يُجمعُ السوريون في غالبيتهم العظمى على أن (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة) لا يمثلُهم، ولا يعبر عن تطلعاتهم نحو الحريةِ والكرامة، بل أكثر من ذلك حين يرون فيه وجهاً آخرَ للنظام بفساده وهيمنتِهِ وعدم تعبيره عنِ تطلعاتِهم وأمانيهم، مع شعورٍ بالخذلان والخيبة ينتابُهم، بعد أن منحوه الثقةَ، في لحظة تاريخية بدت لهم قريبةً. ذلك منذ أمد بعيد.
لا يقفُ الأمرُ عند هذه المعاني فقط، بل تطول لائحةُ “الاتهام” لتصلَ إلى التفريط بقرارهم المستقلِ الذي رهن دماءَهم وتضحياتِهم للدول المتدخلة والمؤثرة في القضية السورية، التي هي بالأصل صاحبةُ مشاريعَ ومصالحَ تقوم على حساب سوريةَ وأمنِها ودورِها وموقعِها ككيان ودولة، وعلى حساب شعبِها ووحدته ومستقبله.
في هذه الأيامِ التي تحلُّ فيها الذكرى 76 لعيد الجلاء، أو “الاستقلال” يدرك معظمُ السوريين أن نظام الأسد، الأب والابن، فرَّط باستقلالهم وباع تضحياتِ أجدادِهم وآبائهم، بأشكال مختلفة، إلى أن وصل بهم الحالُ معه في السنوات الأخيرة لاستدعاء كلِّ قوى الغزوِ والاحتلال، والميلشيات الطائفية الكريهة، وفتح الباب واسعاً لكل أشكال التدخل الخارجي، لقمع إرادتِهم، وتهجيرِهم وتدميرِ مدنِهم، في مقابل بقائِه حاكماً عليهم، مُتحكِّماً بمصيرهم.
إدراكُ السوريين، ووعيُهم بأن استقلالَهم في 17 نيسان/ أبريل 1946ضيَّعَه وبددَه آلُ الأسد، ولم يبقَ من معانيه الحقيقية شيئاً يُذكر أو يُعتدُّ به، جعلهم غيرَ معنيين بهذا الحدثِ التاريخي، لا من قريب أو بعيد، سوى أنه مناسبةٌ يترحمون فيها على من قضَوا في سبيل حريةِ وعزةِ وطنِهم، يماثله ويطابقه، تماماً، وعيُهم وإدراكُهم أن من ادِّعى تمثيلَهم، بل واغتصبَه، رهن إرادتَهم للخارج، وتخلى عن أمانة عذاباتِ المعتقلين والمهجرين، وحنثَ بالوفاء لدماء الشهداء.
ما يفسرُ ما نقول ويشهد عليه ويدعمُه هو عدمُ اكتراثِ الغالبية العظمى من السوريين بما يجري داخل الائتلاف من صراعات، تحت مسمياتٍ وعناوينَ مختلفةٍ، والردود من هذا الطرفِ أو ذاك من دعاوي الإصلاح والنقد والمراجعة المتأخرة، وكلُّ ذلك تحت شعاراتٍ لم تنطلِ على أحد منهم، وهم بفطرتهم يعلمون، وعلى يقين تامٍّ وكامل، ألَّا علاقَة لهم بما يجري، وأن ذلك مجردُ “اقتتال” مصالحَ مدعوماً من الدول المتدخِلة، كما أنهم في المقابل على قناعة تامة بأن جلاءَ مستعمرِ الأمسِ حلَّ محلَّه محتلٌّ من أبناء جلدتِهم أشدُّ طغياناً وقهراً، استقدم حين دعتْهُ الحاجةُ، كلَّ غزاةِ الأرض ليحتلوا بلدَهم، بما يملكون من قوة وأسلحة حديثة ومتطورة وفتاكة لتذيقَهم أصنافَ العذاب والموت.
بين وعيين، وحالين، يقف السوريون، بعامتهم، ساخطين على معارضتهم ونظامهم معاً، محاولين إيجاد بديلِهم الوطنيِّ الذي يحرر بلدَهم وإرادتَهم، ويمكِّنُهم من استعادة الثقة بأنفسهم، واستلام زمام المبادرة لصنع مستقبلهم، ووصل ما انقطع بين استقلالِهم الضائعِ واستقلالِهم المنشود.
ليس في ذاكرة السوريين الجمعيَّةِ الكثيرُ من معاني الاستقلال الذي أرادوه، خصوصاً عندما يقرون بفشل نخبِهم وعجزها عن بناء دولتِهم الوطنية!!! لأسباب داخليةٍ وخارجيةٍ، تاريخيةٍ وسياسيةٍ، ولعل أحدَ معاني ثورتِهم المغدورةِ -في آذار/ مارس 2011-هو استعادةُ استقلاليةِ إرادتِهم وحريتهم في التعبير عنها، واستعادةُ استقلالِ وطنهم خارجَ الإلحاقِ بالمشاريع المتغوِّلة عليهم وعلى المنطقة برمتها، في ظل صراعاتٍ إقليميةٍ ودوليةٍ، ليس لكيانهم، أو وطنهم الصغير، فيها لا ناقةٌ ولا جملٌ، وهو الحال الذي وصلت إليه المنطقةُ برمتها جراء انحسارِ المشروعِ النهضوي العربي، أو تراجعه، الذي يقوم على الاستقلال بكل معانيه ومقاصده.
تكبُرُ مأساتُنا، عندما يقارن السوريون بين معارضتِهم ونظامِهم لجهة التفريطِ باستقلالهم، وقرارِهم، واشتراكهما معاً بالتبعية والارتهان؛ لتتحولَ سوريةُ لساحة صراع، وشعبُها وقوداً لمحرقةٍ أرقامُها مفجعةٌ وكارثية على كل الصعد.
أمام السوريين طريقٌ طويلٌ ووعرٌ لنيل حريتِهم واستقلالهم، ودونهم، ودون ما يصبون إليه هوةٌ واسعةٌ غيرُ قادرٍ على ردمها إلا المخلصون الصادقون من السوريين الأحرارِ والشرفاء، الذين لم تلوثْهم المصالحُ ويشوِّهْهُمُ الفساد، وهم كثُر جداً، وهمُ المناطُ بهِمُ اتخاذُ المبادرات، وتجميعُ القوى والطاقات الإيجابية لاستعادة وهجِ وبريق نيسان/ أبريل 1946 وعنفوان آذار/ مارس 2011.