على المنظومة أن تعترف رسمياً بحق الاعتراض وترحب وتسمح به لأن التعامل معه بالعنف والشدة سيعقد الأمور.
في الخطاب الأخير للمرشد الأعلى للنظام الإيراني، في يوم الطالب وأمام مجموعة من الطلاب المختارين بعناية، دعا المفكرين والقيادات الفكرية والسياسية والاجتماعية للتعبير عن رأيهم بالأحداث التي تشهدها إيران في الأسابيع الأخيرة. المرشد من خلال دعوته هذه وضع الأطر التي من المفترض بهذه القيادات الالتزام بها في تفسير هذا الحراك ودوافعه وأبعاده، وأنه لا يخرج عما قدمه من تصور حول دور أجهزة استخبارات دول “الاستكبار العالمي” أعداء إيران في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإسرائيل، وقد أطر كلام خامنئي ما جاء في البيان المشترك لوزارة الأمن وجهاز الاستخبارات التابعة لحرس الثورة الإيرانية، الذي قدم مطالعة مطولة لدور هذه الدول وأجهزتها في هذا الحراك.
الرسالة الأخيرة للرئيس الأسبق محمد خاتمي، جاءت بعد أيام على خطاب المرشد خامنئي مختلفة عن الموقف الذي أصدره تعليقاً على العمل الإرهابي الذي وقع في أحد المزارات الدينية في مدينة شيراز في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، إذ تعتبر الأولى من نوعها لخاتمي حول الأحداث التي تشهدها إيران منذ نحو 60 يوماً، ابتعد فيها جوهرياً عن السردية الرسمية ذات البعد الواحد التي سعى المرشد وأجهزة النظام الأمنية والاستخباراتية إلى تكريسها في توصيف الأحداث ومحاولة التفتيش عن الأسباب والدوافع الخارجية واتهامها بالوقوف وراء تحريك وإذكاء الحركة الاحتجاجية.
أهمية رسالة خاتمي والمناسبة التي أتت فيها، التي جمعته مع بعض الشخصيات من محافظة سيستان وبلوشستان، لم تعتمد الرواية الرسمية للنظام، عندما وصف بوضوح الأحداث التي تمر بها إيران بأنها حركة اعتراضية، على خلاف الوصف الذي اعتمده المرشد والمنظومة الحاكمة واعتبارها أعمال شغب تهدف إلى الانقلاب على النظام الإسلامي والقضاء عليه، بالتالي، أفشل وأحبط المخطط الذي سعت إلى تكريسه هذه المنظومة بالتعامل مع الاعتراضات الشعبية التي خرجت في هذه المحافظة بوصفها أعمالاً مدعومة من الخارج وأجهزة استخبارات تسعى لإشعال الفتنة المذهبية، كما حاول الوفد، الذي أرسله المرشد للقاء إمام جمعة أهل السنة في زاهدان مولوي عبدالحميد، تمرير رسالة من خلال الفصل بين المطالب المعيشية والإنمائية المحقة لأبناء هذه المحافظة والجماعات التي تتبنى المشروع الانفصالي والطائفي.
خاتمي الذي من الصعب عليه الذهاب إلى موقف يقترب من مفهوم الانقلاب أو تغيير النظام، طالما أنه تاريخياً يعتبر من قياداته التي انخرطت مبكراً في هذا المشروع، وأيضاً يعتبر واحداً من مخرجات هذه المنظومة، على اختلاف المنطلقات التي رفض فيها الذهاب إلى حكومة إسلامية. وطالب بالعودة إلى الشعارات المؤسسة للدولة والجمهورية قبل وبعد الثورة مباشرة، وما تعنيه من تعددية حزبية وحرية رأي وتداول ديمقراطي للسلطة، لذلك جاء موقفه واضحاً بدعوة المنظومة الحاكمة والسلطة بالذهاب إلى “الإصلاح الذاتي” ومن ضمن وداخل الآليات التي جاءت في الدستور الذي ما زال يؤمن به ويعتقد إمكانية قدرته على إحداث التغيير المطلوب الذي يساعد النظام في الخروج من المأزق الحقيقي الذي يواجهه نتيجة التراكم السلبي للتفرد في السلطة وإقصاء جميع المكونات الاجتماعية والسياسية والمذهبية والحزبية عن المشاركة والتعبير بحرية عن أفكارها وآرائها.
