ليس عالم السياسة واضح المعالم، يتدفق وفق خطوط محدّدة معلومة، إنه عالم التشابك والتعقيد، حيث تتداخل فيه الوقائع بالرغبات والآمال بالتكهنات، ما يجعل من تلمس حقيقته في أحيانٍ كثيرة مسألة صعبة. لذلك، لا تُبنى حقائق السياسة الدولية على خطاب المسؤولين السياسيين، لأنه يتضمن، في ماهيته، هوامش للتعبير غير واضحة التعيين، وتكون بطبيعتها مقصودة .. إنه خطابٌ يعبر عن حالة عامة، لا عن موقف خاصّ ومحدّد.
هكذا، يجب قراءة تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، التي كشف فيها عن نيته “تجاوز مراحل جديدة مع النظام السوري، من أجل إحلال السلام في المنطقة”، وتصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، عن لقائه السريع بوزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد في قمة بلغراد، ومن ثم تعقيبه على “ضرورة مصالحة المعارضة والنظام في سورية بطريقة ما، وإلا فلن يكون هناك سلام دائم”.
بداية، لا بد من التذكير بالوقائع المعطاة حيال الملف السوري، إنْ على مستوى العلاقة مع تركيا، أو على مستوى العلاقة مع المجتمع الدولي. لم تعد مسألة إسقاط النظام السوري منذ سنوات أولوية، بل لم تعد هدفا في ذاته لدى المجتمع الدولي، أو على الأقل لدى الفاعلين الدوليين.
ترك الساحة السورية مرتعا للقتال من دون أهداف سياسية بعيدة المدى، نقل القضية السورية من مستواها السياسي إلى مستوييها الأمني والإنساني، وكانت السنوات الخمس الماضية تجسيدا لهذا التغير: ستاتيكو واضح على مستوى الحراك السياسي، تقابله متغيرات في الميدان تحت مضامين أمنية لا سياسية.
بالنسبة لتركيا، أحدث الدخول العسكري الروسي في الجغرافيا السورية تحوّلا عميقا في مقاربتها، فلم تعد الأهداف السياسية المتحكّم في قرار أنقرة، بل الأهداف الأمنية، بعدما نشأت قوة عسكرية محلية (قوات سوريا الديمقراطية) مدعومة من الولايات المتحدة، وفرضت حضورها العسكري على الأرض.
منذ سنوات، تتجاذب تركيا مسألتان في غاية الأهمية: الأولى، التهديد الكردي في سورية وامتداده إلى الداخل التركي، والثانية، الوجود السوري داخل تركيا. .. ومن مفارقات السياسة أن أنقرة تعاملت بنجاح، إلى حد كبير، مع المسألة الأولى، لكنها بدت عاجزةً أمام الثانية، فقد تحوّل الوجود السوري في تركيا إلى بورصة سياسية باتت تهدّد حزب العدالة والتنمية الذي يتطلع إلى الانتخابات الرئاسية العام المقبل.
تحتاج تركيا بقوة إلى روسيا لتنفيذ مقاربتها في سورية، فبالنسبة إليها، لم يعد ثمّة فصل بين المسألتين (التهديد الكردي، الوجود السوري)، فأي عملية نقل للسوريين من تركيا إلى المناطق المحرّرة تتطلب مزيدا من الأراضي تحت الهيمنة التركية، من أجل تشكيل منطقة آمنة تحظى بدعم دولي وروسي وإيراني، وحتى من النظام السوري.
ولتحقيق ذلك، على تركيا أن تقدّم تنازلا في الملف السوري، لا يعرف شكله ومضمونه، لكن اللقاء السريع بين أوغلو والمقداد لا يعبر إطلاقا عن انعطافة سياسية تركية، بقدر ما يعبر عن إشارات وترميز سياسي. وفي تقدير كاتب هذه السطور، أخطأ بعض المراقبين والكتاب، حين تحدّثوا وكتبوا إنه لا توجد مفاجأة في تصريحات أوغلو، من زاوية أن أنقرة منذ سنوات غيرت مقاربتها تجاه الملف السوري، وليس ببعيد وفقا لمقاربتهم، أن تحدُث مصالحة بين الطرفين قريبا. يجادل هذا المقال بخطأ هذه المقاربة، فالتنازل التركي لن يكون على غرار الذي قدمته بعض الدول العربية، فطبيعة الوضع الاستراتيجي لتركيا لا تسمح بذلك، لا على المدى القريب ولا على المدى المتوسط. وكلام أوغلو عن المصالحة بين المعارضة والنظام لا يعني مصالحة غير مشروطة، بل مصالحة تؤدي إلى سلام دائم، أي أننا هنا أمام دعوةٍ إلى تسوية سياسية شاملة، لا تتضمّن إسقاط النظام، بل إعادة ترتيب السلطة، بحيث تكون المعارضة جزءا رئيسا فيها.
يؤكد ما كشفته أخيرا صحيفة “تركيا” المقرّبة من السلطات في أنقرة حجم الهوة بين تركيا والنظام السوري، فقد طالب النظام من تركيا عدة مطالب، منها: إعادة محافظة إدلب إلى سيطرته، نقل السيطرة على معبر كسب الحدودي، وباب الهوى من السيطرة التركية إلى سيطرته، ترك السيطرة على الطريق التجاري الواصل بين شرق سورية دير الزور والحسكة، وطريق حلب اللاذقية الدولي (M4) له، عدم دعم تركيا العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية. في المقابل، قدّمت تركيا أربعة مطالب: تطهير مناطق وحدات “حماية الشعب الكردية” بالكامل، القضاء التام على التهديد الإرهابي على الحدود، الاستكمال التام لعمليات التكامل السياسي والعسكري بين المعارضة ودمشق، العودة الآمنة للاجئين.
تبدو مطالب النظام من تركيا معقولة (بلغة المتغيرات والمفاجآت التي تطرأ على الساحة السورية بين حين وآخر)، فمطالب النظام إذا ما كانت صحيحة لا تطالب بانسحاب تركيا من كل الأراضي السورية، وإنما فقط من إدلب، أي أنه يميّز بين الأراضي التي توجد فيها “قسد” والأراضي التي لا توجد فيها.
إنه (النظام السوري) يقبل ببقاء تركيا في المناطق التي توجد فيها “قسد” كي يبقي التهديد التركي قائما بوجه القوات الكردية، لكنه يرفض بقاء تركيا في إدلب، أو هكذا يسرّب. ومقارنة بمطالب النظام، تبدو المطالب التركية مستحيلة التحقق بالنسبة لدمشق، فالنظام السوري لا يستطيع إطلاقا تنفيذ أي مطلب من المطالب الأربعة. وفقا لذلك، يجب عدم وضع تصريحات الرئيس التركي ووزير الخارجية ضمن مقولة الانعطاف الاستراتيجي، وإنما وفق مقولة الانعطاف السياسي، أي وفق مقاربة إيجاد الحلول ضمن معطيات الواقع المحلي والإقليمي والدولي القائم.
لا تستطيع تركيا أن تُحدث تحوّلا حادّا في سياستها حيال سورية، لأنه سيؤدّي بها إلى خسائر استراتيجية، وكل ما يمكن أن تقوم به هو فتح باب التواصل المباشر مع النظام السوري لإعادة ترتيب الأوراق بما يخدم الطرفين (مع ما في ذلك من تحول في التكتيك) من دون أن يقود ذلك إلى التخلي عن المعارضة السورية ومطالبها في نظام ديمقراطي، لا في إسقاط النظام.
المصدر: العربي الجديد