أثار الهجوم الأذري الأخير على المناطق والقرى داخل الحدود الأرمينية، الجدل القديم مجدداً في البلاد، بين المتمسّكين بالتحالف مع روسيا والبقاء ضمن المحور الأوراسي من جهة، والمتحمّسين للانتقال إلى المحور الغربي وإنشاء تحالفات جديدة مع الدول الأوروبية، والولايات المتحدة في الدرجة الأولى.
وحظيت زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إلى يريفان باهتمام رسمي وشعبي كبيرين، وفتحت الباب أمام مقارنات بين المواقف الأميركية “المتقدّمة” في دعم أرمينيا والتنديد بممارسات أذربيجان، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات الثنائية الباهتة، مقابل المواقف “المخيّبة للآمال” للحليف التاريخي الروسي.
أرمينيا تقاطع منظمة شنغهاي
في الوقت الذي كان قادة الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي وطالبو العضوية وشركاء الحوار يجتمعون في سمرقند، كان رئيس الوزراء الأرميني، نيكول باشينيان، يتحضّر لاستقبال أرفع مسؤول أميركي يزور البلاد منذ إعلان استقلالها، وذلك عوضاً عن حضور القمّة إلى جانب حلفائه الأوراسيين، كرئيس وزراء لأرمينيا “شريكة الحوار” في المنظمة التي تضم 8 دول أعضاء.
وعلى الرغم من التكهّنات حول غياب باشينيان عن القمة تفادياً للقاء أو حتى القاء التحية على الرئيس الأذري الهام علييف، الذي اجتازت قوّاته الأراضي الأرمينية مسيطرة على مرتفعات وقرى حدودية، إلا أن رئيس تحرير وكالة الأنباء الرسمية الأرمينية “أرمين برس” بنسختها العربية، ديكران كابويان، يرى في عدم حضور باشينيان للقمة تسجيلاً لموقف سياسي له دلالاته.
ويقول كابويان في لـ”النهار العربي” إن “غياب باشينيان عن القمة رسالة واضحة لموسكو، لجهة عدم رضى الحكومة الأرمينية عن الموقف الروسي حيال التهديد الأذري الأخير”.
أرمينيا منقسمة
يشهد المجتمع الأرميني انقساماً حاداً نتيجة الصراع بين التيار الموالي لموسكو والآخر الموالي للغرب. طفا الخلاف بين الكتلتين الشرقية والغربية إلى السطح مع وصول رئيس الوزراء الحالي إلى السلطة غداة ثورة ملوّنة أطاحت بالمنظومة الحاكمة للبلاد منذ استقلالها والمعروفة بموالاتها لموسكو على اختلاف توجّهاتها.
نجح باشينيان إلى حد كبير في كسب ثقة طيف واسع من المجتمع الأرميني، من خلال الخطط التي أعلن عنها لتنشيط الاقتصاد والقضاء على الفساد، ومحاربة الرشوة، وتوسيع هوامش الديموقراطية في البلاد، التي عانت خلال عقود من تحكّم الأوليغارشية السياسية – المالية بمقدّراتها.
لكن رئيس الوزراء الموالي للغرب، والذي وصل إلى السلطة من خارج الجسم التقليدي للدولة ومؤسساتها، وبالتالي المفتقد للخبرة السياسية، بات يرسل إشارات غير مطمئنة لموسكو، ما أدى إلى إحداث تصدع في علاقة التحالف التاريخية بين يريفان وموسكو، وهو ما اعتبره كثيرون السبب الأبرز في تساهل فلاديمير بوتين مع الهجوم الأذربيجاني على إقليم ناغورنو كراباخ المعلن جمهورية مستقلة من قبل الغالبية الأرمنية التي تقطنه عام 2020.
أجبرت الخسائر التي مني بها الجانب الأرميني في الحرب الثانية قبوله ببنود البيان الثلاثي، الذي احتوى على تنازلات كبيرة مقابل الوصول إلى وقف لإطلاق النار تمهيداً لحل الأزمة بين البلدين، ما فجّر موجة غضب ضد باشينيان أجبره في النهاية على الذهاب إلى انتخابات مبكرة خرج منها منتصراً أيضاً، ومبدياً في الوقت ذاته تقارباً مع موسكو ردّاً على الانتقادات الداخلية التي طاولت سياساته تجاه روسيا.
في بداية العام الحالي، تحرّكت أرمينيا بالتماهي مع روسيا حينما أعلن باشينيان، بصفته رئيس مجلس الأمن الجماعي وهو أعلى هيئة في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، استجابة قادة الدول المشاركة في المعاهدة لطلب كازاخستان بإرسال قوات حفظ سلام جماعية في مواجهة الاضطرابات التي واجهها قاسم زومارت توكاييف، حليف موسكو الرئيسي في البلاد.
