربية القائمة على ‏‏الانفراج‏‏ فيما يتعلق‏‏ بدول الكتلة ‏‏الشيوعية‏‏ السابقة‏‏، وخاصة تطبيع العلاقات بين جمهورية ألمانيا الاتحادية (ألمانيا الغربية) والكتلة الشرقية في الستينيات، وخاصة جمهورية ألمانا الديمقراطية ابتداءً من العام 1969.

المصدر: الغد الأردنية/– (“سبستاك” مدونة سيمور هيرش)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى