تحل الذكرى ال74 لاغتصاب فلسطين، أو النكبة، هذا العام وسط تطورات فلسطينية وإقليمية شديدة التعقيد والأهمية، تؤكد بمجملها مركزية الصراع حول فلسطين وديمومته، وارتباط معظم الصراعات الأخرى في المنطقة به، رغم كل تلك السنوات التي انقضت على إقامة الكيان الصهيوني ومحاولات تثبيته كياناً شرعياً في المنطقة تحت دعاوي وحجج واهية، مناقضة للواقع والتاريخ.
فبالرغم من معاهدات واتفاقات (السلام) المزعوم تحت مسميات مختلفة، السابقة والحالية، مايزال الشعب الفلسطيني يسطر ملاحم البطولة والتضحية كل يوم، كما حصل في هبة الأقصى الأخيرة، والمواجهات المدنية اليومية في مواجهة الاستيطان وتضييق الحصار على المدن والبلدات العربية، والفرار من سجون الاحتلال تعبيراً عن الإرادة الصلبة في نيل الحرية، والعمليات داخل مايسمى الخط الأخضر، التي فاجأت المحتل وجيشه واستخباراته، وأربكته وحلفاءه من “العرب” قبل الشرق والغرب، ليتأكد بما لايدع مجالاً للشك باستحالة وأد هذا الصراع والتعايش بين المشروعين، الصهيوني والعربي، على أرض فلسطين، وعدم انطفاء جذوة الصراع رغم مرور 74 عاماً على اندلاعه، وبالتالي عدم سقوط الحق التاريخي بعوامل الزمن والقوة والتغيير الديمغرافي وجدران العزل، هذا عدا عن حضورها الوجداني والسياسي، لدى قطاعات واسعة جداً، في محيطها وعمقها الشعبي العربي والإسلامي وحتى العالمي.
صحيح أن هناك عوامل عديدة أدت إلى تراجع مكانة القضية الفلسطينية على سلم الاهتمامات والأولويات العربية، وحتى الإقليمية، وبروز مشاريع راهنة تحظى بالانشغال والمواجهة لخطورتها، إلا أنه في الحقيقة والأدلة الدامغة هي مشاريع تتكامل وتتلاقى مع المشروع الصهيوني، ومن السذاجة الاستقواء بأحدهما على الآخر، ومن العبث تصديق التناقضات بينهما، التي يصورها البعض، ومن ثم الاستثمار في ماهو ظاهر على السطح من عداء وخلاف، الذي هو في حقيقته على امتلاك أوراق القوة وتقاسم النفوذ وحدود الأمن والمصالح، ولولا التخاذل الرسمي العربي والموقف الدولي المتواطئ لما برزت بقوة المشاريع الأخرى التي أضافت تحدياً جديداً وجودياً بدأت تستشعره هذه النظم نفسها متأخرة وبعد فوات الوقت وتضييع عناصر القوة والهيبة، وذلك كله بغياب المشروع العربي النهضوي التحرري والانقلاب عليه بدايات سبعينات القرن الماضي وفي مركزه وقيادته، في مصر الكنانة.
في حالتنا السورية يستطيع كثير من دعاة “الواقعية” إيجاد بعض المبررات لمنطقهم بالقبول والتعايش مع “عدونا” التاريخي أمام هول معاناتهم وما تعرضوا له من محتلهم “الوطني” ومغتصب إرادتهم وقرارهم إلا أن هذا المنطق يعوزه الكثير من التدقيق والتمحيص في ظل ما كشفه الواقع والأحداث في السنوات الأخيرة عن “الفيتو” الإسرائيلي” الذي منع سقوط الأسد خلال السنوات الماضية من عمر الثورة السورية، نظراً لدوره الوظيفي، منذ الأسد الأب، في حماية الكيان الصهيوني، الذي عمل طوال نصف قرن ويزيد على استمداد شرعيته وبقائه حاكمًا من هذا الكيان الذي زعم مرة “الصمود والتصدي” في مواجهته وروج أكاذيبه مرات ومرات في “المقاومة والممناعة”.
ما يؤسف له اليوم في مقابل صمود شعب فلسطين وتضحيات أهلها هو بؤس الحالة السياسية الفلسطينية على مستوى سلطة أوسلو وعلى مستوى المنظمات الفلسطينية، بشقيها، الموجود داخل منظمة التحرير ومن هو خارجها، في قصورها الوطني وعجزها بل وتبعيتها، وهو ما أدى إلى تراجع مكانة القضية الفلسطينية برمتها بوصفها قضية أخلاقية، قبل أن تكون سياسية أو تاريخية أو دينية، أو أي شيء آخر، على مستوى محيطها والعالم بأسره.
وما يؤسف له أن تتحول منظمات قدمت عشرات الآلاف من الشهداء واستقطبت ثوار العالم وتحشدت خلف قضيتها العادلة لتقف اليوم في صف القتلة والمجرمين والغزاة والمحتلين من الأسد الصغير وخامنئي إلى بوتين، ولتتحول بعض النخب الفلسطينية والعربية إلى فئة طبالين ومروجين لدعاوي هذا المعسكر القبيح.
إن مأساة الأمس، الحاضرة والمستمرة في واقعنا إلى اليوم، أهون بما لا يقاس مع حالة الهوان والضياع التي نعيشها وما وصلت إليه أحوالنا، وبالرغم من ذلك فإن قضية فلسطين ما تزال حاضرة في وجدان أصحابها وشبابها المدافعين عنها، “أما أولئك الذين يظنون (ظن السوء) أن القضية الفلسطينية انتهت” فإن ذلك آخر ما شُبه لهم.
74 عاماً على جرح النكبة، وخلال تلك السنوات والعقود مرت القضية الفلسطينية بحالات مد وجزر، صعود وهبوط، ولكنها ظلت حاضرة ولم تمت وهو ما يرتب على القوى الفلسطينية أولاً البحث عن سبل وأدوات جديدة لتحقيق مشروعها الوطني بكل أبعاده التحررية، وبارتباطه العضوي بقضايا المنطقة، بعيداً عن الأوهام التي قادت إلى مطبات خطيرة وتسببت بانحرافات كبرى.
المصدر: اشراق