الفوهرر الألماني آمن بالربوبية وطارد الكاثوليكية وسعى في طريق المسيحية الإنجيلية الأبوكريفية وقادته رؤاه إلى انتكاسة إنسانوية.
بعد قرابة ثمانية عقود على نهاية الحرب العالمية الثانية، والنهاية الغامضة للزعيم الألماني أدولف هتلر، تلك المختلف حولها حتى الساعة، بين فريق يؤكد انتحار الديكتاتور الألماني، وآخر يذهب إلى قدرته على الهروب والتخفي تحت اسم وشكل مستعار في أميركا اللاتينية، ومن ثم وفاته في عمر التسعينيات، تبقى هناك تساؤلات تراثية حائرة حول منطلقات الفوهرر (الزعيم أو القائد بالألمانية)، وعن معتقداته الروحية والدينية، التي كانت في بدايات حياته، وكيف تحولت بوصلته إلى عكسها تماماً، عطفاً على الطروحات والشروحات التي جادت بها قريحته، وجعلت منه القاتل الثالث من حيث عدد الضحايا في القرن العشرين، بعد ستالين وماوتسي تونغ.
ما قصة الداروينية الاجتماعية والمسيحية الإيجابية، التي تسبب إيمان هتلر بها في سقوط أكثر من ستين مليون قتيل في الحرب العالمية الثانية؟ وبأي شخوص تأثر، مندفعاً في طريق ترجيح فكرة الانتخاب الطبيعي، ومن ثم مطاردة الأقليات؟ وهل كان يهود ألمانيا فقط ضحايا “الهولوكوست” البشعة، أم أن هناك جنسيات أخرى لاقت المصير نفسه؟
هل كان هتلر مسيحياً يوماً ما؟
المؤكد أن هتلر ولد في أسرة ألمانية لها جذور مسيحية، غير أنها كانت ممزقة بين أم متدينة، كلارا، وأب، ألويس، لطالما اعتقد أن الدين في جوهره عبارة عن عملية احتيال.
مثير جداً أمر هتلر والمسيحية، فقد بدا في طفولته مسحوراً بالكنيسة الكاثوليكية، وطقوسها، وهيراركيتها، بل إن مؤرخاً لسيرة الفوهرر الذاتية، فريتز ريدليتش، يذكر في كتابه المعنون “هتلر… تشخيص لنبي مدمر”، أن هتلر ربما فكر لفترة من الوقت أن يضحى كاهناً كاثوليكياً.
غير أن هذه النظرة تغيرت طولاً وعرضاً، شكلاً وموضوعاً مع سنوات المراهقة، وفي عمر الصبا والشباب، حينما كان هتلر يخوض غمار الحرب العالمية الأولى، ومعها تغيرت أفكاره، لينتقل من صف كلارا الأم، المسماة على اسم الأخت التي شاركت المتصوف الإيطالي الأشهر فرنسيس الأسيزي في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، إلى الجانب الآخر حيث يقف والده، الذي تصارع معه فكرياً طويلاً جداً، والذي لم يكن له يوماً ما أي مودة، على خلاف علاقته بأمه، ليخرج بيقين أن المسيحية التي بشر بها عيسى الناصري ليست سوى عكاز للضعفاء وقد حان أوان اجتثاثها، وتدمير مؤسساتها، وتغيير بنيتها الفكرية، وتحويلها إلى نسق دوغمائي آخر.
عن هتلر بين الإيمان والإلحاد
يوضح لنا المؤرخ البريطاني آلان بولوك، أشهر مؤرخي الحقبة الهتلرية، كيف كانت المسيحية في أعين هتلر ديناً لا يناسب سوى العبيد فقط، ويصدق على رؤية والده والتي قوامها أنها جاءت من أجل الغبيات أو العجائز من السيدات.
تبدو هناك حلقة تحول مفقودة وغير واضحة حتى الساعة تجاه هتلر، المغرم بالمؤسسة الكاثوليكية أول الأمر، ثم الذي لا ينفك يتحول إلى غاضب منها بسبب شعوره بعجزه تجاه قوتها الهائلة، والتي أخفق في استبدالها بما سماه العلم والعقل.
هل كان هتلر مؤمناً يداري ويواري إيمانه أم أنه كان ملحداً؟
الشاهد أن استعراض حياة الزعيم النازي وما كتبه عنه المؤرخون يقدم لنا أدلة واضحة على عدم وجود ذرة من إيمان مسيحاني لديه.
