من الواضح أن لكل طرف من أطراف مسار أستانا الذي بدأ في كانون الثاني/يناير 2017 (روسيا، تركيا، إيران)، أولوياته ومشكلاته، وذلك حسب التحديّات الداخلية والإقليمية والدولية التي يواجهها.
فروسيا بعد إعلانها الحرب على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير المنصرم، اعتقدت أن حسم الأمور بسرعة هناك سيُضاف إلى ما حققته في سوريا على صعيد خفض مناطق التصعيد، وكسب المزيد من الأراضي لصالح سلطة بشار الأسد، وعرقلة مسار جنيف الذي كان قد بدأ في كانون الثاني/يناير 2014 إلى حد الجمود، واختزال عملية الانتقال السياسي التي كان من المفروض أن تعتمد بيان جينف 1 لعام 2012 وقرار مجلس الأمن 2254 لعام 2015 أساساً لها، في لجنة دستورية عقيمة لم ولن تثمر أي شيء.
ولكن الذي حصل كان العكس تماماً، فقد منيت بخسائر بشرية ومادية كبيرة، في غزوها، وتعرضت لعقوبات قاسية، ما زالت مستمرة متصاعدة. كما لم تحظ بالدعم الذي كانت تمني النفس به من جانب الصين والهند. وأثر كل ذلك، وسيؤثر، في الأوضاع الداخلية، وذلك بخلاف الصورة التي تحاول الدعاية الروسية الرسمية تسويقها.
أما إيران، فقد اصطدمت مشاريعها التوسعية التي تسببت في زعزعة الاستقرار في الجوار الإقليمي عبر خلخلة المجتمعات والدول، وتشجيع كل أشكال الفساد والإفساد فيهما؛ بردّات فعل شعبية قوية في العراق ولبنان، وهما البلدان التي كان الاعتقاد بأن سيطرة نظام ولي الفقيه عليهما قد اكتملت. والاستعدادات جارية على قدم وساق لبلوغ وضعية مشابهة في كل من سوريا واليمن، تمهيداً لفتح جبهات أخرى.
إلا أن الذي حصل هو أن الأوضاع تفجرت في إيران نفسها، وتبين للقاصي والداني أن النظام الذي كان يقدم نفسه بوصفه النظام الذي لا يُقهر، هو أضعف من أن يواجه انتفاضة نسائية، بدأت بعد إقدام أجهزة نظام ولي الفقيه على قتل مهسا أميني ابنة 22 ربيعاً، الأمر الذي اثار انتفاضة عارمة شملت مختلف المدن والمناطق الإيرانية، وامتدت إلى الجامعات والمدارس والأسواق؛ وكل ذلك يؤكد بأن تراكمات الاستبداد والفساد على مدى أربعة عقود قد بلغت مرحلة خطيرة من التعفن.
أما تركيا، فيبدو أن الأوضاع الداخلية هي التي تشغل بال قيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم. فالأوضاع الإنسانية ليست على ما يُرام، والقضية الكردية الداخلية ما زالت بعيدة عن الحل، والانشقاقات ضمن حزب العدالة والتنمية، إلى جانب القيود المتزايدة على حرية التعبير قد أسهمت هي الأخرى في تراجع حجم التأييد الشعبي للحزب المعني، وهو الأمر الذي استغلته أحزاب المعارضة. وفي الوقت ذاته هناك دعوات صريحة من جانب بعض أحزاب المعارضة تطالب بالعمل على التفاهم مع سلطة بشار الأسد لإعادة اللاجئين السوريين (نحو 4 ملايين) إلى بلادهم.
ومن الملاحظ أن الضغوط المتعددة المصادر قد دفعت بحزب العدالة والتنمية أيضاً إلى تبني هذه السياسة بهذه الصيغة أو تلك؛ وهذا ما أدى إلى تعرض اللاجئين السوريين بصورة شبه يومية لحملات التنمّر والتضييق والتهديد بالترحيل. كل ذلك يأتي في خضم استعداد هذا الحزب لخوض غمار المعركة الانتخابية الرئاسية والبرلمانية في الصيف المقبل. وهناك خشية من تكرار تجربة الحزب في انتخابات رئاسة بلدية اسطنبول، لذلك باتت قضية مواجهة خطر حزب العمال الكردستاني وواجهاته السورية على الحدود الجنوبية، إلى جانب قضية اللاجئين السوريين في مقدمة القضايا التي تحاول الحكومة التركية الاستثمار فيها. وقد تزامن ذلك بالعودة إلى مبدأ تصفير المشاكل مع الدول الإقليمية بهدف تحريك العجلة الاقتصادية من خلال إعادة تصدير المنتجات التركية إلى الأسواق التي حرمت منها نتيجة الخلافات السياسية.
