كلام المدعي العام يضع مسؤولية إنشاء وإنهاء عمل جهاز “شرطة الأخلاق” في دائرة صلاحيات المرشد الأعلى. قد يكون من الصعب العبور على الكلام الصادر عن المدعي العام الإيراني محمد جعفر منتظري، الذي كشف فيه عن حل جهاز “شرطة الأخلاق”، وأن الجهة التي أمرت بتشكيل هذا الجهاز هي التي أصدرت أمر حله وإنهاء عمله. لأن هذا الكلام على وضوحه يضع المسؤولية عن أداء وأعمال هذا الجهاز عند جهة محددة تقف خلف المؤسسة التي أعلنت عن إنشائه وحددت مهامه ودائرة عمله وآلية تنفيذها وتطبيقها.
تيار السلطة أو المنظومة الحاكمة، الذي أصيب بنوع من الإرباك بعد كلام منتظري، يتخوف من أن يؤدي هذا القرار إلى سلسلة جديدة من التنازلات التي سيكون النظام مجبراً على تقديمها نتيجة ضغط الشارع والمطالب والتظاهرات والاعتراضات الشعبية بغض النظر عن عفويتها أو انتمائها لأي من قوى وأحزاب المعارضة في الداخل أو الخارج.
ونتيجة لهذا الخوف ومحاولة إبعاد المسؤولية عن نفسه الناتجة عن أداء هذا الجهاز وما أحاط به من سلبيات ونقمة اجتماعية، سعى للعودة إلى لحظة التأسيس ورميها على كاهل المرحلة الإصلاحية أواخر عهد الرئيس محمد خاتمي، عندما أصدر المجلس الأعلى للثورة الثقافية قرار إنشاء دائرة مكافحة ظواهر الفساد الاجتماعي “مشروع العفاف” وذراعه التنفيذية والميدانية المعروفة “شرطة الأخلاق”.
هذ الكلام قد يكون في ظاهره يضع المسؤولية عند خاتمي، كون رئيس الجمهورية يتولى مهمة رئاسة المجلس الأعلى للثورة الثقافية دستورياً، على غرار توليه رئاسة المجلس الأعلى للأمن القومي، إلا أن المرشد الأعلى في المقابل هو الجهة التي تتولى حصراً المسؤولية عن تعيين أعضاء وأفراد هذا المجلس، كما في المجلس الأعلى للأمن القومي، مع فارق أن الدستور يحدد الأعضاء الأساسيين في الأمن القومي، من رؤساء السلطات وقادة القوات المسلحة، وجميع هؤلاء يتم تعيينهم في هذه المواقع من قبل المرشد مباشرة بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة، وإما بشكل غير مباشر عبر مجلس صيانة الدستور الذي يعينه المرشد.
انصياع خاتمي في أواخر رئاسته لقرار المجلس الأعلى للثورة الثقافية جاء في سياق الضغوط التي فرضها النظام عليه، لتمرير جملة من القرارات والخطوات قبل انتقال السلطة إلى خلفه المعين عبر صناديق الاقتراع محمود أحمدي نجاد، كما حدث في قرار تعليق العمل في الاتفاق مع الترويكا الأوروبية (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا) ومنسق العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي خافيير سولانا حول البرنامج النووي الموقع في أكتوبر (تشرين الأول) 2004 والعودة إلى تخصيب اليورانيوم.
ما يعني أن كلام المدعي العام يضع مسؤولية إنشاء وإنهاء عمل جهاز “شرطة الأخلاق” في دائرة صلاحيات المرشد الأعلى، وبالتالي يضع مسؤولية الأعمال والأداء الذي قام به هذا الجهاز عند المرشد، الذي اتخذ قرار حل الجهاز بعد تصاعد أعمال الاحتجاج والاعتراض على عمل الأجهزة التي تفجرت نتيجة مقتل الفتاة مهسا أميني، وتوسعت للتحول إلى حركة اعتراض واحتجاج على سياسات النظام الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغياب الحريات الإعلامية والتعبير والشخصية. ولعل ما قاله قائد الشرطة العام الجنرال حسين أشتري عن قرار عزل القائد الإقليمي للشرطة في محافظة سيستان – بلوشستان، بعد إطلاق النار على المتظاهرين وسقوط العشرات، بأنه صدر عن النظام الذي يحاول استرضاء الزعيم الديني لأهل السنة مولوي عبدالحميد، وهو يشكل مؤشراً إلى مسؤولية المرشد الأعلى في تعيين وعزل قادة الأجهزة.
