“تعني الآثار المباشرة للتغيير في إسلام آباد تحويل المنطقة إلى ساحة مواجهة أميركية جديدة”. يبدو أن منسوب القلق الذي تعامل به النظام الإيراني مع التطورات التي شهدتها دولة باكستان، والصراع الذي انتهى بالبرلمان الباكستاني إلى عزل رئيس الوزراء، عمران خان، بدأ يأخذ منحى تصاعدياً، لما لتداعيات هذا الحدث من دور محوري وتأثير لا يتقصر على الداخل الباكستاني، بل يُطاول أيضاً ويؤثر على استقرار منطقة آسيا الوسطى، والمعادلات التي استجدّت بعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وربط ذلك بالنتائج المحتملة للحرب الروسية في أوكرانيا.
فمن وجهة نظر إيرانية، وهي وجهة نظر تشترك فيها طهران مع كثير من الدول المعنية باستقرار منطقة آسيا الوسطى وأمنها، بخاصة روسيا والصين، إن ما حصل في باكستان على الصعيد السياسي، ينسحب على الصعيدين الأمني والعسكري في هذه المنطقة، ويصب في إطار إعادة توزيع موازين القوى بين الأطراف، وذلك في محاولة أميركية واضحة لمعالجة نتائج وتداعيات قرار الانسحاب من أفغانستان وعودة حركة “طالبان” إلى الحكم وإعلان “الإمارة الإسلامية” في هذا البلد على أنقاض السلطة التي سعت وعملت واشنطن على ترسيخها في كابول على مدى عقدين من الزمن واحتلالها هذا البلد.
وانطلاقاً من هذه الرؤية، تعتقد القيادة الإيرانية، وبكثير من الحذر، أن ما شهدته الساحة الباكستانية في الأسابيع الأخيرة والصراع الذي تفجر بين عمران خان والقوى السياسية، لا يقف عند حدود ما كشف عنه الأخير من ضغوط أميركية تتعلق بالداخل الباكستاني وأفق التعاون مع واشنطن وما طلبته من إقامة قواعد عسكرية متقدمة على الأراضي الباكستانية، بل يرتبط مباشرةً بما حدث في أفغانستان وعودة “طالبان” إلى السلطة، وسياسة الاحتواء التي اعتمدتها دول الجوار الأفغاني في التعامل مع هذا المتغير، فضلاً عن أنه يدخل في إطار الصراع الباكستاني – الهندي على النفوذ والسيطرة في أفغانستان، بخاصة أن حكومة نيودلهي كانت تعتبر من الدول المتحالفة والمؤثرة على حكومة أشرف غني، الرئيس الأفغاني السابق، في حين كان العلاقة بين كابول وإسلام آباد تعاني توتراً عالياً كان يهدد بالانفجار على خلفية التعاون الذي يربط بين الإدارة الباكستانية وحركة “طالبان”.
سياسة الاحتواء التي اعتمدتها دول الرباعية المعنية بالحدث الأفغاني، أي طهران وإسلام آباد وموسكو وبكين، في التعامل مع التداعيات المقلقة، على أمنها واستقرارها، للانسحاب الأميركي من هذا البلد نتيجة عودة “طالبان” إلى السلطة، أسهمت، بحسب اعتقاد طهران والإدارة الإيرانية العميقة، في إفشال الأهداف الأميركية التي بدأت تتبلور مع الحرب الأوكرانية، كمحاولة من واشنطن للتعويض عن انتكاسة سياساتها في آسيا الوسطى بعد قرار انسحابها المُربك وما سبب من زعزعة الثقة بمواقفها مع حلفائها.
وعلى الرغم من موجة الاعتراض الكبيرة، من القوى الإصلاحية والمحافظة على حد سواء في إيران في مواجهة السياسات التي اعتمدها النظام في التعامل مع الحدث الأفغاني، والاقتراب إلى مشارف الاعتراف الرسمي بحكومة “الإمارة الإسلامية” لـ”طالبان”، فإن الاستراتيجية الإيرانية على هذا المسار، كانت تنسجم ومنسجمة مع رؤية واحدة حكمت رؤية وتعامل كل العواصم السابقة مع المستجد الأفغاني. على مبدأ تحويل التهديد إلى فرصة، وتوظيف خطأ الانسحاب الأميركي أو الطريقة التي جرى فيها، لصالح تعزيز مصالحها واستراتيجياتها في منطقة آسيا الوسطى واستقرارها.