وعلى الرغم من اعتراف خاتمي بصعوبة حصول انقلاب على النظام القائم والحاكم في إيران، فإن دعوته النظام والمنظومة الحاكمة لإعادة النظر في سلوكياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ينطلق من اعتقاده بهذه الضرورة التي استطاعت خلال توليه رئاسة السلطة التنفيذية والخطاب الانفتاحي الذي اعتمدته في التأسيس الجدي لإعادة إنتاج النظام وفق آلياته الداخلية والدستورية، التي ساعدته في تحقيق الانفتاح والنهوض والتنمية، إن كان في الداخل أو في ترميم العلاقة مع المجتمع الدولي. وهنا يمكن القول إن هذه التجربة شكلت العامل المساعد في امتلاك خاتمي هذه الجرأة في الخطاب، على العكس من رؤساء الجمهورية الذين جاءوا بعده، واختاروا الصمت والسكوت وعدم الدخول المباشر على خط الأزمة، وإن كان هذا الصمت له مسوغاته لدى الرئيس حسن روحاني، التي ترى في حركة الاحتجاج نتيجة طبيعية للسياسات التي اعتمدتها أجهزة النظام والمنظومة الحاكمة لإفراغ وإفشال مشروعه وجهوده لإخراج إيران من النفق الذي دخلت فيه، من دون تبرئة ساحته من المسؤولية عن فشل فريقه الاقتصادي بالبحث عن آليات تخفف من تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية، في حين أن المنطلقات التي تفرض على محمود أحمدي نجاد الصمت، باعتباره شريكاً لهذه المنظومة في دفع إيران إلى حافة الهاوية.
رسالة خاتمي المباشرة يمكن القول إنها تشكل محاولة لإعادة تصويب وتصحيح الرواية الرسمية لقيادة النظام والمنظومة الحاكمة بكل أركانها، لما فيها من الحديث عن مكامن الخلل المتراكم وأسبابه وضرورة وضع معالجات جدية لها، وأيضاً محاولة لتذكير هذه المنظومة بالتحذيرات التي سبق أن وضعت أمامها، التي كانت تستشرف حتمية الوصول إلى هذا المأزق، بخاصة في إشارته إلى ضرورة البحث عن جذور الأزمة والأحداث المريرة في الداخل، وأنها نتيجة الآليات والأسلوب الخطأ وغير الصحيح في السلطة والحكم، بالعودة للاعتراف بحقوق الشعب ورعاية الحريات الأساسية وحقوق المواطن والمواطنة والعدالة وبمشاركة جميع مكونات الشعب الإيراني المذهبية والقومية في تحمل المسؤولية التي تعتبر الضامن في إخراج إيران من دائرة الخطر.
خاتمي في توصيفه لما يشهده الشارع، ذهب إلى تبني مبدأ الاعتراض، في مقابل مقولة وسردية المرشد الأعلى التي ذهبت إلى توصيف الأحداث بأعمال الشغب التي تعطي وتطلق يد الأجهزة في التعامل بعنف وقمع معها، بالتالي حمل المنظومة الحاكمة، بكل أجهزتها ومفاصلها، مسؤولية السماح للقوى الخارجية للعب على الساحة الداخلية، انطلاقاً من توفير الأرضية المناسبة لهذا التدخل، لأن إنكار هذه المنظومة لتردي الأوضاع الحياتية للمواطنين، لا يعني أنها غير موجودة، وهذا ما يشكل المدخل للأعداء والقوى الخارجية لاستغلالها والعمل على توظيفها من أجل تحقيق الهدف الذي تريده، بخاصة في ظل إصرار القيادات على رفض هذه الحقائق، وأن تراكم الاعتراض والاحتجاج سيقود الشارع إلى الفوضى والسعي إلى القضاء على كل ما هو موجود. وبدلاً من أن تعمد هذه المنظومة للمسارعة في وصف الاعتراضات بأعمال الشغب، عليها أولاً أن تعترف رسمياً بحق الاعتراض وترحب وتسمح به، لأن التعامل معه بالعنف والشدة سيعقد الأمور.
المصدر: اندبندنت عربية