لو وضعنا بين أيدي مجموعةٍ من البشر موادَّ متشابهةً (لنقل عددًا متساويًا من قطع لعبة الليغو) واعطيناهم وقتًا متساويًا، وطلبنا من كل واحد منهم أن يصنعَ أيَّ شيءٍ يخطر على باله ليستفيد منه بطريقة ما، لكان من الصعوبة بمكان ان نجد تطابقًا في المنتج النهائي إلّا من باب الصدفة المحضة، لأن تفكيرَ البشرِ غيرُ متطابق، فكلُّ واحدٍ يملك بصمةً فكريةً مميزَةً، تكون خليطًا معقدًا من تجاربه وعلمه وثقافته واخلاقه واشياء اخرى كثيرة.
الآن عندما نجدُ بعد سنوات مرت على ثورات الربيع العربي، أن المنتجَ النهائي وحال كلِّ من يدّعون مناصرة الثورة في الماضي والحاضر يشابه بعضُه بعضًا ولدى مختلف الشرائح؛ من فصائل ثورية مقاتلة، إلى حركات سياسية مختلفة، مرورا بالمؤسسات الدينية، الطبقات المثقفة، المؤسسات الانسانية، بل حتى الشعوب المنكوبة …. هنا ندرك أن المنتجَ الحالي ليس نتاجَ ثورةِ تحررٍ فكري، وإلا لم يكن ليتطابقَ الجميع في المصير. من هنا نصل للحقيقة التالية؛ ان تلك الثوراتِ لم تصل بعد لتحرير العقول، واكتفت إلى الآن بتحرير الغرائز التي كانت أسيرة سلطة المتحكم بعناصر القوة. والدليل على ذلك تطابقُ منتجِ الغرائز التي تحركها أشياء وتنشد أهدافا متشابهة؛ الانتقام، الجشع، الغرور، الافتراء، الكذب، الحسد، الوهن، الوقاحة، العصبية المتورمة، الأنا والتمحور حول الذات، وأخيرًا الركون لاي وضعٍ يعيد حالة التوازن للقوى المتصارعة (الغرائز المتصارعة) في معادلة الهرولة وراء الثروة والسلطة على حساب الثورة التي تغير معادلات الظلم والباطل وتعيد الأخلاق لتحكم وتتسيَّد الواقع.
ثورةُ العقول بطبيعتها تتقارب على اختلاف منتجاتها؛ لأنها تصل لحلول توافقية لتتعايش وتنمو ولا يلغي أحدها الاخر، فهي متنافسةٌ في الظاهر، متوافقة في المضمون. أمّا ثورةُ الغرائز، فلا تلتقي مهما طال الزمن؛ لأن طبيعتَها التصارعُ على المنتج نفسِه؛ لذلك لن يلتقيَ ثوارُ الغرائز مع بعضهم يومًا، أو يتوافقون ويجلسون على طاولة واحدة بدافع ذاتي؛ لأنهم متنافسون حقيقيون على إلغاء كلٍّ منهم للآخر، وعندها يكون البقاء للأفجر على أرضية قانون التغلب.
الصيفَ ضيَّعْتِ اللبن، إذا لم تنتقل تلك الثورات إلى تحرير العقول!! أما إذا ظلت اسيرة المرحلة الاولى (تحرير الغرائز) فسنُعيد اختراع العجلة، وندفع الشعوبَ لتندم على فتح صندوق باندورا (الصندوق الذي يجمع كل شرور الأرض في الميثولوجيا الإغريقية) الذي كان لا يملك مفاتحه إلا الحاكم المستبد، يفتحه متى وكيفما يشاء! أما الآن أصبح متاحًا مشاعًا لمن شاء.
تذكروا ان تحرير العقول فقط يجعلنا نتجاوز ثورة الغرائز، ونعيدَ الشرور التي تدفقت من صندوق باندورا ونحكم اغلاقه وندفنه إلى غير رجعة.
والله من وراء القصد