بعد أن أبحر الجميع في مآلات التطبيع والمصالحة بين الحكومة التركية والنظام السوري برعاية روسية، حيث كان الاجتماع الأهم في موسكو بين وفد تركي يضم وزير الدفاع ورئيس المخابرات، والنظراء من النظام السوري والاتحاد الروسي.
وبعد توقّعات وتصريحات تشير إلى أن اللقاء المقبل بين وزراء الخارجية أصبح قاب قوسين أو أدنى من الحصول، خرجت علينا تصريحات تركية وسوريّة تبيّن أن الأمر بات في طور التأجيل وأن التوقعات تلك ذهبت إلى شهر شباط/ فبراير المقبل، أو قد يكون إلى ما هو أبعد من ذلك.
ما الذي جرى وماذا حصل؟ وما مكنونات الأحداث والتغيرات التي انبثقت؟ ولماذا هذا التعثر أو الارتكاس؟ وهل ما زالت الآمال معقودة حول إعادة المسألة إلى سكتها؟ وهي التي كانت تجري في الخفاء منذ مدة طويلة وصولاً إلى هذا التوقيت، إذ دار الحديث حول إمكانية لقاءات قادمة، ليس بين وزراء الخارجية فحسب، بل بين الرئيس التركي (رجب طيب أردوغان) ورئيس النظام السوري (بشار الأسد).
ولكن يبدو أن الموقف الإيراني الذي تم إهماله وتجاوزه في كل التحركات الروسية، فعل فعله في إعاقة مسار التطبيع أو المصالحة بين تركيا والنظام السوري، المرفوضة شعبياً لدى السوريين المعارضين في الشمال السوري.
ومن ثم فإن إيران التي تعتبر نفسها (أم الولد) جاء من يركنها إلى جانب الطريق، ويلجم تحركاتها، لتكون بلا رأي ولا قدرة على الفعل في هذا المسار الذي قد لا تجد فيه مصلحة لها. وإذا كان علم السياسة لا يقبل بوجود العامل الأوحد أو السبب الوحيد ضمن مسارات السياسة وتغيراتها، فإنه يمكن الحديث ضمن متغيرات التعثر في المصالحة بين النظام السوري وتركيا لتتحدد بحسب رؤيتنا كما الآتي:
- العامل الإيراني الأكثر أهمية في تعثر مسار التطبيع، فقد وجدت إيران نفسها خارج اللعبة، وخارج القوة الفاعلة، وهي من أعادت قيامة النظام السوري على رجليه، بعد أن كاد الوصول إلى حافة الانهيار عام 2013، وإيران وقاسم سليماني من نصحوه باستقدام الروس لحمايته من الزوال، وإيران نفسها صاحبة المشروع الفارسي الطائفي الذي يطول المنطقة كلها، ومنها (بل وأهمها) سوريا، فكيف يمكن أن تسمح بوجود مسارات قد لا يكون لها مصلحة فيها، ولعل الروس والأتراك فقط هم أصحاب المصلحة الأساس فيها، وهي التي تدرك ضعف وهشاشة تركيبة النظام السوري الآيل للسقوط والانهيار، والأضعف في أية مفاوضات قادمة مع الأتراك أو سواهم. من هنا فقد حَمَّلت إيران (نعيم قاسم) نائب أمين عام “حزب الله” رسالة مهمة إبان وجوده في طهران مفادها أنها ممتعضة وعاتبة عتباً شديداً على النظام السوري الذي انخرط ضمن مسارات من دون علمها أو التشاور معها، أهمها التطبيع والمصالحة مع تركيا، وكذلك الدور الإماراتي المنفرد الذي يريد التنسيق لمصالحة بين “الأسد” والسعودية، تمهيداً لإعادة النظام السوري إلى حضن الجامعة العربية.
- المسألة الأخرى التي أسهمت في حالة تعثر أو توقف التطبيع، أن القرار السياسي والسيادي السوري ذهب منذ سنوات طويلة إلى طهران وموسكو، ولم يعد له أي سيادة أو جدية، وأضحت قرارات النظام السوري كريشة في مهب الريح تدفعها رياح طهران أو موسكو حيث تريد أو تشاء.
