عندما حدث التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا، في الـ30 من أيلول/ سبتمبر 2015، أيقن الجميع وأولهم تركيا أن قرارا دوليا نهائيا قد اتخذ بعدم سقوط نظام الأسد الذي كان على بعد أسبوعين من السقوط ولم تنفع لمنع ذلك كل الجهود التي بذلتها إيران عبر فيلق القدس وكل المجازر التي نفذها بالاشتراك مع جيش النظام.
وكل ذلك كان يجري تحت الأضواء، وغض المجتمع الدولي الطرف عن استخدام السلاح الكيماوي عدة مرات، وصمت عن إلقاء عشرات آلاف البراميل المتفجرة على رؤوس المدنيين، وصمت عن كثير من المآسي.
أيقن الجميع أن قراراً دولياً غير معلن يجري تنفيذه بعدم السماح بإسقاط نظام الأسد، وأول من أدرك ذلك هو الحكومة التركية، وعملت على تحديد إستراتيجيتها في سوريا عبر تحديد الأولويات، ودرء ما أمكن من الأخطار التي تلحق بتركيا جراء الحرب السورية والتدخل الدولي فيها.
فحددت الحكومة التركية أولويات ثلاث، أولها هي محاربة الإرهاب الذي يمثله أذرع حزب العمال الكردستاني التركي عسكرياً وأمنياً، وعدم تحقيق حلمه بكيان كردي في سوريا يهدد الأمن القومي التركي.
وثانيها هي الحد من تدفق اللاجئين السوريين إلى الداخل التركي عبر القيام بأربع عمليات عسكرية لحد الآن بالاشتراك مع فصائل الجيش الوطني لعدم دخول قوات النظام وحلفائه إليها وإبقاء العدد الأكبر من السوريين فيها مع من يتم ترحيلهم من مناطق سورية أخرى، بالإضافة إلى إنشاء منطقة آمنة قدر الإمكان.
أما ثالث هذه الأولويات التي وضعتها الحكومة التركية فهي العمل على بناء بيئة سورية صديقة على عمق 30 كم أو أكثر من الحدود الجنوبية لتركيا عبر تقديم مختلف أنواع الخدمات فيها، والإمساك بأوراق قوية للحل النهائي تستطيع تركيا طرحها على طاولة الحل القادم يوما ما، بحيث تتأمن وحدة الأراضي السورية وعدم فدرلة أجزاء منها على أسس قومية أو طائفية، والسير بمفردات الحل الدولي وفق القرار 2254، وعدم سحب أي جندي من قواتها من الأرض السورية قبل تحقيق ذلك الحل وقيام نظام سياسي وطني سوري في دمشق يكون صديقا للجمهورية التركية.
كما أن الإبقاء على دعمها لفصائل الجيش الوطني والقوى الأمنية لن يتوقف قبل تحقيق تلك الرؤى التركية، سواء تفاجىء البعض أم لم يتفاجأ من التصريحات التركية الأخيرة ابتداءا من تصريحات وزير الخارجية التركي الشهيرة عن المصالحة.
إن كل التوضيحات التي صدرت فيما بعد تصريحات أوغلو الأولى وحتى بعد لقائه وفدا يمثل قيادة المعارضة السورية فإنه لم يتم التطرق لفكرة المصالحة بين الحكومة التركية ونظام الأسد، فهذا شأن يحدده الأتراك أنفسهم، وإنما صبت التوضيحات على مصالحة المعارضة مع النظام، وتم التأكيد على أن ذلك يتم وفق رؤية المعارضة والحكومة التركية عند مواقفها المعلنة من العملية السياسية بسوريا التي ترعاها الأمم المتحدة
وليست الانعطافة التركية التي أتت بسبب الفيتو الغربي والأمريكي خاصة على عمليتها العسكرية الخامسة، أو التفهم الإيراني والروسي للهواجس الأمنية التركية واستبدالها للعمليات العسكرية بتفاهمات مع النظام (ومن خلفه حلفاءه الروس والايرانيون) يحقق بها الاتراك أهداف العملية العسكرية وربما أكثر، دون القيام بها.