هذا ما يؤكده أيضاً المؤرخ البريطاني لورانس ريس، والذي يقطع بأنه ما من دليل على أن هتلر وفي حياته الشخصية قد أعرب عن اعتقاده في المبادئ المسيحية.
وبالرجوع إلى عدد من مذكرات وزير الإعلام النازي جوزيف غوبلز، وما يعرف بجدول مناقشات هتلر، نخلص إلى عدد من التصريحات الخاصة عن المسيحية والتي يرى فيها هتلر الدين المسيحي بالسخيف، المخالف للتقدم العلمي والمدمر اجتماعياً.
قدم هتلر في بداية مشواره السياسي الدعم للكاثوليكية الألمانية، لكن مع وصوله إلى سدة الحكم وقيادته الرايخ الثالث أغلق جميع الكنائس وكل المنظمات الكاثوليكية في البلاد، وقرر اضطهاد الكاثوليك رسمياً، بل سمح لوزير دعايته غوبلز ولهيملر قائد “الغستابو” (جهاز الاستخبارات) وبورمان أقوى قادة الجيش الألماني باضطهاد المسيحية في البلاد.
اعتبر هتلر مادياً سياسياً، بحسب بولوك، ولم يستنكف عن القول إن المسيحية تقف في وجه قوانين الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح.
هل تأثر هتلر بحركة “فولكيش”؟
مثير أمر الألمان في أوائل القرن العشرين، والأكثر إثارة هو تلك الحركات الشعوبية التي نشأت في وسطهم، ومنها ما عرف باسم حركة “فولكيش”، والتي مالت إلى إحياء التقاليد والعادات الوثنية الغامضة بين الشعب، وكانت قد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر.
تبدو “فولكيش” كحركة عرقية وقومية ألمانية تم تشييدها على فكرة “الدم والتربة”، المستوحاة من أطروحة “الجسد الواحد”، وفكرة المجتمعات التي تنمو بشكل طبيعي في وحدة عضوية.
تميزت حركة “فولكيش” بالعنصرية ومعاداة السامية، فيما كان القاسم المشترك الوحيد بين جميع منظري “فولكيش” هو فكرة النهضة القومية المستوحاة من التقاليد المعاد بناؤها للألمان القدماء، حيث كان من الممكن أن تتحقق هذه النهضة إما عن طريق “جرمنة ” المسيحية، أي صبغها بمسحة ألمانية، أو برفض أي تراث مسيحي كان موجوداً في ألمانيا قبل المسيحية.
ولعله من المعروف أن النازيين احتفلوا في عام 1920 بعيد الميلاد لأول مرة في ميونيخ، من منطلق حدث آخر لا علاقة له بمولد السيد المسيح، بل احتفال قوامه الانقلاب الشمسي، وهي الفكرة الوثنية القديمة، التي استبدلت بها المسيحية الأولى الكريسماس، في 25 ديسمبر (كانون الأول) من كل عام.
وفي خطاب لهتلر عام 1920 نجد جذوراً لرؤيته النازية التي ستتسبب في دمار العالم لاحقاً، إذ يرى أن الآريين بنوا طوائف نور، أينما استقروا عبر التاريخ، على رغم أن هتلر ربما يكون قد تعامل مع حماسة “فوليكش”، لكنه من غير المرجح أنه كان يؤمن بالصلاحية الميتافيزيقية لجوانبها الوثنية.
هتلر والدين… علاقة انتهازية
أحد أفضل المؤرخين الذين تناولوا شأن هتلر وعلاقته بالدين بشكل عام، المؤرخ البريطاني السابق الإشارة إليه لورنس ريس، والذي يقطع بأنه لم يكن له علاقة بأي عقيدة إيمانية أو معتقدات كنسية.
كانت روابط هتلر بالدين والمؤسسة الكاثوليكية انتهازية لا أكثر، إنه الرجل الذي لم يكن يؤمن بالله، ولا بالضمير.
في مؤلفه الشهير “كفاحي”، الذي يحتوي على سيرته الذاتية، كتب هتلر بقوة داعماً الكنيسة الكاثوليكية وتقاليدها في السلطة والعقيدة.
لم يكن ذلك من منطلق أي حب لمحتوى عقيدة الكنيسة، ولكن لأنه كان يعتقد أن النازيين يمكنهم استخدام مثل هذه الأشكال لخلق اعتراف سياسي خاص بهم، والانتقال من الشعور بـ”فولكيش” إلى الإيمان المطلق باستقامة النازية العنصرية الفوقية.
