كتبتُ في المقال السابق، الذي قاربتُ فيه علاقة المسلمين المعاصرين بالتراث الإسلامي، ما نصّه: “أصبح الفكر الإسلامي اليوم مُعَبَّرَا عنه بأسوأ تُرَاثَاتِه وأكثرها بلادة وضيقا بالعقل والحرية، كما هو مُعَبَّرٌ عنه بأسوأ مُفَكِّريه وأكثرهم عبودية وخنوعا وتقليدا وتبليدا”؛ كيما يتّضح أن المشكلة أكبر من التراث ذاته؛ رغم كون التراث التقليدي/ الاتباعي عاملا أصيلا فيها؛ من حيث هو صانع “الوعي التراثي” الذي يقود اليوم قاطرة التّديّن الإسلامي.
هل لا بد أن يكون الإسلام تراثيا/ سلفيا ؟ أو: هل لا يُمْكن أن يَتَديّن المسلمُ المعاصر إلا بنمط التّديّن الذي نَهض به تيّارٌ اتباعيٌ تقليديٌ مُعَادٍ للعقل وللحرية قبل أكثر من ألف عام ؟
الإجابة على هذا مرتبطة بالإجابة على السؤال الذي طرحته في المقال السابق عن إمكانية “الإصلاح الديني”، وتحديدا: الإصلاح الذي يتوسّل تجاوزا مزدوجا: “تجاوز التراث” من جهة، و”تجاوز نمط التفكير التراثي” من جهة أخرى. وكنت قد أكّدت أن هذا الإصلاح غير ممكن؛ على ضوء المُتاح في مسارات الفكر الإسلامي المعاصر.
لكن، إذا كان هذا الإصلاح المُزدوج غير مُتاح في المسارات الرائجة للفكر الإسلامي المعاصر، والتي هي ـ للأسف ـ مسارات سلفية بالأساس، فلا يعني ذلك أنه غير متاح بالإطلاق. فَمِن خارج هذه المسارات الرائجة التي تشتغل بوعي سلفي، ثمة اجتهاداتٌ، وثمة محاولاتٌ، وثمة إمكانياتٌ، تنتظر مَن يستثمر فيها. وهي في النهاية، لا بُدَّ وأن تُؤثِّر ـ بدرجة ما ـ حتى في تلك المسارات الانغلاقية المُمْعِنة في التقليد والتبليد.
إن هذه الفعاليات ذات الطابع الاستناري التي يُراد لها أن تَصدر من خارج مسارات التقليد، أي من خارج مسارات التَديين الجماهيري الرائج الآن، لا بد وأن تتوسل خطوات عملية، على مستوى الإعلام والتعليم والثقافة والفنون. ولعل أهم هذه الخطوات ـ في تقديري ـ ما يلي:
1ـ ضرورة تقديم النماذج القرائية المعاصرة للتراث الإسلامي، وتحديدا، تلك القراءات/ الدراسات المُنْحَازة بحسم لرؤى التنوير بطابعها العقلاني والإنساني. ومن الضروري هنا أن تكون النماذج القرائية المُقدّمة تتوفّر على مستوى عالٍ من الجِديّة، ومن الانضباط المعرفي، ومن الاحترام المبدئ لذات الدين من حيث هو دين. وبهذا، تخرج من تقديرنا تلك القراءات التافهة، والعبثية، والمشاكسة لذات المشاكسة، فضلا عن تلك التي لها موقف عدائي مبدئي من الإسلام ذاته، أو من الدين أصلا؛ كموقف من اللاّواقعي/ اللاّمادي بوجه عام.
وإذا كانت أكثر من تجربة قد أكّدت أن مثل هذه القراءات المستنيرة تعجز عن منافسة القراءات السلفية التقليدية، عن منافستها تحديدا في مسار هيمنتها على الوعي الجماهيري، فإننا لا نقصد بتقديمها وترويجها أن تُحَقِّق مستوى من النجاح الجماهيري يُضَارع ذلك الذي تحقق للسلفيات، بل هذا غير متوقع، لا راهنا ولا مستقبلا؛ لأسباب كثيرة ليس هذا مجال تحديدها، وإنما المقصود أن تُزَاحِم القراءاتُ المستحدثةُ المستنيرةُ، تلك القراءاتِ التقليدية في وعي الجماهير، وأن تُزَعْزع صلابة قناعاتها بالتشكيك بأصول دوافعها، وبأهم إجراءاتها، وبأخطر تحيّزاتها. فبزوال ذلك “اليقين المطلق” الذي هو العمود الفقري لأي تطرف ديني، تهوي السلفية إلى مستوى “الآراء الخاصة المُتَحَيِّزة”، وتبتعد ـ كثيرا أو قليلا ـ عن أن تكون هي ذات الدين في التصور الجماهيري.
2ـ التأكيد على حقيقة أن التراث الإسلامي ليس هو الإسلام. التراث ـ على امتداده وتنوّعه ـ فيه من الإسلام، كما أن الإسلام فيه من التراث الإسلامي. ولكن، ليس الإسلام هو مجمل هذا التراث، ولا هو مسار من مساراته؛ مهما ادعت كل فرقة/ كل طائفة أن تراثها الخاص هو ذات الإسلام.