طالما أن مايقلق تركيا هو وجود التنظيمات الإرهابية الانفصالية، وبالطبع هذه التنظيمات ليست فواعل محلية مهمة بذاتها بل زبائنيتها أو استخدامها من قبل الغير لخدمة أجنداته، وبما أن الوساطة الروسية بين قسد ونظام الأسد والتي استمرت لسنوات لم تحقق أي تقدم، فما زالت قسد أعلى الشجرة ولم تنزل عنها بسقف مطالب رفضه النظام جملة وتفصيلا ولم يقبل سوى بالعودة لوضع كردي يماثل الوضع قبل 2011 مع تعديلات طفيفة وغير جوهرية.
طبعا هذا الخلاف لا يلغي التخادم بينهما بمسائل النفط والحبوب ومختلف أوجه التعاون الشكلية الأخرى.
يبدو أن قناعة ترسخت لدى السياسيين الأتراك أن التعاون مع نظام الأسد سيكون مثمرا وممكنا وطبيعيا في محاربة قسد، حيث إن الولايات المتحدة لن تخوض حربا مع أي أحد في سوريا كرمى لعيون قسد، وإن قسد بَنَت كل مشروعها بالاعتماد على الوجود طويل الأمد للقوات الأمريكية، ولم تتلاقى مع النظام ولا مع مشروع المعارضة، ولا سياسة أمريكية واضحة أو إستراتيجية للبقاء ولو على المدى المتوسط، حيث ما زالت السياسة الأمريكية في سوريا كما هي منذ بداية عهد بايدن.
حتى إنه لم يعين مبعوث رئاسي خاص للملف السوري، وكل الرهانات على إستراتيجية أمريكية جديدة في سوريا ضد النفوذ الروسي بعد الغزو الروسي لأوكرانيا لم نلحظه، حيث بعد أكثر من ستة أشهر من الغزو ما تزال السياسات أو قواعد الاشتباك كما هي لم يحدث فيها أي تغيير، وقد يكون مرجحا استمرارها.
والذي طرد أوجلان من سوريا في عام 1998 وفكك قواعد حزبه وأزال الألغام عبر الحدود ووقع اتفاقية أضنة، يمكن له أن يفعلها ثانية ويحارب تلك التنظيمات ويوقع اتفاقية “أضنة بلس”.
أما بخصوص قضية اللاجئين السوريين بتركيا، فلا شك أن هذا الملف أصبح قضية رأي عام ويجري استغلاله من أحزاب المعارضة أبشع استغلال للنيل من حزب العدالة والتنمية وتحميله كل آثار ومساوىء الأزمة الاقتصادية والمالية في تركيا عبر ربطها بملف اللجوء السوري.
وإن سحب هذه الورقة تكتيك انتخابي لا شك في ذلك، ولكن لا يمكن حل تلك القضية إلا بتنسيق ما مع النظام بعودة بعض اللاجئين إلى ديارهم عبر ضمانات معقولة والحصول على وقف إطلاق نار دائم يمهد لتحقيق المنطقة الآمنة على أرض الواقع، مما يؤدي لنجاح خطة الحكومة التركية بمشروع أو خطة العودة الطوعية الى سورية عبر بناء مجمعات سكنية على عجل أو عودة قوية إلى القرى الواقعة على خطوط التماس.
لا أظن أن أي تغير جوهري سيطر على أوضاع المناطق التي تقع تحت الحماية التركية، إن من ناحية الخدمات أو الإدارة أو الوجود الأمني أو العسكري، حيث يوجد ما يقدر بحوالي ثلاثين ألف جندي تركي في الأراضي السورية، أكثر من نصفهم في إدلب وحدها.
