كتب الصحافي العراقي عدنان الطائي، مقدّم برنامج “الحقّ يقال” في القناة التلفزيونية “” بمناسبة افتتاح بطولة خليجي 25 لكرة القدم في البصرة: “لا أبالغ إذا قلت إن هذه أجمل أيام العراق. لم أتوقع أبداً أن بطولة الخليج العربي ستخلق فينا هذه الفرحة، وهذا الأمل الكبير بعد يأسٍ طويل.. لحظتان لن أنساهما أبداً: لحظة تشرين ولحظة خليجي 25.. شكراً للبصرة، ولمن عمل على هذه البطولة. شكراً لكل عنصر أمني يحافظ على فرحة العراقيين من سرّاق الفرح”. لخّص الطائي فرحة العراقيين التي شهدناها خلال احتفال افتتاح خليجي 25 غير المتوقعة أبلغ تلخيص، وهو ابن قلعة تشرين الناصرية، المدينة التي تصدّر شبابها ثورة تشرين، وكانوا عقلها وضميرها النقي والناصع طوال شهورها، وهي ما تزال متوقّدة فيهم تحت رماد الانتظار. أوجدت كل المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها العراق منذ الغزو بحراً من اليأس لدى العراقيين من الحكومات المتعاقبة للاحتلال، بضمنها الأخيرة بسبب المحاصصة السياسية المستمرّة والفساد العام الذي انتشر مثل سرطان متسرّب وهابط من أعلى السلطات الثلاث إلى أصغر الزوايا في نسيج المجتمع والعائلة. منذ عشرين عاماً، يعيش العراقيون في ظل هذه الحكومات من دون أي أفق ولا أمل بالتقدّم والبناء والانفتاح وعودة العراق إلى سابق عهده وعودة الحياة إلى طبيعتها.
ليس يوم العراقيين طبيعياً، ولا الزمن الذي يعيشون فيه هو زمنهم الطبيعي، بل كل ما يخصهم يدار من هيمنة إيرانية صارمة تفرض أجندتها واحتلالها الثقيلين في كل الميادين مع شركائها في الأحزاب السياسية والمليشيات التابعة لقيادة الحرس الإيراني. لذا لم يكن في حسبان أيٍّ منا أن تقام هذه الدورة الرياضية بسلاسة، ومن دون تدخل سياسي ومليشياوي، خصوصاً بسبب ظهور صور قبل الافتتاح تشي بأن أصابع المليشيات الولائية لن تكون بعيدة عن البطولة ودس أعمالها التخريبية فيها، فقد نشر الإعلام الحكومي صوراً للفريق العراقي تتصدّرها صور أبو مهدي المهندس وقاسم سليماني اللذين اغتالتهما الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق، ترامب، لكنها ما لبثت أن اختفت، وكأن أمراً صدر برفعها!
ولم ير المشجّعون، في الافتتاح، أي صورة ولا أياً من أعلام هذه المليشيات، بل ازدحم الملعب بالعلم العراقي، فيما صدحت حناجر المشجعين من شباب العراق وشاباته بهتاف “بالروح بالدم نفديك يا عراق”، وهو هتاف ثوار تشرين ومئات الآلاف من المتظاهرين في مختلف مدن الجنوب والوسط قبل عامين، وترديد هتاف آخر “آنا العراقي آني، ألعن أبو سليماني”، في إشارة إلى قائد الحرس الإيراني الذي اغتالته الولايات المتحدة في مطار بغداد. هتاف يذكر بآخر ردّده ثوار تشرين منذ اللحظة الأولى لاندلاع الثورة، “إيران برّة برّة بغداد تبقى حرّة”.
إنها فرحة المحاصر المسجون الذي عبّر عن فرحه بالانعتاق والحرية أول مرّة في أثناء ثورة تشرين، واليوم يعيدها مع مباريات “خليجي 25”. وحالما انجلت الصورة للعراقيين، وتأكّدوا من “تواري” الهيمنة المليشياوية الولائية عن المباراة، هبط آلاف منهم من شمال العراق ومن الموصل ومن الأنبار والفلوجة فرقص أهل البصرة مع أهل الأنبار والموصل على موسيقى “الجوبي أو الدبكة العربية”، في تلاحم رائع آخر لم نشهده إلا في أيام تشرين. ليس ذلك فحسب، بل أضاف حضور الزوار من دول الخليج وعودة اللقاء بهم للمشهد تلاحماً أخوياً استثنائياً انقطع منذ عقود، حينما كان السعودي واليمني والإماراتي والعماني يزور البصرة في سنوات الستينيات والسبعينيات، ليشارك أهلها سهراتهم وحفلاتهم الغنائية ودواوين شعرهم وندواتهم الثقافية، معبرين عن فرحتهم بلقاء العراقيين وزيارة العراق التي اعتبروها أهم من الفوز والخسارة، وهو ما بادلهم إياها الجمهور العراقي.
