لمّا كنت طالباً في سوريا، خلت المناهج المدرسيّة من أيّ ذكر لعدوّ فرنسا اللّدود، السلطنة الشريفة. لم أسمع بها ولا باسمها، وكلّ ما عرفته من الكتب المدرسيّة آنذاك كان مغاربة متفرنسين وملك علوي وثائر منهم سكن دمشق اسمه عبد القادر الجزائري. ثمّ، بدأت قبل عشر سنوات وبتشجيع من أستاذ إيطالي؛ بدراسة التنافس الفرنسي-العربي على غرب أفريقيا. فقرأت لأوّل مرّة عن تاريخ السلطنة الشريفة العظيم، وجهودها في ترسيخ اللّغة العربية لغة موحِّدة لشعوب غرب أفريقيا كلّها. وكانت اجتهدت فرنسا في محو سيرة ذه المملكة حتّى أشاعت أنّ أفريقيا خلت من الدول تماماً
كانت السلطنة الشريفة من التطوّر إلى أنّها خلقت الفكرة التي بُني الاتّحاد الأوروپي المعاصر عليها، وهو اتّحاد السودان لدول جَنُوب غرب أفريقيا. وكانت من القوّة إلى درجة أنّها كانت أوّل دولة في العالم تعترف باستقلال الولايات المتّحدة الأميركيّة عن بريطانيا… ففي وقت كانت فيه دول العالم لا ترغب بإفساد علاقاتها ببريطانيا، قامت السلطنة الشريفة سنة 1786 بتوقيع اتّفاق مع نيويورك اعترف بالولايات المتّحدة الأميركية دولة ذات سيادة، حتّى قبل اجتماع الكونگرس الاتّحادي الأوّل سنة 1790 وقبل تأسيس العاصمة واشنطن بعده بعشر سنوات. هذا الاتّفاق منح بحريّة الولايات المتّحدة الأميركيّة قاعدة قانونيّة للتجارة البحريّة بحريّة.
عاشت السلطنة الشريفة أربع قرون، تبدّلت عليها أسرتين من العرب: الأسرة السعديّة من سنة 1510 حتّى 1659. والأسرة العلويّة من سنة 1665 حتّى 1912. توسّطتهم حِقْبَة فوضى أثارتها التدخّلات القشتاليّة بخلق خرافة القوميّة الأمازيغيّة، ومحاولة إنشاء دول حليفة للقشتاليّين والپرتغاليّين داخل المغرب. كما أسّس السعديّين خلال القرن 16 {نظام المخزن} السياسي، وهو المقابل لنظام النبلاء الفرنسي، ولم يزل تطبيق نظام المخزن فاعلاً في المملكة البريطانيّة حتى اليوم، وهو النظام المسيّر للكومنولث كذلك. وإليك البعض من حكايتها.
بعد انفراط سلطنة المغرب المرينيّة سنة 1465 تشكّل على جزء منها سنة 1472 سلطنة للوطّاسيّين، وكان الوطّاسيّون قبلها من أرستقراطيّات المرينيّين. وفي مدّة سلطانهم استعان الوطّاسيّين بالسعديّين في جندهم، ثمّ لمّا وقع الخلاف ما بين الطرفين غلب السعديّين سنة 1554، وأسّسوا سلطنة مغربيّة جديدة اجتهدت في إعادة توحيد المغرب، سعياً لإيقاف التمدّد العثماني من الشرق.
فعلًا، استطاع السعديّين توحيد كامل المغرب الأقصى، لكنّهم ما استطاعوا دخول المغربين الأوسط والأدنى، لخضوعهم لسلطان العثمانيّين. ولمّا عاد نسب السعديّين إلى الأشراف من آل {عليّ بن أبي طالب}، فقد أطلقوا على دولتهم سنة 1517 اسم {السلطنة الشريفة}، وأعادوا العمل بالراية المرينيّة. واستعمل السعديّين نسبهم الشريف لمقاومة الدعاية العثمانيّة، التي نادت بأنّها تعمل على إعادة توحيد الدولة الإسلاميّة القديمة (الأمويّة)، سيّما وأنّها حظيت بالخلافة العبّاسيّة في القسطنطينيّة سنة 1517 مع نقل الخليفة {المتوكل على الله الثالث} إليها، وهو الذي أوصى بانتقال الخلافة إلى السلطان {سليمان القانوني} قبل وفاته سنة 1543.