وفي العموم، يجب التأكيد على أن التراث (وهو مُتَضَمِّنٌ تُرَاثاتٍ كثيرة متنوعة) مجرد تأويل ظرفي، خاص بزمن مختلف، وبجغرافيا مختلفة، وبثقافات مختلفة أيضا. ما يعني كسر احتكار تقديم نموذج أحادي خاص بوصفه التعبير الكلي والمجمل عن الإسلام في تصوره المطلق (المطلق الذي يبقى مجرد تصور، إذ مجرد الوعي البشري به تصوّرا، يَحد مباشرة من إطلاقه، فضلا عما يتلو ذلك من تمثّلٍ، وتطبيقٍ، وتَكيّف واعٍ وغير واعٍ).
3ـ التأكيد على أن التراث ليس منقولا إلينا بحياد. فتراثنا ليس تراثنا بحق. التراث الإسلامي وصلنا عبر أربعة عشر قرنا من الصراع السياسي والاجتماعي والديني. ومن ثَم، فكل تُراث هو مجرد “وجهة نظر” لتيار ما، من تلك التيارات التراثية المتصارعة على الشرعية الدينية، وعلى النفوذ الاجتماعي والسياسي، وعلى الغنائم الاقتصادية المتاحة آنذاك. ما يعني، أنهـا ليست مجرد “وجهة نظر” خاصة فحسب، بل هي وجهة نظر منحازة جدا؛ منحازة بدرجة حِدَّة الصراع وتنوّعه وتطاوله، إنه الصراع الذي وصلت إلينا مُسلّماتنا التراثية من خلاله، ولكن بعد تجريدها من ملابسات الصراع، وتقديمها ـ لاهوتيا ـ لنا على أساس أنها “الدين الخالص”.
4ـ التأكيد على أن التراث ليس موثوقا. وهذا يتجاوز مسألة عدم الحياد. فإذا كانت الفقرة السابقة تتناول تزييف التراث، وتحويره، بل وصناعته، بناء على قصد وتعمد؛ لتحقيق أهداف محددة؛ في سياق صراع سياسي وديني محموم، فإن هذه الفقرة تتناول آليات رصد التراث وتوثيقة وتعميده، وأنها آليات متواضعة جدا، ولا تتوفر على الحد الأدنى من الموثوقية التي تستلزمها ضرورة “اليقين الديني”.
يكفي التأمل في طريقة نقل الحديث المنسوب للنبي للوعي بحقيقة أن “الظن” يُقَدَّم على أساس أنه يقين ديني. فالحديث لم يُكتب إلا بعد أكثر من مئة وخمسين سنة تقريبا. مدى زمني طويل من الرواية الشفهية التي تمتد لخمسة أو ستة أشخاص من الرواة، ففلان يقول: حدّثني فلان أن فلانا حدّثه أن فلانا حدّثه أن فلانا حدّثة أنه سمع النبي يقول. نصوص يفترض أنها تشريعات دينية مقدسة تسبح في بحر ذاكرة تمتد لقرن ونصف القرن، مُوَزَّعة على خمسة أو ستة “عقول”، كل “عقل” منها له ظروفه وحدوده وهمومه واهتماماته وتحيّزاته…إلخ. وهنا، حتما؛ لا يتوفّر الحد الأدنى من الموثوقية لقول شارد يتناقله آحادُ الناس اعتمادا على الذاكرة وحدها من جهة، وعلى الثقة الخاصة بأمانة الناقل من جهة أخرى.
5ـ التأكيد على أن التراث، حتى فيما صحَّ منه بالتواتر العملي، فيه ما هو ظرفي أصالة، وغير قابل للتعميم. فتعاليم الدين إذا جاءت في سياق ظروف خاصة (= مناسبات النص/ أسباب النزول)، هي قابلة ـ ابتداء ـ للتعميم، ولكن، ليس في كل على، بل ـ تحديدا واشتراطا ـ على ضوء مقاصدها العليا التي تُحَدِّدها طبيعةُ العلاقة بين الحكم الديني كحكم مُطلق، وبين ظرفه الخاص الذي جاء للتفاعل معه. ودون الاحتكام إلى هذه المقاصد العليا في مقاربة الأحكام الدينية (المتواترة بما يكفي للوثوق بثبوتها) فإن تشريع هذه الأحكام وتعميمها لظروف مغايرة، قد يأتي بما هو ضد مقاصدها الأولى.
هذه بعض الخطوات التي أعتقد أن التأكيد عليها إعلاميا وتعليميا وثقافيا من شأنه أن يُحَرِّر الإسلامَ من أسر تراثه، ويُطْلِق فاعليته الإيجابية في الراهن. وأول فعالياته الإيجابية تتحقق بمجرد التحرر من التصورات السلبية للإسلام التراثي، أقصد: الإسلام الذي يقوم السلفيون على مهمة تفعيله اليوم في واقع المسلمين؛ فينتج عن ذلك كوارث لا حصر لها داخل نطاق المجتمعات الإسلامية، كما ينتج عن ذلك صراع حتمي ـ بدرجات متفاوتة، ولكنها مأساوية على كل حال ـ مع العالم.
المصدر: الحرة. نت