التيار المحافظ تتجاذبه ثلاثة اتجاهات أو أجنحة أساسية بدأت تتبلور بشكل واضح.
إذ لم يحدث أن شهدت إيران في تاريخها المعاصر ما بعد انتصار الثورة، ما تشهده رئاسة الجمهورية حالياً من صراعات داخل البيت أو التيار الواحد الممسك بالسلطة ومقاليد الحكم والنظام، بخاصة مع تولي شخصية محسوبة على منظومة السلطة والنظام مسؤولية السلطة التنفيذية، في حين كانت الصراعات السابقة تقوم بين اتجاهين أو توجهين حول رؤيتهما لطبيعة السلطة والدولة، أو في تعبير أدق صراع بين اتجاه يسعى لتغليب مفهوم الجمهورية وآخر يعمل على تغليب مفهوم السلطة الدينية، ثم، وهو الصراع الذي أدى في بدايات قيام الجمهورية والنظام إلى التصادم بينهما في رئاسة أبو الحسن بني صدر، وانتهى بإقالته من منصبه بتواطؤ المؤسسة الدينية مع البرلمان الذي وجه له اتهاماً بالعمالة والخيانة، وصوّت على سحب الثقة منه لفقدانه الأهلية الدستورية، بعد أن أعطى المؤسس السيد روح الله الخميني الضوء الأخضر والغطاء الديني لهذا الإجراء.
أن يتحدث أحد النواب في البرلمان الموالي بالكامل للنظام والتيار المحافظ بكل أجنحته عن تسليم طلب استجواب لرئيس الجمهورية إلى هيئة الرئاسة في البرلمان، وعلى الرغم من أنه لم يأخذ طريقه في المجاري القانونية بجمع تواقيع أكثر من عشرة نواب للانتقال به إلى المرحلة التنفيذية، فإنه يشكل تعبيراً واضحاً عن مدى وحجم التجاذب والصراع المسيطر والسائد بين أجنحة التيار المحافظ، ليس فقط على خلفية الإخفاقات التي تعانيها الحكومة في إدارة الملف الاقتصادي والعلاجات المطلوبة للأزمات المعيشية المتزايدة يومياً أمام المواطن الإيراني، بل أيضاً نتيجة فشل الفريق الاقتصادي للرئيس في رسم سياسات ناجعة تخفف من تداعيات التأخير المسيطر على المفاوضات النووية، وما تعنيه من إعادة إحياء اتفاق 2015 وإلغاء العقوبات الاقتصادية.
لكنها تكشف أيضاً عن حجم الخلافات والصراعات المستحكمة بين أقطاب تيار السلطة، وانفجارها كتعبير عما يدور في خلفية المشهد السياسي من تنافس بين هذه الأجنحة للتفرد في السيطرة على القرار التنفيذي والتحكم بمستقبل النظام والسيطرة على مفاتيح القرار والسياسات العامة التي تقود توجهاته.
وبقليل من التدقيق، يتضح أن التيار المحافظ تتجاذبه ثلاثة اتجاهات أو أجنحة أساسية بدأت تتبلور بشكل واضح، واحد يقوده رئيس الجمهورية ومعه جزء من المؤسسة العسكرية لحرس الثورة، وآخر يدور في فلك رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف، في حين يلعب جناح مرتبط بأمين المجلس الأعلى السابق سعيد جليلي دوراً مفترضاً كحكومة ظل تمارس الرقابة على أداء مؤسسات الدولة، بناء على رؤيتها الرافضة أي تنازلات أمام الضغوط الخارجية – الأميركية والأوروبية، ولا تخفي موقفها السلبي من المفاوضات النووية والسعي لإفشالها أو إيقافها.
في نحو 11 شهراً على انتخابه رئيساً للجمهورية، ونحو ثمانية أشهر على مباشرة عمله على رأس السلطة التنفيذية، ارتفعت الأصوات داخل القوى السياسية المتشددة التي دعمت وصول إبراهيم رئيسي إلى هذا الموقع، معترضة على فشله في إدارة الملفات الحيوية والمصيرية التي تواجهها إيران على المستويين الداخلي والدولي.
