في انتظار الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، في 24 أبريل (نيسان)، وعلى الرغم من الأزمات التي شكلت خط الدبلوماسية الفرنسية خلال ولايته الأولى، يبدو فوز الرئيس إيمانويل ماكرون بالغ الأهمية لجهود الولايات المتحدة نحو توحيد المواقف مع أوروبا. ويبدو فوز ماكرون مهماً بدرجة أكبر للأوروبيين أنفسهم بسبب حرب أوكرانيا. فما الذي يجعل ماكرون يكتسب هذه الأهمية، بينما يخوض جولة حاسمة ضد زعيمة اليمين المتشدد مارين لوبن؟
خطر لوبن
على الرغم من تقدم ماكرون على لوبن، في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، الأحد 10 أبريل، فإنه في طريقه إلى مواجهة أصعب بكثير في الجولة الثانية مما كانت عليه قبل خمس سنوات. وهو ما يثير القلق في عدد من الدوائر السياسية في كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على حد سواء، ليس حباً في ماكرون وسياساته الخارجية تجاه بروكسل وواشنطن، إنما خشية من لوبن التي أعلنت بكل صراحة عن عزمها اتباع سياسة مخالفة تماماً للسياسة التي اتبعتها فرنسا على مدى أجيال.
فمن ناحية، أعلنت لوبن التي تقود كتلة يمينية متشددة متعاطفة مع روسيا والرئيس فلاديمير بوتين عن رغبتها في سحب القوة النووية الوحيدة في الاتحاد الأوروبي من هيكل القيادة المتكامل لحلف “الناتو” كي لا تقع فرنسا في صراعات ليست لها. الأمر الذي يعد تهديداً بتفكيك الوحدة الغربية ضد روسيا، كما أنها تسعى على ما يبدو إلى إبطاء حركة الاندماج في الاتحاد الأوروبي. وهو ما يثير قلقاً بالغاً في بروكسل ويخلق شعوراً عاماً بانعدام الثقة في المؤسسات الأوروبية.
تهديد للنظام الغربي
وعلى الرغم من أن فوز لوبن برئاسة فرنسا لا يعني بالضرورة انهيار الاتحاد الأوروبي أو تراجع عملة اليورو، وليس من المرجح أن تخرج من الاتحاد الأوروبي بعملية “فريكست” مثلما فعلت بريطانيا من خلال “بريكست”، إلا أن وجود سياسية يمينية متشددة في مقعد رئاسة دولة بثقل فرنسا في الاتحاد الأوروبي وحلف “الناتو”، تمثل تهديداً حقيقياً للنظام الغربي الليبرالي. فقد أبدت لوبن في السابق إعجابها ببوتين قبل أن تؤيد أوكرانيا أخيراً، بعد الهجوم الروسي لأسباب انتخابية. وهي كانت تتجاهل قواعد الاتحاد الأوروبي من خلال تفضيل المواطنين الفرنسيين على الآخرين، من الإسكان إلى التوظيف.
وإذا ما فازت لوبن بالرئاسة، فقد تُعرقل القرارات في الاتحاد الأوروبي التي تُتخذ بالإجماع عبر فيتو فرنسي. وقد يكون من المستحيل تحقيق المستوى العالي للتنسيق بشأن العقوبات على روسيا مع وجود لوبن رئيسة لفرنسا، والتي يصفها مراقبون مثل مجتبى رحمن، الباحث في مجموعة “أوراسيا”، بأنها عميلة لبوتين، في إشارة إلى ما يتردد منذ فترة عن قرض قيمته 11 مليون دولار، حصل عليه حزبها عام 2014 من بنك روسي غامض له صلات بالكرملين.
ماكرون أفضل
في المقابل، فإن تمسك ماكرون كأصغر زعيم فرنسي منذ نابليون بونابرت بدور المدافع عن أوروبا بعد فوزه المفاجئ عام 2017، ووضع الدبلوماسية الفرنسية في دائرة الضوء عبر تعزيز دور الوساطة الفرنسية على الساحة العالمية، منح ماكرون وضعاً أفضل بكثير بالنسبة إلى غالبية الدول الأوروبية والولايات المتحدة التي تنظر لفرنسا باعتبارها لاعباً رئيساً في قيادة الاتحاد الأوروبي إلى جانب ألمانيا بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. إضافة إلى أن خسارة ماكرون كأول رئيس دولة في أوروبا الغربية يخوض انتخابات منذ توغل دبابات بوتين في أوكرانيا قبل سبعة أسابيع، من شأنه أن يعطي رسالة خطأ لموسكو، وقد تسهم في زعزعة التحالف الغربي الصلب الذي لعب فيه ماكرون دوراً مهماً على الرغم من بعض التردد الذي اتسمت به مواقفه قبيل الهجوم الروسي.
أما إذا فاز ماكرون في الجولة الثانية، فلا شك في أنه سيؤدي إلى علامات ارتياح في بروكسل وواشنطن مثلما أدى انتخابه للمرة الأولى رئيساً لفرنسا عام 2017، إلى ارتياح مماثل كونه حمل لواء الوسطية الراديكالية في أوروبا، في وقت كان التيار السائد معاكساً بقوة، إذ صوتت بريطانيا في العام السابق لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وانتخبت الولايات المتحدة دونالد ترمب، وكان الشعبويون في جميع أنحاء أوروبا يتقدمون في استطلاعات الرأي، بما في ذلك في السويد والدنمارك وألمانيا وإيطاليا.
