في أواخر رمضان ما قبل الماضي، أي قبل نحو عامين تقريباً، بدأت حملة النظام السوري وحليفه الروسي لاسترجاع مناطق الجنوب السوري الخارجة عن سيطرتهما. وجاءت تلك الحملة بعد سلسلة من التفاهمات الأميركية الروسية والإقليمية، ولعلّ أبرز المؤشرات التي دلّت عليها كان لقاء رئيسي مكتبي الأمن القومي، الأميركي جون بولتون والروسي نيكولاي بتروشيف، بضيافة نظيريهما الإسرائيلي مئير بن شابات في 24 يونيو/ حزيران 2019. جاء اللقاء المذكور بعد عام تقريباً على إعادة السيطرة على الجنوب، لتقييم مدى التزام الجانب الروسي بتعهداته بإبعاد قوات الحرس الثوري الإيراني والمليشيات التابعة لها، وخصوصاً مليشيا حزب الله اللبناني عن الحدود السورية “الإسرائيلية”، وتأتي هذه اللقاءات كمتابعة للحركة المكثّفة التي خاضها رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو، مع الجانبين، الأميركي والروسي، في هذا الشأن.
يستطيع المرء أن يتكهّن بمدى صعوبة تنازل روسيا عن ورقة إيران في سورية قبل الحصول على أثمان مقابلة لذلك، كما يمكن في المقابل قياس حجم الضغوط التي تمارسها إسرائيل على حليفها الأول، أميركا، لضمان مصالحها القومية بإبعاد الإيرانيين عن حدودها. تضارب المصالح هذا هو بالذات ما منح الإيراني الفرصة الكبيرة لتعزيز وجوده في أغلب المناطق السورية الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، وليس فقط في الجنوب.
يعمل نظام الحكم في إيران على سياسة النفس الطويل، مستلهماً صبر صنّاع السجاد الفارسي الشهير في الحياكة اليدويّة غرزة إثر غرزة. وهي تستطيع أن تتحمّل التكلفة الماديّة العالية لهذا التمدّد ما دامت الضحايا البشرية مدفوعةً من كيس حلفائها السوريين والعراقيين واللبنانيين. إنّ الإصرار الإيراني على البقاء والتجذّر والانتشار في سورية لا ينبع من مجرّد رغبة سياسية في مناكفة أميركا من بوابة إسرائيل، وهي ليست مجرّد مصالح استراتيجية للأمن القومي الإيراني، بل هي محاولةٌ واعيةٌ مدركة لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية الغابرة.
يستطيع المتتبّع للخطوات الإيرانية المتتالية في الجنوب السوري أن يعرف مدى الإصرار على تحقيق هذا الهدف. تنسج قوات الحرس الثوري الإيراني شباكها حول شباب المنطقة بعناية فائقة، مستفيدة من عقلية نظام الحكم الأمنية الانتقامية، لتصدير نفسها ضامناً من الملاحقات والاعتقال والتنكيل. تعزف على وتر الفقر والحاجة بعد خراب الزراعة والتجارة والصناعة وأغلب مجالات الإنتاج الأخرى، تقدّم عطاياها المالية مقابل تجنيد الشباب العاطل عن العمل في صفوف مليشياتها أو في إنشاء مليشيات محليّة تُدار منها بالتحكم عن بعد. ولتدليل واضح على ذلك، يجب القول إنّ إيران استطاعت، عبر ربيبها حزب الله اللبناني، أن تحوّل مساحات واسعة من منطقة اللجاة إلى مزارع للحشيش المخدر، فقسّمت المنطقة إلى ثلاثة أقسام، الشمالية تحت إدارة أشخاص معروفين بالاسم من عشيرة الخضير والوسطى عبر أفراد من عشيرة الخلف والجنوبية من عشيرة الرويضان.
أبعد من ذلك، تحاول إيران الولوج إلى جبل العرب من خلال إحياء فكرة انتماء الدروز عقدياً إلى المذهب الشيعي الإسماعيلي الذي أسّس دعاته الدولة الفاطميّة عند نشأة مذهبهم قبل مئات السنين في شمال أفريقيا، وقد لا يجد هذا الطرح تجاوباً كثيراً في ظروف السلم والحياة العادية، لكنه سيكون أكثر قابليّة للنظر فيه من شرائح واسعة في حالة الحرب المعقّدة بين الأطراف المختلفة في سورية الآن، خصوصاً مع حالة الفقر والعوز وانعدام الأمان والاستقرار التي يعيشها الناس هناك.
