المكان مدينة معشور الأحوازية الإيرانية، عام 2019، وضمن ما عرف بـ”ثورة الوقود”، شباب محتجون حوصروا بين قصب الأهوار، دبّابات ورشّاشات من الحرس الثوري وسلاح ثقيل وغير ثقيل، طال الضجيج لساعات، وصدرت لاحقاً قائمة من 200 ضحية، في مجزرة لفها صمت مريب وسكوت قد يوحي ببعض من الرضا.
وبعد ثلاث سنوات من مجزرة معشور، ثارت الثائرة ثانية في إيران، وبدأت موجة جديدة من الاعتراضات عقب وفاة الفتاة الكردية جينا (مهسا) أميني، وفي هذه المرة أخذت تتثلّم أسوار التعتيم الإيرانية شيئاً فشيئاً، ففتحت الجروح وصرخ كل بما يئنّ به. وفي ذكرى إحدى كبرى الجرائم بحق الإنسانية في إيران الحديثة، طالب الأحوازيون المجتمع الدولي بالمزيد من التحري في جريمة معشور النكراء.
يعتبر الكثيرون مجزرة مدينة معشور بداية حقيقية للثورة الإيرانية القائمة. ولمعرفة ما حلّ بتلك المدينة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2019، وللكشف عن الأسباب الكامنة خلف المجزرة، التقى “النهار العربي” القائمين على مركز مناهضة العنصرية ومعاداة العرب في إيران، كما تحدثّ إلى عبد السلام عثماني نجاد الشاهد العيان على تلك الحوادث.
عقود الاضطهاد
في الذكرى الثالثة على المجزرة ، أصدر مركز مناهضة العنصرية ومعاداة العرب في إيران، المسجّل رسمياً في المملكة المتحدة بياناً أحيا فيه ذكرى المجزرة الدامية، واعتبرها جزءاً من مسلسل جرائم إيران خلال العقود العشرة الماضية، أي منذ 1925، وهو العام الذي دخل فيه الجيش الإيراني بأمر من رضا خان أرض الأحواز.
وبحسب ما جاء في البيان الصادر في 17 تشرين الثاني (نوفمبر): “لأكثر من 97 عاماً والجرائم تتكرر ضد الشعب العربي في إيران، وما عمليات القتل التي ارتكبها النظام الإيراني ضد العرب في 2019 في الأحواز العاصمة والمدن العربية الأخرى، ومنها ميناء معشور والمحمرة والفلاحية سوى نماذج من سلسلة الجرائم اللا إنسانية ضد العرب في تاريخ إيران الحديث”.
وجاء في البيان أنّه “بعد ثلاث سنوات من تلك المجزرة أراقت قوات الأمن الإيرانية قبل أيام دماء شعب البلوش وفقاً للأفكار الاستعمارية نفسها، وما زال القمع مستمراً منذ أكثر من شهرين، فوصل إلى كردستان ومنها سار إلى مختلف أنحاء إيران، ليخطّ التاريخ صفحات سوداء أخرى من هيمنة الدولة القومية الفارسية المستبدّة والتي تحكم إيران منذ 97 عاماً، على أساس هيمنة اللغة الواحدة والقومية الواحدة”.
القائمون على المركز استندوا في بيانهم الصادر إلى شهادة حزب اليسار الإيراني، وجاء فيه “أنّ مجموعة من الوافدين (المستوطنين) المرتبطين بالأجهزة الأمنية يهيمنون على الشؤون السياسية والاقتصادية والإدارية في ميناء معشور، وهو عصب رئيس للاقتصاد وتصدير البتروكيماويات والنفط، وهؤلاء العنصريون ينتهجون الكراهية تجاه العرب ويعتبرونهم أجانب وأعداء، فلا يبالون باضطهادهم وقمعهم”.
كراهية متكرّسة
ويقول مدير مركز مناهضة العنصرية ومعاداة العرب يوسف عزيزي لـ”النهار العربي”: “في إيران كل أمر سيئ يقترن بالعرب، حتى العواصف الرملية تسمى بالغبار العربي، والكتب الدراسية تمتلئ بإهانات لهذه الأمة، وحتّى الكتّاب والأدباء ومنهم صادق هدايت، وصادق تشوبك، وعبد الحسين زرين كوب، صبّوا جل جهدهم لتشويه صورة العرب والانتقاص منهم وتحميلهم وزر كل ما تمر به إيران من تخلف على مختلف المستويات الحضارية”.
ويضيف عزيزي: “الإعلام الإيراني بكل وسائله لا ينفكّ عن مهاجمة العرب، ولا فرق في ذلك بين الشؤون السياسية والدينية أو الرياضية، حتى أصبحت العنصرية والكراهية متكرّستين في عقول نسبة كبيرة جداً من الشعب الفارسي، وقد يكون ذلك بشكل غير واع عند العديد منهم”.