كما امتنعت يريفان عن التصويت على قرار إدانة الحرب الروسية ضد أوكرانيا بعد شهر من إرسالها لنحو 70 عسكرياً إلى كازاخستان.
في الهجوم الأذري الأخير الأسبوع الماضي، بدا الموقف الروسي أكثر تساهلاً مع باكو، اذ اكتفت موسكو بدعوة الجانبين إلى وقف التصعيد والعودة إلى المفاوضات، كما رفضت معاهدة الأمن الجماعي، التي ترأسها روسيا، طلب يريفان بالتدخّل لوقف التقدّم العسكري الأذري، تنفيذاً للمهام الدفاعية التي قامت من أجلها في الأساس.
وفي مقابل إعراب القائم بالأعمال الألماني في البلاد عن صدمته من هول القصف الذي تعرضت له إحدى البلدات الجنوبية، اكتفى تقرير القوّات الروسية المكلّفة مراقبة وقف اطلاق النار بالإشارة إلى تعرّض مدرسة للقصف من قبل أذربيجان، من دون الحديث عن اضطرار هذه القوات إلى التراجع كيلومترات عدة بعد تعرّض مقرّها للقصف أيضاً.
يرى العديد من المؤيدين للتحالف الأرميني – الروسي أن موسكو فقدت ثقتها بالحكومة الأرمينية، وأن الموقف الروسي غير المبالي بالأمن القومي الأرميني، والمتساهل مع خسارة أرمينيا لأراضٍ داخل حدودها هذه المرّة، مردّه العلاقة غير السوية التي فرضتها الحكومة الأرمينية الجديدة الموالية للغرب مع روسيا، مستشهدين بموقف موسكو الحازم ضد باكو في هجومها على ناغورنو كراباخ عام 2016، خلال عهد السلطة الأرمينية الموالي لروسيا في حينه.
الاتّهامات يرفضها المؤيدون للتوجّه غرباً، والذين يرجعون مواقف موسكو الأخيرة إلى التحالف الروسي- التركي الناشئ حديثاً، وتزايد حاجة موسكو لأنقرة بسبب الظروف الجيوسياسية والاقتصادية التي فرضتها الحرب الأوكرانية ونتائجها، وحاجتها إلى باكو أيضاً في سياق حرب الغاز المحتدمة بين روسيا والغرب.
قبل يومين من شن روسيا حربها على أوكرانيا، وقّع الرئيس فلاديمير بوتين اتفاقية مع نظيره الأذري إلهام علييف، لتعزيز التعاون الدبلوماسي والعسكري بينهما، و”رفع العلاقات الثنائية إلى مستوى التحالف”، في خطوة فسّرت كضمانات أذربيجانية بعدم تورّطها في أي حملة غربية مناهضة لروسيا.
أما أكثر ما كان لافتاً للانتباه أرمينياً في هذا الاتفاق، فهو الزام الوثيقة كلاً من البلدين بالاعتراف بوحدة أراضي كل منهما، ما يعني اعتبار موسكو ناغورنو كراباخ أراضي أذرية، وهو ما رفضته روسيا رسمياً خلال الأعوام الماضية.
ورداً على اتّهامات تسبّب باشينيان في تحوّل الحليف الروسي باتجاه أذربيجان، يشير المؤيديون للتحالف الأرميني- الغربي إلى بيع روسيا أسلحة وعتاداً عسكرياً لباكو الغنيّة بالنفط بقيمة 5 مليارات دولار كنتيجة لعقود الدفاع الموقعة بين الجانبين بين عامي 2009-2011، تبعتها شحنة أخرى في عام 2017، أي خلال فترة حكم أرمينيا من قبل السياسيين الموالين لموسكو، حيث صعّد القادة الأرمن انتقاداتهم لصفقات الأسلحة تلك بعد هجوم أذربيجان في نيسان (أبريل) 2016 في ناغورنو كراباخ، بالقول إن إمدادات الأسلحة تتعارض مع التحالف العسكري الروسي مع أرمينيا تشجّع باكو التي ليس لديها أعداء سوى أرمينيا، على حل الصراع معها عسكرياً.
ويرى كابويان أن “روسيا خسرت الكثير من شعبيتها في أرمينيا، وسط صدمة كبيرة حتى في الأوساط المتطرفة في ولائها لموسكو داخل البلاد”، مشيراً إلى أن “فئة واسعة من المتّهمين لباشينيان في التسبب بتعطيل علاقة التحالف مع روسيا، باتت على قناعة أن الموضوع يتعدّى طبيعة الحكومة الأرمينية ما إن كانت موالية لروسيا أم للغرب، مرجعة الموقف الروسي إلى تحالفاتها مع أنقرة الناشئة بعد عام 2016”.