داعم لأوروبا
ولا يشكك أحد في دعم ماكرون للاتحاد الأوروبي، ففي واحدة من أولى خطواته كرئيس، أعاد بصفته عاشقاً لأوروبا تسمية وزارة الخارجية الفرنسية لتصبح “وزارة أوروبا والشؤون الخارجية”، ولم يخفِ آماله في أن يكون لدى الاتحاد الأوروبي يوماً ما ميزانية واحدة، وقواعد مالية مشتركة، ودفاع مشترك. وكان ماكرون القوة الدافعة وراء إنشاء صندوق مشترك بقيمة 750 مليار يورو (818 مليار دولار) لمساعدة الاقتصادات الأضعف في أوروبا على الخروج من الهوة التي أنتجها فيروس كورونا خلال العامين الماضيين.
وعشية تولي فرنسا رئاسة الاتحاد الأوروبي التي استمرت ستة أشهر، حوّل ماكرون تركيزه إلى الأمن، ودعا إلى تقارب أكبر في السياسة الخارجية والدفاعية بين دول الاتحاد، مشيراً إلى أهمية التحول من أوروبا التي تتعاون داخل حدودها إلى أوروبا القوية في العالم، ذات السيادة الكاملة، والحرة في اتخاذ خياراتها والسيطرة على مصيرها.
ووسط مشهد آلاف الأوروبيين الفارين من الحرب في أوكرانيا، أعلن ماكرون أن فرنسا ستأخذ حصتها من اللاجئين، بينما كان بعض المرشحين اليمينيين مثل إريك زمور رافضاً لسياسات الهجرة.
رؤية مختلفة
مع ذلك، فإن مفهوم الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي الذي تلعب فيه فرنسا دوراً ريادياً والذي بدا في البداية منطقياً وعملياً، تحطم واحترق مع بدء حرب أوكرانيا، حيث فشلت محاولات ماكرون الدبلوماسية الشخصية مع بوتين، في إحراز أي تقدم. وكان ماكرون غائباً تماماً عن حشد رد أوروبي على أخطر تهديد للقارة منذ عام 1945، والتي تعود إلى رؤية ماكرون الخاصة لأوروبا وضرورة استعادة حضارتها العظيمة والفريدة التي يرى أنها تختلف عن حضارة الولايات المتحدة والصين من حيث القيم، ولكنها تشمل روسيا التي تتمتع بمكانة خاصة في مجموعة قوى باعتبارها جزءاً من أوروبا ولاعباً نشطاً في قيادة مشروع الحضارة الأوروبية.
وجعلت هذه الرؤيا ماكرون يسعى إلى علاقة جديدة مع روسيا ضد المصالح الواضحة للعديد من الدول الأوروبية التي نظرت إلى روسيا والولايات المتحدة بشكل مختلف، إذ اعتبر ماكرون في العديد من خطاباته ولقاءاته أنه لا يمكن أن يكون هناك مشروع دفاع وأمن للمواطنين الأوروبيين من دون إعادة بناء تدريجي للثقة مع روسيا، وأن مصالح أوروبا لن تخدمها العقوبات الأميركية المفروضة على روسيا.
لكن، في الساعات الأولى من 24 فبراير (شباط)، عندما ضربت الصواريخ الروسية الأولى المدن الأوكرانية، انهار الصرح الفكري لماكرون تحت وطأة أوهامه وتناقضاته، بحسب ما يقول بارت جيه زيفتشيك، عضو فريق تخطيط السياسات السابق في وزارة الخارجية الأميركية، والباحث في صندوق مارشال الألماني.
وبدلاً من قيادة أوروبا، كما كان يأمل، تنازل ماكرون عن الميدان للآخرين، حيث كشفت حرب روسيا في أوكرانيا عن مفهومه الاستراتيجي الخطأ عن أوروبا باعتبارها قوة يمكن أن تتمتع بقيادة واستقلال ذاتي من الناحية الاستراتيجية، بينما يعتبر الخط الرئيس للدفاع عن أوروبا هو 100 ألف جندي أميركي في القارة، بما في ذلك أكثر من 10 آلاف جندي ينتشرون على الخطوط الأمامية في بولندا، إضافة إلى عشرات الآلاف من القوات من دول “الناتو” الأخرى.
وعلى الرغم من وصف ماكرون السابق لحلف “الناتو” بأنه “ميت دماغياً”، وعلى الرغم من أزمة الغواصات الفرنسية الأسترالية التي ألغيت بسبب صفقة أميركية- بريطانية مع كانبيرا، فإن الولايات المتحدة لا تجد الآن بديلاً أفضل من ماكرون لقيادة فرنسا وسط عاصفة الحرب في أوكرانيا. فقد التزم الجبهة الموحدة مع حلف “الناتو” وشارك في فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا بل في طرد عدد من الدبلوماسيين الروس في باريس، بينما لا أحد يعلم على وجه اليقين ما الذي ستكون عليه مواقف لوبن إذا ما فازت بالانتخابات الفرنسية.
المصدر: اندبندنت عربية