أن تقول طهران إن الاتفاق النووي دخل “غرفة الإنعاش” يعني أنه اقترب من الطريق المسدود. يمكن القول إن ما انتهت إليه الأزمة التي استجدت منذ نحو شهرين في المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة، أنها أعادت إلى الواجهة “الفقرات المفتوحة” في مسودة الاتفاق أو التفاهم الجديد الذي بذل الطرفان جهوداً على مدى 10 أشهر من أجل إقفالها والانتقال إلى المرحلة النهائية وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل نوفمبر (تشرين الثاني) 2018، وإعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب عن تفعيل أول حزمة من العقوبات بعد قرار الانسحاب من الاتفاق النووي لعام 2015.
للمرة الأولى، يعترف المتحدث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زاده أن الفقرات المفتوحة في الاتفاق ليست قليلة، وأن الاختلاف في المواقف بين طهران وواشنطن لا ينحصر في مطلب رفع العقوبات عن حرس الثورة، ومحاولة واشنطن تكريس مبدأ “التقسيم الوظيفي” لهذه العقوبات بين هذه المؤسسة ككل، وبين الذراع الإقليمية لها المتمثلة في قوة “القدس”، أي إخراج المؤسسة التي هي جزء من القوات المسلحة الإيرانية وأحد الأقطاب المؤثرة في الاقتصاد الإيراني من لائحة العقوبات الاقتصادية، والإبقاء على قوة “القدس” على لائحة المنظمات الإرهابية والداعمة للإرهاب.
أن تعتبر الجهة المسؤولة عن تنفيذ رؤية النظام الاستراتيجية في المفاوضات النووية، أي وزارة الخارجية، وجود عقد كثيرة، وأنها لم تحقق تقدماً في حل وتفكيك الموقف الأميركي من “الخطوط الحمراء” التي وضعتها على طاولة التفاوض، واتهام الطرف الأميركي بوضع شروط جديدة لا تساعد على التقدم باتجاه حل يضمن للطرفين الوصول إلى هدف إعادة إحياء الاتفاق، يعني أن الأمور عادت أو بدأت بالعودة إلى نقطة البداية التي انطلقت منها المفاوضات قبل أكثر من 11 شهراً، وأن الانفراجات الحاصلة في موضوع الإفراج عن بعض الأموال الإيرانية المجمدة سواء في أميركا أو الدول الأخرى، لا يعبّر عن تقدم جدي في التوصل إلى حلول، بل يدخل في إطار تفكيك بعض الملفات العالقة بين الطرفين من خارج الأزمة النووية، بخاصة في موضوع الموقوفين في السجون الإيرانية من التابعيات الأميركية أو الغربية من أصول إيرانية، إضافة إلى جرعات أميركية مهدئة للاقتصاد الإيراني ومنع انهياره مع الإبقاء عليه في حال توتر، كورقة تساعد المفاوض الإيراني على التعامل الإيجابي مع شروط الاتفاق.
لا شك في أن الخارجية الإيرانية ليست الجهة المسؤولة عن اتخاذ القرار الحاسم في ما يتعلق بالمفاوضات، وكما أكد المرشد الأعلى للنظام الإيراني علي خامنئي في تعليقه على المواقف التي سبق أن كشفها وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، بأن القرار خاضع لجهات عليا فوق وزير الخارجية، هي التي تضع وترسم السياسات العليا والاستراتيجية للنظام وتنفذها وزارة الخارجية، وتوازن بين مصلحة “الميدان”، أي دور الذراع العسكرية الإقليمية بالتنسيق مع المجلس الأعلى للأمن القومي، وبين “الدبلوماسية” بما تعنيه من جهاز تنفيذي لهذه الاستراتيجيات في عملية تفاوض وحوار.
أن تقول الخارجية الإيرانية إن الاتفاق دخل “غرفة الإنعاش”، يعني أنه اقترب من الطريق المسدود، وباتت الأمور بحاجة إلى جرأة كبيرة لدى الجهات المسؤولة لاتخاذ قرار مصيري لا يقتصر على الجانب النووي وحدود وآليات رفع العقوبات الأميركية، بل يتجاوزه ليلامس مصير استقرار النظام وقدرته على التعامل مع تداعيات فشل هذه المفاوضات على الأوضاع الداخلية وعملية النهوض الاقتصادي ومعالجة الأزمات المعيشية المتفاقمة والمتسارعة للمواطن الإيراني.
ولعلّ حجم التحديات التي تحملها هذه الأزمة المستجدة في الجدل الإيراني الأميركي، وعدم وجود رؤية واضحة لدى الطرفين حول آليات الخروج من هذا النفق المسدود، بخاصة أن تنازل أي طرف منهما في موضوع العقوبات على “حرس الثورة” يعني تنازلات موجعة ومكلفة، هذه التحديات هي التي دفعت المرشد الأعلى للنظام للحديث في اللقاء الذي جمعه مع مسؤولي الإدارة والقيادة في الدولة والحكومة إلى الاعتراف الضمني بحال الجهود والانسداد اللذين وصلت إليهما المفاوضات، وأن المرحلة المقبلة تتطلب التعامل مع الانفراجات الحاصلة على الصعيد الاقتصادي نتيجة الالتفاف على العقوبات وقدرتها على مساعدة إيران في الصمود أمام الحصار المفروض عليها، من دون أن يتخلى عن الدفاع عن الفريق المفاوض، بما يمثله من تعبير عن موقف النظام في هذه المفاوضات وعدم التنازل أمام الضغوط الأميركية وشروطها.
ما يكشفه دخول المرشد الأعلى في هذا التفصيل، ومحاولة ضبط إيقاع التراشق السياسي وتحميل المسؤوليات عن فشل المفاوضات، وجود أزمة واضحة في قدرة الجهات المسؤولية عن التفاوض على اتخاذ القرارات الجريئة، إما لخوفها من مواجهة المصير الذي وصل إليه الفريق المفاوض السابق بقيادة رئيس الجمهورية السابق حسن روحاني ووزير خارجيته ظريف، وإما لعدم رغبتها بتحمّل المسؤولية عن تداعيات مثل هذا القرار وما فيه من مخاطر على مستقبلها السياسي.
وفي الوقت الذي لم يتردد الرئيس السابق روحاني في السعي لاتخاذ القرار المصيري والتمسك بالاتفاق وضرورة التفاوض مع الإدارة الأميركية، ودخل في تحدٍّ واضح وعلني مع إرادة المرشد الأعلى، يبدو أن الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي الذي يتولى في الوقت ذاته رئاسة المجلس الأعلى للأمن القومي، لا يريد أن يتحمّل مسؤولية اتخاذ أي قرار بشأن مصير المفاوضات، خوفاً من مسؤولية هذا القرار، لذلك يلجأ إلى الاختباء خلف مواقف المرشد، وترك الأمور للدولة العميقة في رسم الموقف والتعبير عن القرار.
الخوف والتردد ينسحبان أيضاً على رئيس الوفد المفاوض، مساعد وزير الخارجية علي باقري كني، فهو إضافة إلى كونه أحد أبرز معارضي الاتفاق الموقع عام 2015، وعلى الرغم من قبوله بتولّي مهمة التفاوض، إلا أنه يتعامل مع هذه المفاوضات من منطلق موقفه المسبق الذي يمثل وجهة نظر فريق داخل النظام لا يريد الاتفاق، فضلاً عن خوفه على مستقبله السياسي من أن يتحمل مسؤولية هذا الاتفاق وأن يحاسب من قبل التيار المتشدد.
المصدر: اندبندنت عربية