ويضيف كابويان أن “الكثير من الموالين لروسيا باتوا مقتنعين أن باشينيان قام بكل ما يلزم من أجل إصلاح العلاقات مع موسكو، وصولاً إلى القبول ببنود البيان الثلاثي الذي صاغه بوتين شخصياً، لكن رغم تسلّم روسيا المسؤولية على الحدود الأرمينية، إلا أنّها، حسب رأيهم، اكتفت أمام الهجوم الأذري الأخير بالدعوة إلى التهدئة من دون ابداء أي حساسية للأمن القومي الأرميني ووحدة وسلامة أراضي أرمينيا”.
بيلوسي والرسائل الأميركية
في مقابل انتشار صور الأجواء الحميمة التي جمعت رئيس روسيا الحليفة لأرمينيا مع رئيسي أذربيجان وتركيا، أعداء يريفان، زخرت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي الأرمينية بصور السياسيين الأرمن مع نانسي بيلوسي والوفد المرافق لها من واشنطن، عدو موسكو اللدود، في مشهد ينذر بتبدّل في خريطة التحالفات الأرمينية، التي باتت تبدو على طريق جورجيا وأوكرانيا بالابتعاد عن موسكو والاقتراب أكثر من الغرب.
أرسلت بيلوسي رسائل حازمة إلى باكو من يريفان، التي قضت فيها قرابة الثلاثة أيام، تخللتها زيارات إلى نصب ضحايا الإبادة الجماعية الأرمنية وصالة للأعمال الفنية، ولقاءات مع المسؤولين وعلى رأسهم رئيس الوزراء نيكول باشينيان، مشيدة بالتجربة الديموقراطية وتعهّدها بوقوف واشنطن إلى جانب يريفان من أجل المضي قدماً في هذه التجربة. وفي الوقت ذاته أعلنت بيلوسي تنديدها بالتصعيد الأذربيجاني، داعية باكو إلى وقف هجومها العسكري على أرمينيا.
بالتزامن، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي فيديو يظهر شاباً يخاطب مجموعة من الناس بالإشارة إلى “فشل موسكو في فرض وقف لإطلاق النار، حينما لم تأبه باكو للنداءات الروسية بإيقاف عملّياتها العسكرية، التي توقّفت بعد مكالمة هانفية جمعت وزير الخارجية الأميركي مع مسؤولي باكو ويريفان” حسب قوله.
تكتسب زيارة بيلوسي إلى يريفان، والترحيب الرسمي والشعبي الحار الذي قوبلت به، أهميّتها من توقيت هذه الزيارة التي تزامنت مع تصاعد الأصوات المنددة بالموقف الروسي في البلاد، والتي وصلت ببعضها إلى المطالبة بالانسحاب من معاهدة الأمن الجماعي “التي لم تقدّم أي شيء لأرمينيا في طرف وجدت المعاهدة من أجله أصلاً”.
ويحذّر العديد من الكتّاب والأكاديميين، والعديد من السياسيين السابقين، من الاقدام على أي خطوة قد تستفز موسكو، بالغة الحساسية حيال انفتاح دول القوقاز وآسيا الوسطى على الغرب وعلى واشنطن و”الناتو” بشكل خاص، داعين إلى عدم استفزاز بوتين، وأخذ العبر من ملفي جورجيا وأوكرانيا.
ويشرح كابويان أن “الفكرة السائدة في أرمينيا هي أن روسيا تقوم بإزعاج أرمينيا عند كل خطوة من قبل يريفان تتسبب في إثارة قلقها، لكن هناك حقيقة أخرى، أن روسيا باتت تزعج أرمينيا حتى من دون خطوات استفزازية من الأخيرة. هناك مقاربة اليوم أنه في حال وجود خطة روسية بالاستغناء عن أرمينيا، فإن الحجج كثيرة لتحقيقها، منها موقف باشينيان وسياسات يريفان”.
يؤيد كثيرون في أرمينيا اليوم الفرضية التي تعيد جوهر الصدع في العلاقات الأرمينية – الروسية إلى الرؤية الروسية الحديثة التي باتت تفضّل تحالفها مع تركيا وأذربيجان عن العبء الأرميني، نتيجة لارتباط مصالحها بهذا التحالف الثنائي، وهو ما يبرر برأيهم توجّه يريفان نحو الغرب، “لأن تضارب المصالح بين الحلفاء يحتّم بطبيعة الأحوال البحث عن حلفاء جدد”، مقابل مخاوف متزايدة لدى معارضيهم من أن يؤدي التوجّه غرباً إلى خسارة الضمانة الروسية لأمن البلاد وعدم الحصول على أي دعم يذكر من “الحلفاء الجدد”.
المصدر: النهار العربي