“إنها القيامة بكل ما امتلكت ذاكرتنا كانت ليلة باردة ومثلجة توقّف الوقت في ذلك اليوم، لكنني أفقت في تمام الساعة الرابعة والثلث تقريباً على هول المشهد، كانت هناك أصوات ليست كالأصوات كانت الجدران تصطدم ببعضها البعض، سقطت مكتبتي التي أحبها على الطاولة حيث كان حاسوبي الذي أكتب عليه يومياً مفتوحاً حتى آخِر سهرةٍ في منزلي، تناثرت الكتب التي كثيراً ما أحببت قراءتها هناك أعلن الزجاج موته وسقط كل شيءٍ جميل في ذلك الوقت”.
“أنا ممن دخل سجون نظام الأسد وعاش أهوالاً كبرى داخل معتقلاته.. لكن ما جرى فجر يوم الاثنين كان مسألة أخرى”.
بهذه الكلمات يصف الكاتب أحمد مظهر سعدو لـ “نداء بوست” قساوة المشهد واللحظات الصعبة التي عاشها وأسرته في ذلك المنزل الذي كان يحتضن ذكريات جميلة لم تكن ستذهب لولا الزلزال الذي سرقها وعاد ليهدأ مكانه لكنها دقائق باردة أشعرته بقشعريرة الفقدان وما كان ليعلم ما الذي خبأه له، اقتربت رائحة الموت تفوح في المكان لكن بصمت مريب يسارع ليطمئن على أحبابه. علم في ذلك الوقت بأنها ليست هزة أرضية كما اعتاد أن تحصل بين الفَيْنة والأخرى”.
يقول “سعدو” وهو متأثر على المُصاب الكبير والحزن الذي خيم على المنطقة خلال ثوانٍ معدودة سرقت ما سرقته وعادت أدراجها: “هرعنا مسرعين أنا وزوجتي بلا مظلات تحمينا من المطر المتساقط مع بعض الثلج ليلتها تمكنّا من الوصول إلى خارج البناء المؤلف من ستة طوابق حيث كنا نسكن في الطبقة الثانية”.
وأضاف بصوت هادئ: “كم كان باب البناء بعيداً لم يكن كذلك سابقاً كنا نهرول ونتدافع على الدرج وصولاً إلى المدخل.. وصلنا أخيراً تجمّعْنا تحت المطر ننظر إلى البناء المائل هل يسقط أم يحتمل الهزات العنيفة تلك”.
ويتابع “سعدو” قائلاً: “هنا راح البال منشغلاً في ابنتيَّ اللتين تسكنان في مدينة غازي عنتاب ثم أخي وأختي وأسرتي كلها عندما علمنا أن مدينة كهرمان مرعش هي الأخرى تعرضت لنفس الزلزال بل كان أعنف قليلاً”.
استطاع “سعدو” أن يطمئن على ابنته وزوجها وكل الأصدقاء في المدينة لكنه سارع إلى الهاتف مجدداً ليطمئن على إخوته في كهرمان مرعش حيث لا هواتف ولا اتصالات”. وكأن الوقت توقف هنا.
إلى أن وصل الخبر الذي ضاق بحاله أكثر عندما علم أنهم جميعاً تحت ركام البناءات المنهارة وراح لا حول له ولا قوة إلا أن يتابع مصائر أهله في ولاية مرعش التي كانت مركز الزلزال الذي ضرب البلاد.
يصف “سعدو” البرودة الشديدة التي ازدادت مع الدمار وانهيار المباني حيث خيم الهدوء بشكلٍ حَذِر في المكان لكن لا شيء سوى الغبار الذي يعلو المكان وأصوات سيارات الإسعاف تنتشر في كل مكان فكان لا بد من المخاطرة والعودة للبناء لجلب ما يَقيهم بَرْد الشتاء والمطر المتساقط الذي لم يتوقف أبداً.
يشرح “سعدو ” حجم المخاطرة عند الصعود إلى المبنى الذي ربما يسقط في أي وقت يتابع: “صعدت أنا وزوجتي والأقرباء من جيراني إلى المنزل وبينما نحن هناك نحاول جلب ما هو ضروري لنا جاءت الهزة الثانية ظهراً والتي كانت تشبه الأولى”.
