“يمر العالم والمنطقة بفترة دقيقة حيث الضوابط تتلاشى منذ اجتياح روسيا لأوكرانيا وتهديد الصين بغزو تايوان”. مَن يراقب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما منذ حرب أوكرانيا يلاحظ أن هنالك بعض المواجهات التي بدأت ترسل إشارات بأنها هي غير مضبوطة، وأن تطورها قد يؤدي إلى فقدان الدول العظمى، وما يُعرَف بـ “المجتمع الدولي” السيطرة عليها (uncontrolled conflicts).
هذه الأزمات المتدافعة، كما عللنا من قبل كانت تتراكم منذ عقود، واشتدت منذ بدأت التغييرات في السياسة الأميركية في عام 2009، وتفجرت خلال “الربيع العربي”، ولكنها أصبحت على وشك التفلت من الضوابط الدولية منذ حرب أوكرانيا. فمجلس الأمن في حالة شلل بين أركان “الفيتوهات”، والحرب الروسية – الأوكرانية تلتهم الأمن والاستقرار في أوروبا، والصين تنذر بحروب آسيوية، وكوريا الشمالية تنذر بضربات الصواريخ البالستية، والمجابهات تنتشر في أفريقيا وبعضها يغلي في أميركا اللاتينية. وليست الانقسامات في مجلس الأمن بين الغرب والشرق، والانقسام السياسي العميق داخل الولايات المتحدة، إلا عوامل مشجعة ولو سلباً لتوسع المواجهات “خارج السيطرة”. فما قبل حرب أوكرانيا، ونضيف أيضاً ما قبل الانسحاب من أفغانستان، كانت هناك مرجعية حد أدنى بين موسكو وواشنطن، وبين الأعضاء الخمس الدائمين والنوويين، لفرض وقف إطلاق نار، أو بداية محادثات وإيجاد “آلية دولية”.
أما في منطقة الشرق الأوسط وقد حذرنا من مخاطر كهذه، فالمواجهات باتت تقريباً بلا “فرامل” ما لم تشّد واشنطن عصب سياستها الخارجية وترسل صورة موحدة للخارج عن تصميمها على مواجهة الإرهاب، والتطرف، والفوضى، مما يفرض عليها أن تُظهر أنها موحدة داخلياً وتتمتع بوحدة الحزبين (Bipartisanship) في تعاطيها مع الخارج، ومع المنطقة، وهذا للأسف غير متوافر بقوة الآن بسبب الانقسامات المتعمقة منذ عام 2020 على الأقل. وبالطبع تستفيد الأطراف الإقليمية التي يهمها أن تستمر واشنطن في انقسام كهذا، لتحقق ما تريده بعيداً من ضبط الإيقاع الذي تقوم به السياسة الأميركية تقليدياً. وجاءت حرب أوكرانيا لتقسم العالم من جديد على نمط الحرب الباردة، لتكسر شوكة مجلس الأمن حتى إشعار آخر. وارتد هذا الواقع على المنطقة بتشجيع بعض اللاعبين على ممارسة التحرك الجيوسياسي الخارج عن خطوط الاستقرار المقبولة سابقاً قبل الانسحاب من أفغانستان. وفي ما يلي بعض الصراعات التي من الممكن أن تخرج عن سيطرة مجلس الأمن، وبنوع خاص عن سيطرة واشنطن.