وعود “السمن والعسل” التي رفعتها حكومة رئيسي والقوى المحافظة مدعومة من منظومة النظام والسلطة الدينية، بتقديم حلول جذرية لكل الأزمات المتراكمة التي تعانيها إيران، بمجرد تسلمه أو استعادته مقاليد السلطة التنفيذية والقرار السياسي الحكومي، جاءت عكسية، وسرعان ما بات يتهم عهد رئيسي بالفشل، في ظل مطالبات علنية بإجراء تعديلات وتغييرات في تشكيلته الوزارية المعنية خصوصاً بالملف الاقتصادي، بعد أن عجزت عن ترجمة الوعود التي قدمها رئيسي في برنامجه الانتخابي، وصولاً إلى اتهامه بالجهل بمعرفة الخبرات الوطنية القادرة على قيادة الدفة الاقتصادية ووضع حلول عملية لمواجهة الأزمات المتصاعدة التي باتت تهدد بانفجار اجتماعي، وجد تعبيره في أزمة فقدان مادة الطحين في الأسواق وارتفاع أسعارها بشكل جنوني، جعلت من الحصول على رغيف الخبز غير متيسر لشرائح واسعة من الشعب، بالإضافة إلى ما عبرت عنه بعض الأصوات المعترضة على تفاقم الأزمة الاقتصادية بأن “حلم الإيراني بات يتلخص في الحصول على ربطتي معكرونة” التي فقدت من الأسواق وارتفعت أسعارها، بحيث أصبح من المتعذر على الطبقات الفقيرة الحصول عليها.
ولم تفلح كل الجهود التي بذلت على مستوى القيادة العليا لمنع ظهور الخلافات داخل التيار المحافظ وبين أجنحته إلى العلن، بحيث بات الحديث يجري بشكل علني عن معركة سياسية بين رئيسي وفريقه من جهة، وقاليباف وفريقه من جهة أخرى، تستخدم فيها كل الأوراق، يسعى كل طرف إلى إضعاف الطرف الآخر، وتثبيت مواقعه كجهة قادرة أن تشكل خشبة الخلاص والنظام والدولة من الأزمات التي تعيش بها إيران. وهي معركة أسقطت فيها كل المحرمات الأخلاقية، بحيث حاول فريق رئيسي توظيف الرحلة السياحية التي قامت بها زوجة قاليباف برفقة ابنتها وصهرها إلى تركيا وشراء حاجيات لسبط قاليباف كفضيحة لإضعاف موقفه، وإظهار التناقضات في مواقفه والتباين بين الشعارات التي يرفعها وما فيها من دعوة إلى التقشف والعيش البسيط، والسلوكيات البرجوازية التي تتكشف من خلال هذه الحادثة، فضلاً عن إعادة إحياء ملفات الفساد المشبوهة التي فتحت له خلال توليه مسؤولية “عمدة العاصمة”، إلى جانب إحياء التسريب الصوتي لقائد حرس الثورة السابق محمد عزيز جعفري الذي يتحدث فيه عن صفقات وفساد واختلاس وسمسرات شارك فيها قاليباف.
الهجوم على رئيسي، يمكن وصفه بأنه محاولة تصفية حسابات بينه وبين الأجنحة الأخرى داخل التيار المحافظ، ما اضطر المرشد الأعلى إلى الدخول على خط التهدئة، بحيث قطع الطريق على تصاعد حدة الانتقادات الموجهة لقاليباف، في المقابل، دعا جميع المخلصين للنظام إلى تقديم الدعم لحكومة رئيسي ومساعدتها لتجاوز الأزمات الاقتصادية، في وقت يبقى المدخل الرئيس للخروج من هذه الأزمات مرتبطاً بمدى استعداد النظام لإعادة تفعيل المفاوضات النووية التي تضمن الخروج من دائرة العقوبات، وأن هذا القرار الاستراتيجي يعني الحد من دور وتأثير الجناح المعارض للمفاوضات وأي تنازلات محتملة.
المصدر: اندبندنت عربية