مقدمة
عبد الرحمن الداخل واحد من ألمع الشخصيات في التاريخ العربي – الاسلامي ، يمكن أن يقف بقامته التاريخية ندًا لمعاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة الأموية، وبينهما شبه كبير، فكل منهما رجل دولة من طراز رفيع، كأنه خلق للسياسة والحكم، وكل منهما نهض بتأسيس دولة لم يكن لها وجود، دولة ثابتة الأركان استمرت بعد وفاته لفترات طويلة. وكل منهما خاض صراعات عنيفة لتثبيت حكمه ماكان يمكن لغيره أن يحتملها دون أن تعصف به وتقضي على أحلامه.
بل ربما كان عبد الرحمن الداخل أكثر عبقرية في الطريقة التي وثب بها على الحكم بعد أن كان شريدًا يتنقل من خيمة لخيمة ومن مخبأ لمخبأ مهددًا بالقتل في أي حين.
فمعاوية بن أبي سفيان كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه على الشام قبل أن يمسك بالخلافة ويتغلب على منافسيه، ومن المعروف أن ولايته للشام كانت السند القوي لطلبه الخلافة فيما بعد، فهو قد صعد على سلم الولاية نحو عرش الخلافة، أما عبد الرحمن فلم يكن بين يديه سوى عصبة قليلة من الجند من موالي الأمويين في الأندلس التفت حوله في لحظة تاريخية، مقابل أقوى المنافسين وأخطرهم، فصنع من تلك اللحظة العابرة فرصة حقيقية بذكائه وحنكته وعبقريته السياسية والعسكرية وشجاعته وجرأته التي لامثيل لها.
لكن هل الصفات الشخصية هي وحدها منبع الاهتمام بعبد الرحمن الداخل؟
هل هو مجرد مغامر موهوب، وحاكم مقتدر، وبطل من الأبطال؟
كلا، ليس الأمر كذلك بل لدينا أسباب أكثر خطورة وأهمية للاحتفال بتلك الشخصية التاريخية.
وهي أسباب تتعلق بتاريخ الأمة وتوجيه مصائرها في مرحلة من المراحل.
فعبد الرحمن الداخل أنهى عهد انقسامات الأندلس وصراعاته القبلية والعنصرية، ونقله بالقوة والعزيمة من دول الطوائف الى الدولة الواحدة المركزية، وكان ذلك سببا في استمرار بقاء الأندلس مئات السنين، وحين تفككت الدولة الأموية المركزية بدأ الانهيار مع عودة دول الطوائف، وعودة الصراعات البينية الى الأندلس، بل إن ذلك التوحيد كان سبباً أيضا في تراكم الثروة وتقدم العلوم والفنون والآداب، ووضع قرطبة كعاصمة منافسة لبغداد في الحضارة والتقدم.
ترتبط سيرة عبد الرحمن الداخل بمرحلة مفصلية في التاريخ العربي الاسلامي شهدت انهيار الدولة الأموية التي تحولت منذ وقت مبكر الى امبراطورية عالمية من أقوى الامبراطوريات في ذلك الوقت، وصعود الدولة العباسية على أنقاضها، بكل ما حمله ذلك من آلام المخاض، ومارافقه من سفك للدماء، وقد كان انهيار الدولة الأموية كارثة انسانية كبرى لبني أمية وكانوا يعدون بالآلاف، حيث تعرضوا لحملات القتل والابادة بقسوة غير معهودة، ومن رحم تلك المأساة خرج شاب لم يتجاوز التاسعة عشر عاما لم تتمكن الكارثة من كسر عزيمته، وبدلا من أن يستسلم للحزن والبكاء على الأطلال، بحث بدأب وصبرعن فرصة لاستعادة مجد بني أمية، وعندما لاحت تلك الفرصة في الأندلس أمسك بها بقوة وعزيمة جبارتين، وصنع منها دولة ومجدا خلده التاريخ، ولم يشهد الأندلس رجلا كعبد الرحمن الداخل في عمق تأثيره على مصير البلاد لمئات السنين. ويختص هذا البحث في السيرة الشخصية لعبد الرحمن الداخل وكيف تفاعلت مع البيئة التاريخية لتلك المرحلة. وقد حاولت ما أمكن الابتعاد عن الروايات الضعيفة، والتفاصيل غير المؤكدة والتي لاتضفي على البحث أهمية تذكر، واعتماد الأحداث بخطوطها الرئيسية التي ثبتت بأكثر من طريق، وحين تتضارب الروايات لحدث هام مثل معركة رونسفال أو باب الشزري فقد أوردت أقوال الطرف الآخر كما جاءت في كتب التاريخ، كما أنني وجدت نفسي مضطرا لعدم تجاهل الجوانب السلبية في شخصية عبد الرحمن الداخل والتي ذكرها المؤرخون وأظهرتها مواقفه العديدة، فعبد الرحمن كان رجل دولة قبل أي شيء آخر، وقد خرج من بين أنياب الموت، وشهد الفظاعات الرهيبة لما يمكن أن يفعله الخصوم السياسيون بأعدائهم، بما في ذلك مقتل أخيه وقطع رأسه أمام عينيه بعد أن تعب من الهرب سباحة في الفرات ورجع الى جنود العباسيين الذين أعطوه الأمان ثم ذبحوه ذبح النعاج. فما كان لعبد الرحمن أن يرحم أعدائه والمتآمرين عليه بعد أن خبر قسوة السياسة وخطورتها. وليس ذلك بتبريرلما عرف عنه من قسوة بالغة، وفتك بأقرب الناس اليه حين يختلفون معه، لكنه مجرد تفسير لمنشأ تلك القسوة التي لم يتصف بها الأمويون عموما.
لكن تلك القسوة لم تكن لتطغى على الجوانب الشاعرية عند عبد الرحمن الداخل، ولا على وفائه لابناء عمه الأمويين وجده هشام، ولاعلى حبه للبناء والعمران والعلم والثقافة، كما لايمكن لتلك الجوانب السلبية أن تطغى على صورة عبد الرحمن الداخل البطل العظيم وصانع مجد الأندلس وباني دولته من أشتات دول الطوائف. وفي الفصل الأخير وقفة مطولة حول مختلف جوانب شخصية عبد الرحمن الداخل، والأمل أن يكون البحث مفيدا للأجيال المتطلعة الى دراسة تاريخنا بطريقة منصفة ، والقاء الضوء على أهم شخصيات ذلك التاريخ.
المصدر: صفحة معقل زهور عدي