وإذا ما كانت روسيا ترى في بناء علاقة مع سلطة “طالبان”، أمراً مساعداً في التفاهم على عدم تحويل الأراضي الأفغانية إلى مصدر تهديد أمني ومسرح لنفوذ التنظيمات الإرهابية وعملياتها، وبخاصة “داعش”، باتجاه العمق الروسي، إلى جانب ما توفره أفغانستان من إمكانات اقتصادية باعتبار ما تشكله من عقدة نقل باتجاه المياه الدافئة، فإن الصين أيضاً سعت إلى بناء علاقات مستقرة مع هذه السلطة، انطلاقاً من مصالحها الاقتصادية، وأيضاً لإبعاد إمكانية عودة نشاط الجماعات المتطرفة على حدودها في منطقة تركستان الأفغانية على الحدود المشتركة المفتوحة على مناطق الإيغور.
أما على صعيد العلاقة بين باكستان في ظل حكومة عمران خان وسلطة “طالبان”، فإن المشهد يبدو أكثر تعقيداً، لجهة التداخل الديموغرافي بين البلدين، إذ يشكل أبناء القومية البشتونية، التي تنتمي إليها “طالبان”، المكون المسيطر على الحدود المشتركة، التي يبلغ تعدادها داخل باكستان، بحسب آخر الإحصاءات السكانية نحو 42 مليون نسمة من أصل 220 مليون، هم عدد سكان باكستان. ويضاف هؤلاء إلى نحو 12 إلى 17 مليون بشتوني في أفغانستان، فيما يشكل أبناء هذه القومية عصب القوة العسكرية الضاربة لجماعة “طالبان”، فضلاً عن أن القوة الرئيسة التي سيطرت على كابول في أغسطس (آب) 2021، شارك فيها عشرات الآلاف من المقاتلين البشتون الباكستانيين. من هنا فإن الإجراء الأول الذي قامت به القوات المسلحة الباكستانية بعد سقوط عمران خان، تمثل في قيام نحو 27 طائرة مقاتلة باستهداف مواقع لـ”طالبان” في محافظتين أفغانيتين، ما شكل مؤشراً واضحاً إلى التغيير الحاصل في سياسة إسلام آباد في التعامل مع كابول.
في المقابل، وجدت طهران فرصةً في التغيير الذي حصل في أفغانستان، وحاولت توظيفه باعتباره “هزيمة أميركية” ومسوغاً للرد على كل الذين يدعون للثقة بالوعود الأميركية في الداخل الإيراني، وذهبت إلى توظيف الحاجة الأفغانية لتحويل هذا البلد إلى منفذ للالتفاف على العقوبات، وتعزيز علاقاتها التجارية باتجاه دول آسيا الوسطى عبر أفغانستان باعتبارها عقدة مواصلات استراتيجية في هذا الإطار.
إلا أن عودة العمليات الإرهابية والتفجيرات التي تستهدف المكون الشيعي من قومية الهزارة الأفغانية، إلى جانب استهداف دول الجوار الأخرى، وتأكيد طالبان عدم مسؤوليتها عن ذلك، واتهام الجماعات المتطرفة مثل “داعش”، لم يدفع طهران وحدها إلى إعادة حساباتها في التعامل مع هذه التطورات وتداعياتها، بل أجبر جميع الدول المعنية على ذلك، باعتبار أن الآثار المباشرة للتغيير الحاصل في باكستان، تعني تحويل المنطقة إلى ساحة مواجهة أميركية جديدة، بجعل أفغانستان منطلقاً لعمليات التخريب وزعزعة الأمن والاستقرار، بالتالي قطع الطريق على بناء أي منظومة اقتصادية – سياسية – عسكرية في هذه المنطقة بين روسيا والصين وإيران، وهي منظومة قد تضاف إلى تعقيدات الصراع القائمة بين واشنطن وهذه الدول على الساحة الدولية، بخاصة في منطقة غرب آسيا وامتداداتها في الشرق الأوسط.
المصدر: اندبندنت عربية