لمّا تأسّست {السلطنة الشريفة} كانت بعاصمتين، واحدة شماليّة هي أفوغال، وثانية جنوبيّة هي تمبكتو، من بعد سيطرة السعديّين على {سلطنة سونغي} وتأسيس {باشوية تمبكتو}. وبعد تأسيس اتّحاد السودان انتقلت السلطنة الشريفة بعاصمتها إلى مدينة مراكش سنة 1525، وهي التي منحت باسمها هذه الدولة اسمها غرب الأوروپي المعاصر؛ موروكّو. ومن خلال ميراث سلطنة سونغي غرب أفريقيا، ساهمت السلطنة الشريفة بتأسيس {اتّحاد السودان} وكان اتّحاداً دوليّاً على غرار الاتّحاد الأوروپي المعاصر. جمع دول غرب أفريقيا على عملة واحدة، وسياسة خارجيّة واحدة، وشبكة اقتصاديّة قويّة تجمعها اللّغة العربيّة. وكل ذلك أساساً لمنع السلطنة العثمانية عن الوصول إلى مياه المحيط الأطلسي.
في الثلث الثاني من القرن 17 تضعضعت سلطة السعديّين وضربت البلاد حرب أهليّة وبدأت بالانفراط، فأسّس العلويّين الفيلاليّين سلطنة في تافيلات سنة 1631. توسّعت هذه السلطنة وأعادت توحيد البلاد خلال عقدين بدعم من العثمانيّين. ثمّ غيّر العلويّين راية الدولة إلى اللون الأحمر المطلق، ولطالما كان هذا اللّون هو لون رايات دول العرب على مرّ التاريخ.
وفي تلك المدّة ولدعم استقلالها عن السلطنة الشريفة، تحالفت السنغال مع فرنسا سنة 1624 (وكانت من حلفاء العثمانيّين)، وبدأ هكذا التدخّل الفرنسي في غرب أفريقيا وعهد منافسة المغاربة، وأطلقت فرنسا على حصّتها من السودان المغربي تسمية السودان الفرنسي. واستمرّ هذا التنافس حتّى تمّت لفرنسا سيطرة مطلقة على السودان سنة 1895، فجعلت له من مدينة داكار عاصمة موحّدة سنة 1902.
سنة 1799 انحلّ التحالف الفرنسي-العثماني بسقوط أسرة البوربون وتوقّفت فرنسا هكذا عن احترام الاتّفاقات العثمانيّة-العلويّة، وصارت في موقع المنافس الشرس للسلطنة الشريفة. كما أنّها تحوّلت في نظر العثمانيّة من حليف إلى عدوّ. هذا ساق إلى الغزو الفرنسي للجزائر العثمانيّة سنة 1830 الذي فرض على السلطنة الشريفة التدخّل لحماية استقلال الجزائر، وأدخلها في حرب في مواجهة فرنسا استمرّت حتّى سنة 1844.
سنة 1911 بدأ من الجزائر الغزو الفرنسي للسلطنة الشريفة نفسها، واستمرّت المقاومة الشريفيّة حتّى انهزمت سنة 1934. ما سجّل أخيراً انتصاراً فرنسيّاً على السلطنة الشريفة ختم حرباً تنافسيّة استمرّت ثلاث قرون. بعدها، نقلت فرنسا عاصمة السلطنة من فاس إلى الرباط، وأضافت نجمة خماسيّة الرؤوس إلى راية البلاد كرمز للّائيكيّة الفرنسيّة، وغيّرت لغة المغاربة الرسميّة إلى الفرنسيّة، ومنحت جَنُوب البلاد هديّة لإسپانيا.
راية الحماية الفرنسية في المغرب
أخيراً وعقب الاستقلال عن فرنسا، غيّرت الأسرة العلويّة اسم السلطنة الشريفة، أو ما تبقّى منها، سنة 1956 إلى {المملكة المغربيّة}، وغيّرت في العام التالي لقب سلطان إلى ملك، وغيّرت راية الاحتلال الفرنسي بشكل طفيف، بإزالة رمز التاج الفرنسي.
انتقلت عاصمة السلطنة الشريفة عدّة مرّات، فجالت كلّ المغرب: تيدسي سنة 1510، أفوغال سنة 1513، مراكش سنة 1525، فاس سنة 1665، مكناس سنة 1672، فاس من جديد سنة 1727، الرباط 1912. ومهما تغيّرت الحدود. يبقى أنّ للمملكة المغربية تراث شريف وعظيم، وحقّ باستعادة تنظيم ميراث غرب أفريقيا.
المصدر: البخاري