روسيا تدرك أهمية الموقع الجيوسياسي لتركيا، وهي على اطلاع كامل بطبيعة الهاجس الذي يشغل بال اردوغان أكثر من غيره، لذلك تحاول بشتى السبل استمالته، عبر منحه امتيازات استثنائية في خضم أخطر أزمة تواجهها أوروبا، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945. ومن هذه الامتيازات، الموافقة على عقد مباحثات مشتركة بين الجانبين الروسي والأوكراني برعاية تركية في اسطنبول في الأشهر الأولى من الحرب؛ يُضاف إلى ذلك امتياز منح تركيا مع الأمم المتحدة، دور الوسيط في عملية تصدير القمح من الموانئ الأوكرانية والروسية عبر البحر الأسود، مروراً بالمضائق التركية، وصولاً إلى الأسواق العالمية. واليوم هناك خطة لجعل تركيا مركزاً لتجميع الغاز، وتصديره باتجاه أسواق الاستهلاك، خاصة في أوروبا.
وطبيعي أن هذه الامتيازات لن تكون من دون مقابل. فهناك رغبة روسية في فك العزلة عن سلطة بشار الأسد عن تركيا، وذلك بعد فشلها في تحقيق ذلك عن طريق مؤتمر القمة العربية الأخير الذي انعقد في الجزائر.
فروسيا تدرك أن أي نجاح لها في سوريا سيفتح الطريق أمام بناء علاقات أوسع مع الدول العربية، لا سيما في منطقة الخليج، وسيمكّنها ذلك من استخدام الورقة السورية لبلوغ صفقة محتملة مع الغرب في الموضوع الأوكراني؛ هذا مع مراقبتها المستمرة لعملية تبلور المعادلات الدولية والإقليمية المستجدة، خاصة على صعيد تطور العلاقات بين الدول العربية والصين، بعد زيارة الرئيس الصيني الأخيرة إلى الرياض حيث شارك في القمم الثلاث.
ومن البيّن أن هذه الرغبة الروسية تلامس حاجات حزب العدالة والتنمية نفسه في الداخل التركي، وذلك في ما يتصل بموضوع اللاجئين السوريين وحزب العمال الكردستاني. فحزب العدالة، رغم معرفته العميقة بطبيعة العلاقة بين حزب العمال الكردستاني عبر واجهاته المختلفة مع سلطة بشار الأسد، يحاول تسويق صورة مفادها أن هذا الحزب قد تمكن من تثبيت قواعده في الشمال السوري بفضل الدعم الأمريكي له. هذا في حين أن الجميع يعلم أن تواصل الجانب الأمريكي مع هذا الحزب قد تم في سياق التفاهمات التي جرت مع الروس في عهد أوباما وتحديدا في عام 2015، وذلك حينما تم التوافق بين الطرفين على اعطاء الأولوية في سوريا لمحاربة الإرهاب، وتم توزيع المناطق بينهما على هذا الأساس؛ فكانت منطقة شرق الفرات، لقربها من العراق، ميدان عمليات التحالف الدولي بقيادة أمريكا التي اكتفت بعدد محدود من الخبراء والمدربين والمستشارين؛ واعتمدت في المقابل على قوات «حماية الشعب» التابعة عملياً لحزب العمال الكردستاني؛ وهي القوات التي بدأت تعرف لاحقا بـ «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) لتسويقها على أنها تمثل النسيج الوطني السوري.
هذا في حين أن منطقة غرب الفرات، وامتدادتها مع الساحل السوري، حيث الوجود الروسي في قاعدتي طرطوس وحميم، أصبحت ساحة عمليات الروس، وكان التنسيق العسكري في المهمات الجوية والأرضية يؤكد بما لا يدع أي مجال للشكل بوجود تفاهم بين الطرفين الأمريكي والروسي حول أدق التفاصيل.
غير أن الأمور ما زالت ملتبسة رغم كثرة التصريحات. فإيران حاضرة بقوة في الساحة السورية، ومتغلغلة في الأجهزة الأمنية والعسكرية. وهي رغم انشغالها بأوضاعها الداخلية، لن ترضى بصفقة تعتبرها على حسابها. كما أن موضوع عودة سلطة بشار الأسد إلى الشمال بحجة محاربة الإرهاب، لن يقتصر على منطقة شرق الفرات فحسب، بل سيشمل غرب الفرات أيضا وصولا إلى منطقة إدلب، وهي المنطقة الأقرب إلى الساحل السوري حيث مركز ثقل سلطة بشار الأسد. من جهة أخرى هناك شكوك بقدرة السلطة المعنية على تحمّل أعباء أكثر من عشرة ملايين سوري بين مقيم في شرق الفرات وغربه، إلى جانب اللاجئين الموجودين في تركيا حاليا.
هذا مع العلم أن القرار الأخير في نهاية المطاف بخصوص هذا الموضوع سيبقى بيد الأمريكان الذين باتوا بعد الحرب الروسية على أوكرانيا أكثر قناعة بأن مبدأ القيادة من الخلف، الذي اعتمده أوباما في سوريا، لم يؤد إلى ما تم التبشير به في حينه. وبالتالي تبقى الورقة السورية ورقة هامة، لن تفرّط بها أمريكا طالما أن روسيا هي الطرف المستفيد الأساسي منها.
المصدر: القدس العربي