- يضاف إلى ذلك الموقف الأميركي الذي ما يزال أكثر إصراراً على عدم التطبيع مع نظام الأسد وهو الذي أصبح مصنفاً بحسب القرار الأميركي (ملك للكبتاغون)، مايعني أنه لايشكل خطراً على شعبه فحسب، بل على العالم أجمع، وهو بالاسم أصبح مجرماً مطلوباً للعدالة الأميركية، وهذا ما أدركه الأتراك، ومن ثم فإنّ اللقاء التركي الأميركي ينحو ضمن هذا المنحى ويحاول إقناع الأميركان بتغيير مواقفهم التي لا يبدو أنها ستتغير.
- ولا يمكن نسيان حالة المنافسة الكبرى بين الوجود الروسي والإيراني في الجغرافيا السورية، حيث تشهد مراكز النفوذ والقوى في الجيش والأمن وأيضاً في الاقتصاد الكثير من المنافسات الحادة، التي أدت إلى صراعات على الأرض بين “الفرقة الرابعة” التابعة لإيران دعماً وتبنياً، وما يقابلها من قوى أخرى بدعم روسي، وقد عبّر عن ذلك مؤخراً ما قيل إنه إزالة صور ماهر الأسد من بعض الحواجز التابعة لـ”الفرقة الرابعة”، بأوامر من موسكو.
علماً أن هناك من يقول إن “روسيا لم تعد لديها شهية الانخراط في المسألة السورية، وهي تحاول الإبقاء على مكتسباتها ومصالحها هناك قدر الإمكان، وهذا التغير في الموقف الروسي سيظهر تأثيره لاحقًا، وإيران لا تقدر على سد الفراغ الذي يحدثه الميل الروسي للانسحاب، فموازين القوى تتغير”.
ويبقى السؤال هل ستسمح روسيا لحالة التعثر والتوقف في عملية المصالحة بين تركيا والنظام السوري أن يؤثر عليها الموقف الإيراني، ومن ثم فشل الدور الروسي في ذلك، وهي صاحبة المصلحة الكبرى في استمرار هذه المصالحة، وهي لا تريد أن تعوق مساعي الأتراك في المضي ضمن هذا التطبيع دعماً لموقفهم وتساوقاً مع المزاج الشعبي التركي، تهيئة فاعلة نحو صندوق الانتخابات في حزيران/ يونيو المقبل، وروسيا كما نعلم غارقة في الوحل الأوكراني، ولا تدري كيف تخرج منه سالمة، ولا يوجد أمامها حالياً سوى الدور التركي الكبير الفاعل والمحوري، وهي العضو المهم في حلف الناتو، لتكون الوسيط وصلة الوصل مع الغرب، كي لا يقطع الحبل كلياً في مواقف الدولة الروسية الطامحة.
من هنا فإن التوقعات بحسب رؤيتي تشير إلى أن مسار التطبيع بين النظام السوري وتركيا لن تسمح روسيا أن يتوقف طويلاً، وسيعود إلى سكة قطاره، وهو ما فيه مصلحة روسية وتركية على سواء، لكنه لن يؤتي أكله بشكل كامل أو كبير، بسبب الموقف الأميركي الذي سيبقى رافضاً لإعادة تأهيل نظام الكبتاغون، وبسبب استمرار معوقات الإيرانيين، حيث الرئيس الإيراني قادم إلى دمشق قريباً جدًا، وسيبقى الباب موارباً ضمن هذه المسارات التطبيعية، ولن يغلق كلياً كما أنه لن يثمر الكثير، مع نظام سوري آيل للسقوط وهو في أضعف حالاته وأيامه وعلى حافة الانهيار الاقتصادي والأمني.
وتبقى آمال السوريين غير محققة ضمن حالات المصالحة هذه، وتستمر معاناتهم مع نظام قمعي لا يعرف إلا الحل العسكري والأمني، ولا يمكنه الولوج ضمن أي حل سياسي، لأنّ الحل السياسي الناتج عبر القرارت الأممية ذات الصلة، سيؤدي به إلى الزوال، وهو ما لا تقبل به إيران ولا روسيا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا