الحراك الحالي قد لا يتحول إلى ثورة لكنه يعبر عن طرفي صراع مفتوح وقابل للتجدد بحدة أكثر. بغض النظر عما تشهده شوارع المدن الإيرانية من مواجهات بين المتظاهرين والأجهزة الأمنية، لا شك أن حادثة مقتل الشابة مهسا أميني على يد عناصر من جهاز شرطة الأخلاق أو الآداب الإسلامية في العاصمة طهران، كشفت عن حقائق في العلاقة بين النظام والشعب، بعضها حاول النظام مصادرتها وعدم الاعتراف بها، وبعضها الآخر أنتجه تراكم ممارسات النظام وأوصله إلى نقطة الانفجار أو نقطة اللا عودة.
الجولة الجديدة من المواجهات بين النظام وأجهزته من جهة، والشعب بمختلف مستوياته، ذات طبيعة مختلفة عما حصل في التحركات والانتفاضات السابقة، سواء تلك التي حصلت عام 2009 وكانت ذات طابع سياسي اعتراضاً على نتائج الانتخابات الرئاسية، أو تلك التي حصلت في المدة الانتقالية بين عامي 2018 و2019، ذات الطابع الاقتصادي، فالحراك الجديد يأخذ هذه المرة طابعاً اجتماعياً وثقافياً في مواجهة المؤسسة الدينية وتعاليمها، وليس فقط النظام المنبثق عنها، أو السلطة التي توظف المؤسسة الدينية في خدمة مصالحها السياسية والسلطوية.
تراكم الغضب والسكوت الذي انفجر على خلفية حادثة “أميني”، والأحداث التي تشهدها المدن والشوارع من خروج يومي ومواجهات مستمرة بين الشباب ومختلف الطبقات الاجتماعية، بخاصة النساء، مع عناصر أجهزة النظام الأمنية دفاعاً عن خياراتها وحرياتها الخاصة، كشفت عن حقيقة سوسيولوجية بات من الصعب على النظام التعامي عنها، أو التعامل معها بنوع من الإهمال والتبسيط، فهي تعبر عن الانقسام العمودي الذي حصل هذه المرة بين جماعة مؤيدة وداعمة للنظام والسلطة وما يمثلانه من قيم وأفكار وثقافة دينية ومذهبية وأخلاقية من جهة، وبين جماعة رافضة لهذه الثقافة الرسمية التي فرضتها السلطة عليهم من خارج إرادتهم الطبيعية، التي لو ترك الأمر لهم لكانوا من المتمسكين بها أو كانوا محايدين في اتخاذ موقف منها سلباً أو إيجاباً من جهة أخرى.
الشرارة الأولى للحراك الذي تشهده إيران اليوم، قد لا يتحول إلى ثورة تقلب النظام، إلا أنه انتقل ليكون في دائرة الانتفاضة بما فيها من طموحات مشروعة، وأيضاً وسيلة لأطراف أخرى تحاول الركوب على هذه الموجة لتحقيق أهدافها التاريخية أو الانتقامية الخاصة من النظام. إلا أن الحقيقة التي لا يمكن تجاوزها أو التوقف عندها، هي أنها تحولت إلى تعبير واضح عن طرفي صراع مفتوح، وقابل للتجدد بحدة أكثر إذا ما استطاع النظام السيطرة عليه وقمعه وإعادة تدجينه، وهذا الصراع يأخذ هذه المرة طابعاً أكثر عمقاً، وفيه كثير من التحدي لمنظومة السلطة، لأنه وضع إيران في مواجهة النظام الإسلامي، بغض النظر إذا ما كانت جميع شرائح المجتمع وطبقاته وفعالياته الاجتماعية والثقافية لم تشترك فيه، أو أن البعض منها يتعامل مع الحدث بكثير من الحذر بانتظار مآلاته السلبية أو الإيجابية.
وعلى الرغم من الصوت المرتفع الذي صرخت به الجماعات الإيرانية ضد آلة القمع التي تتخذ أشكالاً وتعبيرات مختلفة استخدمها ويستخدمها النظام على مدى العقود الماضية، إلا أن منظومة السلطة تحاول التعامل مع الحدث بكثير من الحذر والخوف، فهي هذه المرة تواجه جيلاً من المفترض أن يكون ثمرة رهانات النظام على تحديث وتجديد قاعدته الشعبية التي تؤمن له الاستمرار، بالاعتماد على اعتقاد لدى هذه المنظومة أنها استطاعت تدجين المجتمع الإيراني بعد قمعها لكل محاولات الاعتراض والانتفاض في السابق.
ولعل ذاكرة النظام “السورية” وحتى ذاكرته عن “دول الربيع العربي” حاضرة بقوة في المشهد لدى أجهزته السياسية والأمنية والعسكرية. وهذه الذاكرة قد تفرض عليه التعامل بسرعة مع تداعيات ما يشهده ويعيشه الشارع الإيراني، ولعل الخطوات التي لجأ إليها بعد مرور أكثر من ثمانية أيام على اندلاع الاحتجاجات، تستحضر المشهد السوري في التدرج مع الانتفاضة السورية وبداياتها السلمية والمطلبية التي لم تخرج عن شعارات العدالة والحرية والديمقراطية والتعددية السياسية والفكرية، إلا أن الحالة الإيرانية هذه المرة لا تسمح للنظام بأن يلعب على عامل الوقت، أو أن يعطي الشارع مزيداً من الوقت، خوفاً من أن تتعمق حالة الاعتراض وتصبح أكثر تجذراً وشمولاً لجميع الشرائح، بحيث يصعب عليه التعامل معها ومواجهتها ووضع حد لها، لذلك نجد أنه بدأ سلسلة متسارعة في التدرج بالإجراءات التي سيلجأ إليها، وقد جاء كلام الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي مباشرة بعد عودته إلى طهران من نيويورك وأعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بوصف الحراك الشعبي بأنه “أعمال شغب”، ولاقاه بذلك وزير الداخلية الجنرال في حرس الثورة أحمد وحيدي، يعني أن النظام قد حسم موقفه في التعامل مع صوت الشارع أو الإيرانيين الذين خرجوا في جميع المدن اعتراضاً على سياسات النظام بمختلف مستوياتها.
آليات القمع والتدرج بها تتشابه لدى مختلف الأنظمة الشمولية والأحادية، فبعد توظيف الحراك بأنه أعمال شغب، حرك النظام الشارع المؤيد له، في تظاهرات حشد لها في كل المدن، ليقدم صورة أمام الرأي العام الداخلي والخارجي بأن المتظاهرين أو الحراك الحاصل لا يمثل الموقف الشعبي، وبأنه بات تحت ضغط هذا الشارع الذي يطالبه باتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة فرض الأمن والهدوء واستعادة المبادرة.
ولم يتأخر النظام باستخدام العامل الخارجي في محاولته لتسويغ عمليات القمع التي سيمارسها، من أجل تأمين غطاء قانوني و”وطني” لاستخدام القوة الغاشمة أو المفرطة في القمع، من خلال تضخيم حراك الأحزاب الكردية المعارضة والبدء بعمليات استهداف مواقعها داخل الأراضي العراقية في إقليم كردستان على المقلب الآخر للحدود. لإظهار أي عملية عسكرية في محافظة سنندج، وكأنها محاولة انفصالية تسعى للنيل من وحدة الأراضي الإيرانية وفرض مشروع التقسيم، بخاصة أنه يعمد إلى إبراز أي حركات في مناطق الأقليات القومية بأنها تصب في الإطار نفسه بالتنسيق مع الأحزاب الكردية، وأن ما يواجهه هو مؤامرة تستهدف النظام ووحدة إيران وسيادة الدولة على أراضيها تقوم بها الحركات الانفصالية، ما يسمح له بإسكات الأصوات الاعتراضية وإخماد الحراك تحت هذه الذريعة.
المصدر: اندبندنت عربية