جاء تنظيم دورة خليجي 25 في الوقت الذي اتخذت فيه الخزينة الأميركية قرارات مهمة بشأن المصارف العراقية التي تهرّب الدولار إلى إيران، وشملت هذه العقوبات 15 مصرفاً، يعود جلها لسياسيين وأدوات لهم، ممن يهرّبون الدولار إلى إيران، عبر عمليات تزوير لسرقة المال العام العراقي، بتواطؤ البنك المركزي العراقي، كما تم اكتشاف تزوير إيران الدينار العراقي بدقة، وتسويقه عبر سورية، لشراء الدولار لحساب إيران بحسب سياسي معارض، لتردّ الأخيرة على ذلك عبر استنفار حكومي، وبالتذكير بأنها موجودة، وأنها صاحبة الأرض والمهيمنة الأولى، وهي من تعيّن رئيس الوزراء والحكومة، متحجّجة بتسمية المباراة بمباراة الخليج العربي، إذ احتجّ برلمانيون إيرانيون على التسمية، وقالوا إن الخليج فارسي. ويعتزم اتحاد كرة القدم الإيراني تقديم احتجاج للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) بهذا الشأن، كما استدعى وزير الخارجية، حسين أمير عبد اللهيان، سفير حكومة الخضراء، وأبلغه احتجاج حكومته على “هذه التسمية الزائفة التي تمسّ مشاعر الشعب الإيراني”!
يقام “خليجي” منذ 40 عاماً، وطوال هذه السنوات لم تحتج إيران على هذه التسمية، لكن ما يؤلم طهران، في هذا الوقت العصيب، المهدد لوجودها وشرعيتها التي زعزعتها التظاهرات المستمرّة في أكثر من 130 مدينة، منذ سبتمبر/ أيلول، ليس تسمية الخليج العربي، بل الخوف من تبخّر عقود المليارات مع العراق، وضياع الهيمنة على اقتصاده وعلى تجارته وصناعته والخوف من عودة علاقات متوازنة مع المحيط العربي، وخصوصاً مع السعودية التي تشيطنها إيران (وأتباعها في العراق)، لكي لا تمدّ أي يد لمساعدة البلد ومد يد العون لشعبه. إنه تذكير للحكومة العراقية ولرئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، الذي استدعاه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى طهران، بعد توزيره، وطلب منه تعويضات عراقية لإيران عن الفترة السابقة التي لم تستفد إيران من وجودها في العراق، قيمتها أربعة مليارات دولار، ما أغضب الولايات المتحدة التي أبلغت السوداني بعدم تسليم الباقي، بعدما قدّم مليارين منها مجاناً.
وفي حين رضخ رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، لاحتجاج وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان وأوعز باستخدام تعبير آخر غير الخليج العربي، فقد ردّد الجمهور العراقي كله أهزوجة هزّت الملعب “هذا الخليج العربي ميصير اسمه أجنبي”. وتهكّم العراقيون على وسائل التواصل الاجتماعي بتعليق انتشر بشكل واسع “عاجل، إيران ترفع مذكرة احتجاج وتطالب بتغيير اسم الكيمر (القيمر) من كيمر عرب إلى كيمر عجم”. “خليجي 25” هو فعلاً المناسبة غير المتوقعة لهبّة عراقية جديدة، التحم فيها أبناء العراق من الشمال إلى الجنوب، غنّوا ورقصوا وابتهجوا وتعانقوا وأكلوا مع بعضهم ومع إخوانهم في الخليج العربي، في أجواء الترحاب والحبّ والمودّة المتبادلة والانفتاح. إنها مناسبة مفرحة لعودة إلى الحياة الطبيعية التي سجنها الاحتلال الأميركي الإيراني بعد غزو بلاد الرافدين. وقد أحدث “خليجي 25” ثغرة في القبة الحديدية التي تجثم على صدر العراق، ليتنفس أهله وشعبه، لكنه أظهر مرة أخرى أن تعطيل شعب بأكمله، وتعطيل حياته ومستقبله، وتوكيلها لمحتل هو أمر لا يدوم.
مثلما بعد أكثر من 40 عاماً من قبضة حديدية في إيران تخرج نساؤها وشبابها وطلابها ينادون بالحرية، ويكسرون السلاسل الحديدية التي تخنقهم، وتخنق أجيالاً جديدة تتوق للمساواة والتطور وللحداثة وللأمل وللانفتاح ولمستقبل خالٍ من الحروب والتدخلات في شؤون الشعوب المجاورة، رأينا الشعب العراقي في ملعب البصرة متعطشاً للحرية واسترجاع بلده وأرضه من هيمنة طهران.
المصدر: العربي الجديد