من المفيد في هذا السياق النظر إلى حالات الخطف والتعذيب في مقابل فدية مالية التي يتعرّض لها المدنيون من أبناء محافظة درعا وقاطنيها، والتي كانت تجري على قدم وساق من عصابات متمركزة في مناطق مختلفة من محافظة السويداء. على سبيل المثال، بلغ مجموع ما دفعه أهالي قرية الجيزة وحدهم الواقعة شرق حوران على مقربة من حدودها مع محافظة السويداء مبلغ 400 مليون ليرة سورية خلال السنوات التسع الماضية لتحرير أقربائهم من يد الخاطفين.
وفي المقابل، يجب النظر أيضاً إلى عمليات الخطف التي كانت ترتكبها عصابات متمركزة في حوران أو أهالي المخطوفين في السويداء، (وإن تُظهر المقارنة بين الحالتين خللاً واضحاً في الميزان، فالنسبة المئوية تقول حتى الآن بحالة خطف واحدة كانت تجري في درعا مقابل كل 13 كانت تجري في السويداء). ولماذا يتمّ التركيز عليها الآن، ولماذا تم تصعيد الأمر أخيراً بنشر فيديوهات تعذيبهم المشينة، والتي تظهر وحشيةً لا مثيل لها واستهتاراً بأبسط القيم الأخلاقية والإنسانية، إلى درجة يعجز الإنسان عن رؤيتها، أو حتى مقارنتها بما كانت تسرّبه أجهزة مخابرات نظام الأسد على مدى السنوات المنصرمة، حتى وصل إلى حدّ الاقتتال بالسلاح بين أبناء المحافظتين، والذي نتج عنه قتلى وجرحى من الجانبين، أورث بالتأكيد كثيراً من أسباب الشقاق والنزاع الإضافية التي لم تهدأ منذ ما يزيد على 150 عاماً، ومحاولة جرّها إلى ساحة الصراع الطائفي، بعد أن كانت على الدوام مجرّد صراعات على مناطق النفوذ والأراضي وموارد الرزق.
لن يستغرب المرء تصاعد حدّة التوتر في هذه الأيام بين أبناء السهل والجبل، إذا علم أنّ الحرس الثوري الإيراني قدّ جنّد أبناء الطائفة الشيعية المقيمين في بصرى الشام وأمدّهم بالسلاح منذ اليوم الأول للثورة السورية عام 20111، وأنّه أصرّ على توطينهم في محافظة السويداء عندما استطاعت فصائل الجيش الحر السيطرة على المدينة عام 2013. وإذا علمنا أنّ عصابات خطف واتجار بالمخدّرات كثيرة كان يقودها عناصر من هؤلاء، معروفون بالأسماء لأهالي المنطقة، فإننا سنعرف سبب الفرق بين حالات الخطف التي كانت تجري في كلتا المحافظتين.
ثمّة أسباب جدّية عند أبناء الجنوب السوري تدفعهم إلى مقاومة الوجود الإيراني في مناطقهم، والغالبية العظمى من السوريين تجد في هذا التغلغل خطراً على بنية المجتمع كله، بل أكثر من ذلك على بنية المنطقة برمتها، فالخطر لا يتهدّد الجغرافيا السياسية فحسب، ولا يعني فقط الخوف من تبعية القرار السوري لطهران، بل يتعدّى ذلك إلى الخوف من التغيير الديموغرافي والإحلال العرقي القومي الطائفي، وحتى أكثر من ذلك إلى تغيير التاريخ كلّه.
ستشهد الأشهر والأعوام المقبلة أحداثاً جسيمة كثيرة، وسيكون أبناء الجنوب وقوداً لمعارك طاحنة ستدور رحاها هناك، فلا إيران ستكفّ عن محاولات التغلغل والسيطرة، ولا أبناء المنطقة سيسكتون عن ذلك. إنّه الجنوب السوري وصراع الهويّة.
المصدر: العربي الجديد