والوجود التركي في المناطق التي تم تحريرها من داعش أو ما يسمى قسد عبارة عن قواعد تركية، أما الوجود العسكري التركي بشكل جيش منظم فيوجد بمنطقة ليس فيها قسد وهي خطوط القتال الحالية في إدلب وريف حلب الغربي، بشكل يجعلنا نستنتج أن الأمن القومي التركي لا يتهدد من وجود عصابات قسد فقط بل من موجات لاجئين جديدة، أو موقع جبل الزاوية الإستراتيجي والمهم للعمق العسكري التركي، حيث كان لافتا عدم سقوط تلال الكبينة وغيرها من المرتفعات الحاكمة امتدادا لجسر الشغور وطريق الM4 الذي بخترق الجبل، وكان الوجود القتالي التركي ونقاطه القتالية بقوس دفاعي فولاذي، بحيت يكون الجنود الأتراك على الخط الأول وأي عملية اختراق أو جس نبض أو اقتحام فسيتم الاصطدام بالجنود الأتراك وليس السوريين.
وقد وعى النظام وحلفاؤه الدرس السابق في شباط/ فبراير 2020 وطبيعة الانتشار التركي الحالي، لذلك ليس من المرجح أن يتم سحب جندي تركي واحد قبل ضمانات حقيقية أو تطبيق مقررات جنيف، ومن الممكن فتح معابر داخلية عبر خطوط القتال أو حتى ترفيق قوافل تجارية تدخل من باب الهوى أو باب السلامة لتعبر الأراضي السورية وصولا لدول لخليج العربي مما ينشط حركة التجارة التركية مع النظام والدول العربية.
الإستراتيجية التركية أظنها لا تختلف مع غيرها من المقاربات بأن نظام الاسد صغير ولكن الجغرافية السياسية والاقتصادية لسوريا كبيرة جدا.
كما أن النظرة التركية المستقبلية بعد تعثر مد خط أنابيب الغاز الإسرائيلي عبر قبرص واليونان ومن ثم لأوربا وتخلي الولايات المتحدة عن دعمه لأنه عميق وطويل ومكلف وقد لا يحقق الجدوى من إنشائه، ومن المرجح أن يستعاض عنه بخط أنابيب ينطلق من إسرائيل بمحاذاة اليابسة وقصير ويمر من مناطق غير عميقة يصل إلى تركيا “والتي مهدت لذلك بإصلاح علاقتها المتوترة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي”.
ويمكن أن يحمل هذا الخط مستقبلا الغاز الذي سيستخرج من سواحل سوريا ولبنان أو إنشاء أنبوب مواز له، كما أنه من المكن أن يتم إحياء خط الغاز الشهير الذي توقف الكلام عنه بعد اندلاع الثورة السورية ويحمل الغاز القطري إلى سوريا ثم تركيا التي تحلم أن تكون منصة لتصدير الغاز والنفط إلى أوروبا.
يمكن أن تكون الإستراتيجية التركية من صلحها القريب مع نظام الأسد تحاول الاستفادة من العوامل السابقة حيث بات واضحا أن الحروب والمصالحات تتم حول أنابيب الطاقة ومواقع انتاجها وطرق نقلها.
لقد أثبتت الوقائع أن السياسة التركية براغماتية حتى في إدارة علاقاتها مع الأضداد، فهي تملك علاقات مميزة مع حماس وفتح وإسرائيل، ولها علاقات مع الرياض وطهران أيضا، كما أنها عضو في الناتو وتتمتع بعلاقة قوية مع روسيا، ومؤخرا اجتمع الرئيس التركي خلال عشرين يوما مع بوتين وزيلنسكي، كلا على حدة، واستطاع إنجاز اتفاق إخراج الحبوب العالقة على موانئ البحر الأسود.
ما أود قوله أن الاستدارة التركية اتجاه نظام الأسد إستراتيجية ومتوقعة وليست تكتيكية، وأن تركيا بإمكانها إدارة علاقاتها مع المعارضة وفصائل الثورة ومع النظام إلى حين تحقيق الحل السوري المنشود.
المصدر: ”داماس بوست”