ويقول عزيزي إن بعض وسائل الإعلام تتسابق على شتم العرب. ويذكر على سبيل المثال عبارة “غداً نُمرّغ أنوف العرب” والتي كانت العنوان الرئيسي لإحدى الصحف الإيرانية قبيل مباراة كرة قدم بين ناد إيراني وأحد النوادي العربية، وكذلك الرموز الدينية لا تستثنى من الكراهية، وهذا رغم وجود ملايين العرب ضمن جغرافية إيران.
يفرق عزيزي بين الأحوازي وأي عربي آخر من الوطن العربي، إذ إن الأحوازي يستشعر هذه الكراهية في كل مناحي الحياة، فهي تسير معه حيث يسير، فالمعاناة تبدأ من لحظة الولادة واختيار الاسم، إذ لا يسمح باختيار الاسم العربي إلا تحت قوانين محددة، إذ ينبغي أن يكون من ضمن اللوائح المحدّدة مسبقاً، وأما في المدرسة فإن التعلّم بلغة الأم أو تعليمها محظور بكل أشكاله، وكذلك هو شأن التوظيف وتولي المناصب الحكومية، فعدم وجود محافظ عربي واحد في الأحواز طوال العقود العشرة الماضية هو في حد ذاته دليل على شدة التمييز الذي يعانيه الأحوازيون كونهم عرباً.
ألوان التّمييز
الإعلامي وعضو مركز مناهضة العنصرية ومعاداة العرب هادي طرفي يلفت الانتباه إلى وجود أكثر من لون للعنصرية في إيران قائلاً: “بينما لون التمييز ضد الأكراد والبلوش هو طائفي بسبب وجود الأغلبية السنية فيهما، يعاني الشعب التركي في إيران التمييز اللغوي والثقافي، وأما لون التمييز الطاغي ضد العرب فهو عرقي وتاريخي”.
يقول طرفي: “بمعزل عن النتائج ونسبة إمكان التأثير في الرأي العام الفارسي أو في أوساط النخبة منهم، شعرنا نحن، بعض الكتاب والإعلاميين الأحوازيين بضرورة القيام بمبادرة ما، وذلك بعيداً من الاصطفافات الحزبية والفئوية، فسجّلنا مركزاً لمعالجة ظاهرة مقيتة هي السبب الرئيس وراء الكثير من الجرائم الإنسانية في إيران الحديث”.
ويضيف طرفي: “منذ عقد ونيف ونحن نقيم الندوات والمؤتمرات، ونساهم في المبادرات التي تعتني بظاهرة التمييز، نكتب ونصدر البيانات، حتى بات يمكنني القول إن المثقف الأحوازي من خلال موقفه إزاء هذا الوباء المجتمعي القاتل نجح في خلق التراكم المعرفي وإثارة التفاعل عند مختلف الشرائح المجتمعية، فأصبحت ظاهرة معاداة العرب معروفة عند أغلب المهتمين بالشأن الإيراني”.
وفي معشور الإجابة
في إحدى الانتفاضات الإيرانية، وتحديداً في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2019، خرج المحتجون في عموم أنحاء إيران اعتراضاً على ارتفاع أسعار الوقود، فلجأ النظام كما في سابقاتها إلى القمع، إلا أن عمليات العنف كانت تختلف من حيث الشدة والضعف من مكان إلى آخر، وأما في الأحواز فكانت على أشدّها.
عبد السلام عثماني نجاد من أبناء مدينة معشور وشاهد عيان على المجزرة تحدث لـ”النهار العربي”، واصفاً لجوء المحتجين إلى قصب الهور القريب من المدينة حيث تمت محاصرتهم ليلة بأكملها. ومع طلوع الفجر أطلقت رشاشات الحرس الثوري الرصاص باتجاه المحاصرين، واستمرت النيران العشوائية على الهور حتى قضى كل من كان هناك، بعدها اقتحمت القوات المدينة واستمر القمع والقتل. يقول عبد السلام: “ما زلت أتذكر أسماء الكثير من القتلى ومن بينهم بنت صغيرة لم تبلغ الخامسة بعد”.
ويقول طرفي: “العرب ضحوا كثيراً في محاربة استبداد النظام وقمعه، وحراكهم سبق جميع المكوّنات الاجتماعية في إيران، إلا أنّهم لم ينالوا حقّهم في الإعلام وفي طرح قضاياهم وتناولها. وعلى هذا نرى ضرورة التركيز على مآسي هذا الشعب ومنها مجزرة معشور، وأما من يتساءل عن دور الأحوازيين في الانتفاضة القائمة، فيجد في شدة التمييز الحكومي والشعبي والتعتيم الملحّ والقمع المضاعف أجوبة عن استفهامات كثيرة”.
المصدر: النهار العربي