هذا التوجه الفكري حول هتلر وعلاقته بالدين يؤكده ألبرت شبير، الذي يكتب عن رؤية هتلر للمسيحية بنوع خاص، بوصفها ديانة خاطئة.
هل كان في نية هتلر القضاء على المسيحية مرة وإلى الأبد، وإبدالها لاحقاً بتوجه ديني عقدي آخر؟
الثابت من نقاشات هتلر مع مستشاريه قوله إن المسيحية ديانة أسطورية والعلم يحطمها، وسيثبت يوماً أنها أسطورية، وبدخول عام 1932 أخبر هتلر رجل دعايته غوبلز بأنه “يود لو تسنح له الفرصة لاستئصال المسيحية من العالم كله… فهي داء خطير”… ترى ما البديل الذي كان هتلر يعده لألمانيا، وربما للعالم المسيحي في أوروبا أول الأمر، وتالياً لبقية المعمورة.
الربوبية الهتلرية والمسيحية الاجتماعية
مرة جديدة وللوقوف بيقين على معتقدات الفوهرر، نعود إلى سيرته الذاتية “كفاحي”، حيث يظهر بوضوح تفسيره للمسيحية، إذ اعتبر أنه يعمل وفقاً لما سماه إرادة الخالق القدير، وفي دفاعه عن نفسه ضد ما ارتكبته يداه من جرائم ضد اليهود قال ذات مرة “إنني أحارب من أجل عمل الرب”، مما جعل كثيرين يذهبون إلى أنه يؤمن بفكرة الربوبية.
وفي موقع آخر يذكر أن “مؤسس المسيحية أظهر تقديره للشعب اليهودي، لكن عندما وجد أنه من الضروري محاسبتهم طرد هؤلاء الأعداء من الجنس البشري، على حد وصفه، من هيكل أورشليم”.
تالياً، وحين قدر لهتلر التمكين التام، وكتابة برنامج الحزب النازي عام 1920، نجد تفسيراً هتلرياً للأناجيل عبر ما بات يعرف باسم “المسيحية الاجتماعية”… ماذا عن هذا المفهوم؟
عند المؤرخ النازي الشهير كونراد هايدن يذهب هتلر إلى القول “نحن لا نحتاج إلى إله آخر سوى ألمانيا، ولا يكون الحب والإخلاص إلا لها”.
من هنا تتأكد فكرة إيمانه بالربوبية، أي وجود رب خالق للكون وليس أكثر، فيما النازية أسست على علمانية قائمة على العلم المادي التجريبي المجرد، والمفرغ من ثوابت الإيمان المسيحي المتعارف عليه منذ ألفي عام.
صنفت مسيحية هتلر الإيجابية من قبل كنائس أوروبا على أنها نوع من أنواع الهرطقة والإلحاد المعاصر، لا سيما أنه ينكر كون المسيح جاء من نسل يهوذا، أي من أحد أسباط بني إسرائيل الاثني عشر، كما يرفض نسب الأناجيل الأربعة إلى الحواريين اليهود في الأصل.
هتلر وإنشاء دين جديد للبشرية
يبدو من الطبيعي جداً أن يتسق فكر هتلر الخاص بالشعب الآري، مع رؤيته لدين جديد للبشرية، ومسيحية مغايرة، عن تلك التي جاء بها السيد المسيح قبل ألفي عام.
لكن القراءة المحققة والمدققة لما اقترحه هتلر سوف تقودنا لاحقاً إلى كارثة لا تحد ولا تسد، وكما رأينا في الحرب العالمية الثانية.
ارتكزت مسيحانية هتلر النازية على عقيدة أخلاقية تسمى “أوامر الخلق”، التي ترى أن خلق الله للبشر كفئات متباينة في القدرات أمر مسلم به، وأن أي تجاوز لهذا المبدأ أو حتى محاولة إصلاحه بالتقريب بين هذه الفئات يعتبر انتهاكاً لأمر الله المقدس.
من هنا يتفهم المرء التوجهات الاستبدادية التي سعى هتلر في إثرها، ولم يعد الاعتراض على أوامره مجرد رفض لسياسات وطنية، بل مخالفة للدين ولله كذلك.
كانت رؤية هتلر للمسيحية الخاصة به ضرب من ضروب الاستبداد المزدوج، فلكي يضمن قبضته المشددة على كل توجهاته السياسية، وتالياً العسكرية، دمج بين مهابة الديكتاتور وسلطة رجال الدين.