الانفلاش الإيراني
الأهم والأكبر في المخاض الجيوسياسي هو المواجهة بين النظام الإيراني والإقليم ككل. ولهذه المواجهة الإقليمية سلسلة تفرعات تحولت إلى صراعات منذ سنوات، وقد تتحول إلى حروب غير خاضعة للسيطرة، إذا اقتنع أصحاب القرار بخوضها، ولو على خطأ. ومن بين تلك “الحروب-المغامرات” التي أطلقها لاعبون إقليميون في التاريخ الحديث، اجتياحات صدام حسين غير المحسوبة لجنوب غربي إيران في عام 1980 وللكويت في 1990. وتصلح حروبه غير المضبوطة دولياً وأميركياً لأن تكون أمثلة تعطى في دراسة الحروب المارقة (Rogue Wars) وتقارَن مثلاً بحروب حافظ الأسد في لبنان، التي كانت بغاية الدقة، ومحسوبة، وناجحة، فدام احتلاله تقريباً 29 سنة للبلد الجار، منذ عام 1976 وحتى عام 2005. وكما فعل نظام الأسد، فعل نظام الملالي في طهران منذ سيطرتهم على الحكم في 1989. تقدموا خطوةً خطوة، شبراً شبراً في المنطقة، وخاضوا حروباً عبر ميليشياتهم، اتسمت بالتخطيط والانضباط الاستراتيجي، على الرغم من أخطاء ارتكبها محورهم في حروبهم الإرهابية، كاغتيال رفيق الحريري في عام 2005، رداً على صدور القرار 1559 الداعي لإخراج قوات الأسد من لبنان، أو الصدام بين ميليشياتهم في العراق مع المجتمع المدني، وغيرها من الحوادث. ولكن منذ صيف 2021 وشتاء 2022، تظهر قابلية طهران في تحدي المنطقة، وكأنها تضاعفت، لاعتقادها أن تصميم إدارة بايدن على مواجهة مشاريعها قد تراجعت لكي توقع الاتفاق النووي. لذا نرى طهران تبدو وكأنها مرتاحة على وضع مشاريعها، وقد يكون البعض داخل أجهزتها الحاكمة قد وصل إلى قناعة بأن بعض حروبها، إذا اضطُرت عليها، هي ممكنة، وقد تكون خارجة عن قدرة وشنطن على السيطرة عليها. ومن أبرز المجابهات التي تعتبرها إيران “ممكنة النجاح” هي الحسم العسكري بالعراق، وسوريا واليمن. أما المجابهة مع إسرائيل مباشرةً أو عبر “حزب الله” في لبنان، فهي حتى الآن تعتبر “مليئة بالمخاطر”. أما المجابهة مع التحالف العربي، لا سيما في الخليج، فهي أيضاً “دقيقة” بسبب “العامل الأميركي”. ولكن القيادة الإيرانية تتصرف على أساس أن معظم هذه الجبهات، باستثناء هجوم مباشر على إسرائيل من الأراضي الإيرانية، هي محاور ممكنة التحريك، وهنا تكمن أخطار الحروب غير المسيطر عليها. وهذه لائحة بنماذج مطروحة.
أ – حرب إيرانية عبر ميليشيات أو مباشرةً للسيطرة على كردستان العراق. ستدفع بتركيا للتقدم من الشمال وستضطر الولايات المتحدة لأن تتخذ قراراً ما. سيناريو كهذا سيتحول إلى خارج السيطرة.
ب – حرب إيرانية ميليشياوية بالتنسيق مع نظام الأسد ضد أكراد شرق سوريا. هنا أيضاً ستتدخل تركيا للتقاسم، وقد تتدخل إسرائيل جواً. أما القوات الأميركية فهي صغيرة الحجم هناك. حرب كهذه إذا حصلت ستكون غير مضبوطة.
ج – انفلات الإيقاع بين إيران وإسرائيل في أجواء سوريا، وقصف صاروخي و”دروني” (بالطائرات المسيرة) متبادل، قد يتحول إلى صراع مباشر مفتوح، قد يشعل جبهة لبنان بين إسرائيل و”حزب الله”. هنا أيضاً عدم السيطرة على سيناريو كهذا من قبل واشنطن قد يُدخل خمس دول في أتون حرب مدمرة: إيران، العراق، سوريا، وإسرائيل، ويجرّ دولة سادسة، هي تركيا للدخول.