“فركضنا فوراً ولم نستطع حتى إقفال أو إغلاق الباب أدركت هنا أنه وبعد ساعات عندما عدت وجدت الباب مفتوحاً والقط الأسود خاصتنا كان مغادراً المنزل من الخوف الشديد ذاهباً وتاركاً الباب مفتوحاً”.
بحزن عميق يقول “سعدو”: هذه اللحظات حفرت في الذاكرة وجعاً هناك وألماً إثر ألم بعد أن أخذت أعزّ ما يملك واصفاً فَقْدَ الأحبة بأنه مؤلم للقلب وتذكُّره يثير الحزن من جديد”.
بحزن شديد يقول: “لم ينجُ أحد من أسرة أخي محمد سوى طفلتين وشاب بعد أن بقوا هو وستةٌ من أفراد أسرته تحت الركام كما أن أختي نجت من تحت الركام بكسور متعددة تعالج منها حتى الآن مع زوجة ابنها وحفيدها لكن الموت سارع ليأخذ حفيدتها”.
يضيف “سعدو” كم هي كارثة كبيرة تُوجع القلب والعقل وتضع السوريين على ضفاف الموت الذي يحاصرهم أين ذهبوا وأينما كانوا
ستترك هذه الكارثة آثاراً نفسية جسيمة على الشعب السوري والإخوة الأتراك.. ولن تندمل جراحها وآثارها بين لحظة وأخرى بل ستطول وتطول كثيراً “.
كما يرى “سعدو” أنها ستؤثر وتحفر حزناً عميقاً في باطن الألم الذي يقول فيه السوريون ألَا يكفينا ما فعله نظام الأسد خلال ١٢ عاماً مضت من كيماوي وبراميل واعتقالات وتهجير وتخريب للبنية التحتية السورية ألا يكفي ذلك؟
حتى يأتي هذا الزلزال اللعين فيحصد أرواح ما تبقى من السوريين ويُسهم هو الآخر في تهجير قسري جديد.
يوضح “سعدو” خلال حديثه حجم الكارثة التي ترتبت على السوريين وهو ما سيدفع الكثيرين للبحث عن ملاذات أخرى أكثر أماناً علاوة على الهموم الأخرى التي ستجعل من السوريين يحملون أعباءً وأحمالاً أكثر مما حملوا رعاية إضافية لما نتج عن الزلزال من فقدان وموت حصد الكثير من اليد العاملة والرعاية الأسرية لعائلات كبيرة هجرها نظام الأسد طيلة سنوات الحرب.
لكن مع ذلك يعتقد “مظهر” أن السوريين وكعادتهم ولما يمتلكون من إرادات قوية رغم الظروف الصعبة التي مروا بها فهم سيخرجون من الألم إلى الأمل بجهد مضاعف يمسكون به كشعلة تنير دربهم المظلم رغم قساوة الحياة التي خذلتهم في كثير من الأوقات لأن يعودوا إلى وطنهم شامخين دون الطغاة الذين عاثوا بالبلاد خراباً. الشعب السوري الشعب الصبور القادر على تجاوز المحن بإيمان وعزيمة لا تهتز منتمين لوطن سوري حر دون النظام الذي حرق ودمر وقتل وطغى وتجبر لكن لا مجال أن يستمر طالما هناك سواعد الأبطال الصابرين في سورية”.
ضرب الزلزال الجارتين تركيا وسورية تحديداً في تمام الساعة 4:17 صباح يوم الاثنين 6 شباط/ فبراير فاستفاق العالم على كارثة لم يعتد عليها أحد رغم تكرارها مخلفةً وراءها الآلاف من الضحايا والمئات من الجرحى والمفقودين الذين لا يزالون تحت الأنقاض حتى الآن وانهياراً شِبه كامل للأبنية في المدن الواقعة في إقليم “الأناضول” وصولاً لإقليم “أكدنيز” في تركيا، كما وصل الزلزال إلى مدينة حلب، إدلب، واللاذقية في سورية.
المصدر: نداء بوست