بلغ المشهد الهتلري حداً من الهوس لخدمة تلميع صورته، فتم تقديمه على أنه “وحي من الله لتخليص الأمة الألمانية من مصائبها”.
واكتملت درجات السعي المحموم لتقديس الذات الهتلرية، من خلال اعتباره امتداداً لمؤسس المسيحية الأولى، ولأفكاره ولرؤيته في تطهير العالم.
كانت المحصلة أن هتلر اعتقد في أن اتباع “مسيحيته” هذه يكفل وقاية المسيحيين من كل الاختلافات العقائدية والمذهبية التي فرقت بينهم، والتي سيتم التغاضي عنها جميعها عبر التوحد تحت مظلة أيديولوجيا القومية النازية.
هل كانت مسيحية هتلر الإيجابية داروينية اجتماعية مقنعة؟
هتلر الدارويني الاجتماعي الأخطر
في خطب هتلر وكتاباته الأولية نجد ذكراً واضحاً لفكرة “القوانين الطبيعية”، لا سيما حين يتحدث عن الدين، واصفاً العالم بأنه مسيرة تحكمها الداروينية الاجتماعية.
ذهب هتلر إلى أنه لن يكون من الممكن تصور عالمنا البشري هذا من دون الوجود العملي لمعتقد يديني.
كان هتلر مادياً علمانياً، حارب من أجل الانتخاب الطبيعي، وحاول أن يجعل منه أيديولوجية ألمانية للقرون العشرة المقبلة… أي الرايخ الذي سيحكم ألف سنة على حد تفصيله لاحقاً.
أصبح هتلر من أوائل الذين يقومون بتطبيق الانتخاب الطبيعي عملياً، ومن أوائل الشخصيات التي استوعبت الداروينية بصورتها الحقيقية.
أسس هتلر، وانطلاقاً من رؤيته الداروينية، حيث البقاء للأقوى والأصلح، تلك الرؤية الشمولية غير الإنسانية، فرقة إبادة الأقليات عديمة الجدوى، كما كان يطلق عليها.
كان يتم تجريد الضحايا من أية أدوات نافعة مثل حشوات الأسنان الذهبية، ثم يقوم الضحايا بحفر القبور بأيديهم ويقتلون وهم واقفون في وسط القبر، بمنتهى الترشيد والعقلانية المادية العلمانية.
ومن آيات الجنون الدارويني الهتلري أنه في منتصف يوليو (تموز) من عام 1933 أصدر هتلر قراراً بتعقيم 400 ألف شاب عن طريق تمريرهم على ترددات عالية من أشعة “إكس”، حتى يفقدوا القدرة على الإنجاب، كانوا مصابين بأمراض نفسية وعصابية كثيرة جداً، ربما تضر الأجنة.
ضحايا الداروينية يهود وسلاف وغيرهم
عرف التاريخ المعاصر للقرن العشرين “الهولوكوست” كواحدة من وصمات العار، تلك التي لصقت بالنازية، وستظل طالما بقيت هناك أضابير للتاريخ.
غير أنه من الموضوعية الإشارة إلى أنه وبجانب يهود ألمانيا فإن هناك عديداً من الأعراق التي آمن هتلر بأنها تشكل نقاء الجنس الآري، فأباد السلافيين والغجر والأقزام والمعاقين، وكذا أصحاب الأمراض النفسية وأصحاب الأمراض المزمنة، وإن كان هؤلاء من الذين لم تتناولهم وسائل الإعلام الأوروبية أو تركز على مآسيهم.
كما أنه يمكن اعتبار معسكرات الاعتقال النازية، حيث يتم إحراق كل الأقليات والإثنيات أول مراكز الانتخاب الطبيعي التي يؤسس لها الإنسان المعاصر، أو “الهوموسابين”، حيث يحرق في هذه المراكز عديمو النفع على حد تعبير هتلر، حين قام باحتلال بولندا، وبالفعل قتل رسمياً 5.3 مليون بولندي لهذا السبب.
هل من خلاصة حول معتقدات هتلر؟
المؤكد أنه كان تابعاً بالمطلق للمادية العلمانية التي دعت لها نظرية الانتخاب الطبيعي، ولأنها نظرية غير إنسانية، هي ورؤيته المنحولة التي عرفت بالمسيحية الإيجابية، لذا لم يقدر لأي منهما البقاء، وذهبا مع هتلر أدراج الرياح، ولم تبق إلا الذكريات المؤلمة لإنسانية مجروحة على المذبح النازي.
المصدر: اندبندنت عربية