د – المحور الإيراني- العربي قد يشتعل أيضاً إذا قررت طهران ألا تأبه للتحذيرات الأميركية، وأن تستهدف المملكة العربية السعودية بموجات أوسع من القصف البالستي وإطلاق المسيرات، واستهداف دول خليجية أخرى بالإرهاب. هنا أيضاً التقييم الإيراني للرد الأميركي هو الذي سيقرر الانخراط في سيناريو كهذا أم لا. والسيناريو الوحيد الممكن هو “انشغال” الولايات المتحدة بما هو “أهم” من الشرق الأوسط. انشغال كهذا ليس ممكناً في هذه الظروف، ولكنه نظرياً ممكن في ظروف استثنائية قد نأتي على بعضها في المستقبل.
سيناريو آخر، لم يكن وارداً في السابق بسبب وجود الناتو والثقل الأميركي في الميزان، وبات الآن يطفو على السفح، وهو التصعيد بين حكومة الرئيس أردوغان والحكومة اليونانية. من المعلوم أن النزاع بين الطرفين تاريخي، إلا أن انتماء الدولتين إلى الحلف الأطلسي “يضبط” النزاع بين القوتين المتوسطيتين. وكان التصعيد بين أنقرة وأثينا بدأ مع خلافات حول حدود المساحات الاقتصادية في المتوسط ورفض اليونان لخطط تركيا للتنقيب في منطقة تعتبرها أثينا من ضمن مساحتها الاستثمارية. وتوسع الخلاف مع تدخل تركيا لمصلحة الإخوان في ليبيا، ووقوف اليونان مع الجيش الليبي، وبعد ذلك، توسع التوتر مع إقامة اليونان تحالفات مع “التحالف العربي” بما فيه مصر والسعودية والإمارات من جهة، إضافة إلى التحالف مع إسرائيل من جهة ثانية. ووصل الصراع أخيراً في 2022 إلى جزر يونانية قريبة من السواحل التركية، تريدها أنقرة منزوعة السلاح، وترفض أثينا ذلك. ووصل الاشتباك الكلامي بين الحكومتين إلى مرحلة التهديدات المتبادلة باللجوء إلى الوسائل العسكرية. سيناريو كهذا ظن المحللون لعقود أنه شبه مستحيل بسبب الناتو والضغط الأميركي. إلا أن العالم والمنطقة يمران بفترة دقيقة حيث الضوابط تتلاشى منذ اجتياح روسيا لأوكرانيا، وتهديد الصين بغزو تايوان. فقد طلب اليونانيون من بروكسل أن تتدخل “لمنع اجتياح تركي للجزر اليونانية على نمط التقدم الروسي داخل أوكرانيا”. وعللت اليونان طلبها بأن ذلك له سوابق في قبرص في عام 1974، وفي شمال سوريا في 2019. أما تركيا فتقول إن “اليونان يسلح الجزر ويهدد أمنها القومي”. من الصعب التكهن بحدوث حرب كهذه، ولكن احتمالها بات أعلى في مرحلة إعادة التموقع الأميركي، لا سيما في ظل الانقسامات الدراماتيكية داخل الوطن الأميركي.
خلاصة مرحلية
صحيح أن قرع طبول الحروب بات صوته أعلى من قبل، وصحيح أن واشنطن تختلف عما كانت عليه في الماضي القريب، إلا أن الرادع الأكبر لحروب قد تُفقد السيطرة عليها، هو عملياً الثمن الذي سيدفعه أطرافها في اقتصاد عالمي متداخل. ويبقى أن حالة العلاقات الدولية صعبة ودقيقة، ويبقى أيضاً أن مَن على أجندته أن يلجأ إلى المواجهات العسكرية أن يحسب جيداً، فالحسابات كما شاهدناها على أيام صدام قد تتعرقل، وقد يحدث ذلك لمَن ظن أنه أذكى من القائد العراقي الذي قفز فوق قدراته، فوقع. فالخروج على السيطرة قد يطاول الجميع.
المصدر: اندبندنت عربية