وبعيداً عن الخلفيات التي تقف وراء كلام المدعي العام، إلا أن الحقيقة التي تكشف عنها هذه الإجراءات، والتي تضاف إلى الحديث عن اجتماعات ونقاشات بدأت تجري خلف الكواليس بين الجهات المعنية بالبعد القانوني الذي شكل جزءاً من شرارة الاعتراض، تدور حول الآليات التي تساعد في الخروج من مأزق التوفيق بين الهوية الدينية للنظام والآليات التي تسمح بتعديل قانون الحجاب ووضع آليات جديدة للتعامل مع ظاهرة السفور أو عدم إلزامية الحجاب، خصوصاً تلك المتعلقة بالتعامل مع السافرات من الناحية القانونية وحقوقهن المدنية والإدارات الرسمية.
هذه النقاشات وما يمكن أن تسفر عنه من تعديلات وتغييرات لا تلغي حقيقة أن النظام وأجهزته يحاولون اللحاق بالمتغير الاجتماعي والثقافي الذي فرضته الحركة الاحتجاجية، وما قامت بها من انتزاع مطلبها بإلغاء إلزامية الحجاب على رغم إرادة النظام والسلطة الدينية. وبالتالي باتت السلطة مجبرة على التعامل مع أمر واقع والبحث عن آليات للتوفيق بين ما يجري في الشارع وضروراتها الأيديولوجية والعقائدية وهويتها الدينية.
وعلى رغم مكابرة النظام وأجهزته ومحاولة إنكار الواقع المستجد والمتحول الاجتماعي الحاصل، يبدو أنه بات مجبراً على الاعتراف بوجود شرخ كبير بينه وبين القاعدة الشعبية التي انصرفت عنه، ولم تعد على استعداد للسكوت عنه وعن سياساته على مختلف المستويات، وبالتالي باتت على استعداد لخوض المواجهة معه بعيداً عن أي حسابات، بخاصة عدم التوازن في القدرة على المواجهة واستخدام أجهزة القمع والملاحقة والقتل دفاعاً عن مصالحه واستمراره في السلطة والحكم.
من الواضح أن ما حققه الشارع في مسألة الحجاب وإجبار النظام على الاعتراف بهذه الحقيقة ومحاولته التعامل معها ومع هذا التغيير والعمل على تطويع القوانين لتنسجم مع هذا المستجد، بدأ ينعكس على داخل التيار المحافظ بين المتشددين والأصوليين. وأن الانقسام بين هذين الجناحين بدأ يظهر إلى العلن بخاصة بين دعاة التفكير في الآليات التي تساعد على منع تصاعد الاعتراضات ومحاولة استيعابها، والمطالبين بمعاقبة اللواتي لا يلتزمن الحجاب وحرمانهن من دخول المؤسسات الرسمية والتعليمية وغيرها، وصولاً إلى تبادل الاتهامات لمعتقدين بضرورة الحوار بالتنازل والخضوع لهذه المطالب التي لن تقف عند هذا الحد، وأن أي تنازل سيجبر النظام في المستقبل وأمام أي حالة اعتراضية على تقديم تنازلات جديدة، وبين اتهام المتشددين بالسعي لإشعال الشارع رفع فاتورة الثمن الذي سيدفعه النظام.
ولعل ما قاله مسؤول دائرة التنسيق في حرس الثورة والقائد السابق لقوات التعبئة الشعبية “الباسيج” والتي تتحمل جزءاً أساسياً في المواجهات في الشارع مع المحتجين، محمد رضا نقدي، من أن النظام قد خسر هذا الجيل من الشباب وفشل في استقطابه وأن المطلوب العمل للرهان على الجيل القادم وتربيته بما ينسجم مع أهداف النظام الأيديولوجية والعقائدية ويكون قادراً على الدفاع عن هويته الثقافية والفكرية، في محاولة للقفز على فشل النظام في إدراك المتغير الاجتماعي الحاصل، بخاصة وأن الجيل الذي يمسك بالشارع اليوم هو نتيجة المرحلة التي كان نقدي يتولى فيها مسؤولية قيادة الباسيج، وبالتالي يؤكد فشل السياسات الثقافية الطاردة والإقصائية التي اعتمدها النظام في مخاطبة الطبقات الاجتماعية وأدت إلى تراجع قاعدته الشعبية.
المصدر: اندبندنت عربية