شكلت الغارة الإسرائيلية بالمسيّرات ضد منشأة لتصنيع السلاح والذخائر في منطقة أصفهان صفعة جديدة للنظام الإيراني الذي كان وما زال يهدد برد قوي ضد إسرائيل اذا ما استهدفت أراضيه. كما أظهرت هذه الغارة حجم الاختراق الإسرائيلي للأمن الإيراني وتحديداً على المستوى الاستخباري. فبعض التحليلات ترجح أن تكون هذه المسيرات الانتحارية قد انطلقت من داخل الأراضي الإيرانية، ما يعني أن هناك جهات تساعد إسرائيل على العمل من الداخل. وتجدر الإشارة الى أن إسرائيل شنت عمليات عدة في السنوات الأخيرة تضمنت تفجير منشآت عسكرية ونووية وحتى اغتيال مسؤولين أمنين وعلماء نوويين في طهران ومدن إيرانية أخرى. وكانت هذه العمليات الاستخبارية نشطة خلال فترة ترؤس بنيامين نتنياهو الحكومة الإسرائيلية وتوقفت عند خروجه من السلطة، واليوم تعود بعد فوزه بالانتخابات الأخيرة وتشكيله حكومة من اليمين المتشدد التي توعدت بعمليات ضد إيران وحلفائها ومنشآتها النووية.
لا تزال المعلومات محدودة عن هذه العملية وعن ما دمرت تحديداً ومدى نجاحها. تقليل إيران لحجم الحدث وإعلانها إسقاط معظم الطائرات ليس بمفاجئ. فهي تريد أن تخفف من حجم الإحراج للخرق الكبير لسيادة أراضيها ولفشلها الاستخباري. فحسب الفيديوات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، هناك انفجارات عدة ما يثبت إصابة مخزن أو مصنع للذخيرة. أما عن مكان انطلاق هذه المسيّرات فيقدر الخبراء أنه إما من داخل الأراضي الإيرانية أو من البحر. ومن غير الواضح لماذا تم ضرب هذه المنشأة بالذات. فهل هذا بسبب استهداف تكنولوجيا محددة هناك؟ أم لأنها قرب منشآت نووية في أصفهان، ما يعتبر رسالة من إسرائيل عن قدرتها على ضربها متى شاءت؟ بكل الأحوال، فإن الهجوم هو رسالة واضحة من إسرائيل الى إيران بأنها ستستأنف عملياتها داخل إيران وبأن لديها القدرة على استهداف أي منشأة في عمق إيران من دون الحاجة الى استخدام طائراتها الحربية أو غواصاتها أو صواريخها الباليستية.
أهمية توقيت العملية أنها أتت بعد أيام قليلة من انطلاق أكبر مناورات عسكرية بين إسرائيل والولايات المتحدة تحاكي غارات ضد أهداف بعيدة المدى اعتبرها العديد من المراقبين استعداداً لعمل عسكري مستقبلي ضد منشآت إيران النووية. فالقلق بات كبيراً من هذا البرنامج الذي أصبح من دون أي مراقبة دولية مع تنامي قناعة في الغرب بأن طهران تملك ما يكفي من اليورانيوم المخصب لبناء رؤوس نووية عديدة وبأنها تحتاج الى أقل من ثمانية عشر شهراً لتسليح رأس نووي. كما تزامنت هذه الضربات مع زيارات لمسؤولين أميركيين مثل مستشار الأمن القومي لمناقشة ملف إيران وحلفائها في المنطقة. ولا يمكن تجاهل ارتفاع منسوب الغضب الأوروبي من إيران بسبب تقديمها المسيّرات الهجومية لروسيا لتستخدمها في حربها ضد أوكرانيا. وبلا شك تشكل التقارير عن عزم موسكو على تقديم تكنولوجيا عسكرية متقدمة لإيران يعتقد أنها ستشمل صواريخ أرض-جو طراز “اس-400″، مصدر قلق كبير لدى واشنطن وتل أبيب نظراً الى الخطر الذي ستشكله هذه الصواريخ على الطائرات الحربية التي قد تحاول مستقبلاً ضرب المنشآت النووية الإيرانية. ولذلك فإن تأخير العمل العسكري ضد طهران لم يعد في مصلحة أميركا وإسرائيل وقد يدفعهما التعاون العسكري الإيراني-الروسي الى تقديمه.
السؤال الذي يتبادر اليوم الى ذهن الجميع هو كيف سترد إيران على هذا الهجوم الإسرائيلي في عقر دارها. فإسرائيل لمحت الى مسؤوليتها عن الهجوم ولكنها لم تتبنه رسمياً. كما أن واشنطن والقوى الدولية الأخرى لم تتهم إسرائيل رسمياً بهذا الهجوم. وعليه، فإن إيران قد تضطر للرد عبر هجمات بطائراتها المسيّرة ضد سفن تجارية إسرائيلية في الخليج العربي أو البحر الأحمر. كما يمكنها أن تستخدم ميليشياتها في سوريا أو “حزب الله” في لبنان لتنفيذ عمليات عبر طائرات مسيّرة ضد أهداف في إسرائيل أو على حدودها. ضربات كهذه سيتم الرد عليها بهجمات أخرى ما سيزيد حتماً من التصعيد العسكري بينهما ويرفع من إمكان الانزلاق الى حرب في المنطقة.
تدرك الحكومة الإسرائيلية مدى خطورة الدخول في تصعيد عسكري مع إيران الذي سيزيد من إمكان الحرب، وبالتالي قد يكون هذا ما تريده اليوم مستغلة الغضب الغربي من إيران، ولوجود نية لدى نتنياهو بإحداث تغييرات داخل الأراضي المحتلة وفي نظام الدولة والتي يمكن أن يحققها في حالة حرب مع إيران وحلفائها في المنطقة. وبالرغم من تحفظ الإدارة الأميركية على حرب إقليمية حالياً، فهي لن تستطيع ترك إسرائيل وحدها في حال اشتعال حرب ضد نظام مغضوب عليه في الغرب مثل إيران.
المعادلة الدولية اليوم في ما يخص إيران وسياساتها الإقليمية وبرنامجها النووي لم تعد كما كانت قبل حرب أوكرانيا، وبالتالي من الخطأ الاستمرار في احتساب الأمور وكأن شيئاً لم يكن. كما أن التطورات على الساحة الأوروبية والتي ربطتها السياسة الإيرانية بالملفات في الشرق الأوسط خلقت فرصاً جديدة للجهات الإسرائيلية والأميركية (وغيرها) التي تريد توجيه ضربة عسكرية لإيران. كما أن تراجع زخم التظاهرات في إيران نتيجة قمع السلطات سيضعف نظرية بعض الجهات الغربية التي تدعو الى تجنب العمل العسكري لمنع تأثيرها السلبي على الحراك الشعبي الذي يهدد النظام من الداخل.
فهناك تظرية أخرى تقول إن العمل العسكري الكبير سيكشف النظام ويظهر مدى عجزه عن حماية أراضيه، ما يسقط الدعاية التي يحاول أن يروج لها لشعبه منذ زمن بأنه قوة ندية لأميركا وإسرائيل وباستطاعته منع أي هجمات على أراضيه ودحرهما في أي مواجهة عسكرية. ولذلك يعتبر أصحاب هذه النظرية أن الحرب ستؤدي الى ثورة شعبية تسقط النظام. وعليه، يجب على دول المنطقة بشكل عام، وتحديداً تلك التي تتواجد فيها إيران، مراقبة ما يجري بدقة وإعادة حساباتها بناء على التطورات العالمية والإقليمية المستجدة.
المصدر: النهار العربي