تواجه المجتمعات المسلمة، كما الأفراد، كثيراً من المعضلات والتحديات والإشكاليات الناشئة عن طبيعة عالم اليوم الذي سقطت فيه حدود السيادة الوطنية، وتحول العالم إلى قرية صغيرة، يتداخل فيها كل شيء، اخترقت فيه ثقافة العولمة كل الخصوصيات المحلية، كما انهارت معها الجدران والحواجز، وأصبح مفروضاً على جميع أمم المعمورة وشعوبها أنماط من الحياة والسلوك وحتى التفكير، مما ساهم ويساهم بدرجة كبيرة في تشكيل الذوق العام، في الموسيقى واللباس والطعام والشراب…الخ.
مع هذا العالم الجديد طفت على السطح الكثير من أسباب التصادم بين الثقافة الإسلامية وأصولها الدينية والتشريعية وبين القيم الغربية التي أصبحت معايير ثابتة في حياة الأمم والأفراد، وتجاوزت المسيحية وغيرها من الأديان والشرائع والمعتقدات، هذه القيم التي بشر بها منظري ومفكري العولمة ذات الطبيعة المتوحشة والنهابة، والتصادم الحاصل اليوم ليس فقط بسبب طبيعة تلك القيم، خيرها وشرها، الإيجابي فيها والسلبي، إنما بسبب ما خلقته العوامل التاريخية والسياسية و”طبقة” رجال الدين في مجتمعاتنا، التي مايزال لها الدور الكبير في تحديد شخصية وهوية الغالبية العظمى من أفراد مجتمعاتنا، فهي التي تحدد الحلال والحرام، المباح والمنهي عنه، وهي المخولة بالثواب والعقاب، وتحديد المصير بين الجنة والنار.
إزاء هذه المعضلة الكبيرة في حياتنا اليوم تطرح عشرات الأسئلة التي تحتاج إلى إجابات شافية ومرنة، دون تزمت أو انغلاق، تعيننا على التغلب على مصاعب الحياة ومشاكلها، وتحدياتها، وولوج العصر الذي نعيشه، بل والمستقبل الذي تعدنا به كافة أشكال العلوم والتكنولوجيا، والمكتشفات الحديثة، التي تصل في بعض الأحيان لأكثر من قدرة البشر العاديين على تخيلها أو تصورها.
بداهة هل الدين عائقاً وحاجزاً أمام سعادة الإنسان ورفاهيته أم ميسراً ومسهلاً لحياة من كرمه الله دوناً عن باقي المخلوقات والكائنات.؟؟
هل العلم ضد الدين.؟! لا شك أن هذه الأسئلة وغيرها قديمة وصرفت أطنان من الحبر والورق في الكتابة عنها، كما استنفذت طاقات الآلاف من رجال الفكر والبحث وحتى الأكاديميين والفلاسفة، ولكنها بالرغم من ذلك بقيت موضع جدال ولم يحسم النقاش فيها إلى خلاصات تعيننا على تجاوز حالنا والتغلب على واقعنا والسير في ركاب الحداثة والحضارة الانسانية.
من نافل القول أن ليس كل ما أتت به ثقافة العولمة، التي هي نتاج الحضارة الغربية، تناسب مجتمعاتنا وبيئاتنا وإنساننا، ولكننا بكل تأكيد لن نستطيع العزلة عن عواصف وتيارات هذه الثقافة التي تكاد تقتلع بعض ثقافات الشعوب الضعيفة، والصغيرة، وتقضي على خصوصياتها وتقاليدها، من هنا يصبح من الضرورة بمكان التكيف مع هذا العالم بطريقة ما والانفتاح على تجارب الأمم والشعوب، وهذا جهد ومسؤولية يجب أن يتم التصدي له بثورة فكرية ودينية شاملة، تمكن الفرد من الحفاظ على ذاته ومعتقداته، دون انغلاق أو تعصب وفي الوقت ذاته الانفتاح على كل تيارات الفكر الانساني المعاصرة والحداثية.
التعايش بين الثقافات ليس مستحيلاً في عالم اليوم، وعلى الفرد المسلم أن يشعر بثقة في نفسه وأن يتكيف مع محيطه ومع العالم الجديد وقيمه، دون عقد وأمراض، وهذا بالتأكيد ليس دعوة لقبول كل ما تأتي به رياح العولمة وممارسته، بل تجنبه، والابتعاد عنه خصوصاً في الجوانب الأخلاقية التي تتعارض أصلاً مع الفطرة الإنسانية مثل الإباحية والمثلية.
الإسلام بطبيعته دين متوازن، كل ماجاء فيه لخدمة الانسان والبشرية، وتكفل بصياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع، والمحيط، على أساس المنفعة المشتركة بين الطرفين أو مختلف الأطراف، من هنا يصبح من الضرورة بمكان في عالمنا اليوم مراجعة الكثير مما نظنه ثابتاً لا يجوز المس به، وإعمال العقل فيه بعيداً عن التعصب والنقل، وفي هذا الخصوص يجب علينا حتى نرتقي لمصاف الأمم المتقدمة مراجعة تجارب الشعوب الأخرى وفهم لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون، كما حسم الجدل بطبيعة الدولة التي نريد وموقع الدين فيها ودوره.
كل ذلك قد يبدو صعباً ويحتاج إلى ثورة شاملة في كل مضامير الحياة والواقع، ولكنه ضرورة لا مفر منها للتكيف والقدرة على التفاعل الايجابي في عالم اليوم.
الاسلام جاء كثورة ويجب أن يستمر في عقول وقلوب معتنقيه على أنه ثورة دائمة لخدمة الأفراد والمجتمع والعالم، ولإزالة أي تصادم ناشئ، أو تخطيه بعقل ووعي كاملين، تحفز الإنسان على المبادرة والعمل لإعمار الكون تحقيقاً لسنن الله في خلقه.
المصدر: إشراق