الحراك الدبلوماسي والسياسي في الشرق الأوسط يكشف عن رسم حدود الأدوار للقوى ومراكز القرار الدولية عالمياً. في جلسة مع أحد القيادات المتقدمة لـ”حزب الله” كان يزور العاصمة الايرانية بعد حرب يوليو (تموز) 2006، وبحضور عدد من الكوادر المرافقة له، سألته عن موقف الحزب ومصير سلاحه إذا ما ذهبت الأمور إلى تفاهم دولي بين إيران من جهة والولايات المتحدة والمجتمع الدولي من جهة على آليات حل إقليمي تشمل البرنامج النووي والسلام في الشرق الأوسط؟
لم يتردد القيادي بالقول صراحة وبشكل مباشر، إذا ما كان هذا التفاهم منسجماً مع الحقوق اللبنانية والسورية في استعادة أراضي مزارع شبعا وتلال كفر شوبا لبنانياً ومرتفعات الجولان سورياً، فلا عائق أمامنا، ولدينا من فتح حواراً جدياً وعملياً حول مصير السلاح ووضع آليات تضبط مهمته في المستقبل.
ومع محاولة الكوادر الحاضرين قطع الطريق على استمراره في توصيف هذه المواقف، سألته عن مستقبل الحزب السياسي في ظل هذه التفاهمات؟، أضاف، أن مثل هذا التفاهم إذا ما حصل وأخذ بعين الاعتبار رؤية الحزب والمحور الذي ينتمي له، بخاصة في ما يتعلق بالساحة اللبنانية، فلن يكون لدى الحزب أي مانع من الجلوس إلى طاولة حوار وطني لبحث مستقبل النظام اللبناني وأسس الشراكة الحقيقية التي تضع المكون الشيعي في صلب النظام والسلطة، مع فتح ملف مستقبل السلاح في ظل استراتيجية دفاعية واضحة تفتح الطريق أمام “لبننة الحزب” وأن يكون جزءاً من الحياة السياسية اللبنانية إلى جانب القوى الأخرى في إطار معادلة تقوم على التوازن والشراكة. مؤكداً أنه عندما تتحقق هذه الرؤية وهذه التفاهمات فلن يكون أمام الحزب أي إشكالية في التعاطي الإيجابي مع موضوع السلاح والاندماج في الحياة السياسية.
في أغسطس (آب) 2020 وفي أجواء إعلان الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله نهاية الحرب في سوريا وانتصار المحور الإيراني – الروسي، وفي خطاب مطول بمناسبة ذكرى انتهاء حرب يوليو، قدم في جملة واحدة ومختصرة رؤية الحزب حول مستقبل الوضع اللبناني، التي هي جزء من رؤية المحور الذي ينتمي له، قال فيها “إن الحزب سيحتفظ بسلاحه وسيدافع عنه حتى آخر قطرة دم، ما لم يقدم له مشروع بديل حقيقي مقنع”. وهي إشارة تصب في إطار مساعي الحزب تسييل الجهد العسكري الذي قام به في لبنان والمنطقة سياسياً، وأن المشروع البديل عن السلاح، تبدأ حقيقته بالانتقال إلى فتح ملف سبق أن طرحه قبل سنوات بالدعوة إلى عقد مؤتمر تأسيسي مهمته إعادة صياغة النظام اللبناني وتركيب مؤسسات النظام والسلطة والإدارة، بحيث تضع الجماعة الشيعية في صلب هذا النظام ودستوره، وإنهاء حالة التهميش التاريخية التي عاشتها هذه الجماعة منذ تأسيس النظام عام 1943 وما بعده، ووضع حد لنمط الشراكة “الانتزاعية” الهشة التي فرضتها نتائج الحرب الأهلية وصولاً إلى اتفاق الطائف الذي كرس صراعاً على المصالح وتقاسم الحصص والمحاصصة برعاية سوريا حينها، التي يعتبر الحزب أنها جاءت وفرضت نتيجة لفقدان مبدأ الشراكة والغطاء الدستوري والقانوني الذي يحصن موقع الجماعة الشيعية في الدستور والنظام والسلطة.
الحراك الدبلوماسي والسياسي الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط منذ مطلع شهر مارس (آذار)، الذي ارتفعت وتيرته بالتزامن والتوازي مع الحرب الروسية في أوكرانيا، تكشف عن وجود جهود جدية لرسم معالم المرحلة المقبلة في الإقليم تنسجم مع النتائج المنتظرة والمتوقعة للحرب الأوكرانية، وما ستسفر عنه من “يالطا” جديدة تعيد رسم حدود الأدوار للقوى ومراكز القرار الدولية على الساحة الدولية، وفي حين أن إعادة إحياء الاتفاق النووي والتفاهم بين واشنطن وطهران ستنسحب آثاره ونتائجه على الساحة الإقليمية وإعادة ترتيب الدور والنفوذ الإيراني في المنطقة، إلى جانب أدوار وأوزان القوى الأخرى، بحيث لا تسمح بتفرد أي طرف على حساب أخر، أو على الأقل تحقق نوعاً من التوازن بين أدوار كل منها وفي ما بينها.
التمسك الإيراني بمطلب وشرط إخراج مؤسسة حرس الثورة عن لائحة العقوبات الأميركية بدعم الإرهاب، وشرط واشنطن المقابل بلعب طهران دوراً مساعداً في تخفيف التصعيد والتوتر في المنطقة، يمكن أن يقرأ في الزيارة التي قام بها الرئيس السوري بشار الأسد إلى الإمارات في بعدها الأساسي المرتبط بترتيب الوجود الإيراني على الساحة السورية، ونقله إلى مستوى الإسهام في إعادة الإعمار بالتزامن مع الدفع بعملية الحل السلمي، إضافة إلى إمكانية الانتقال لإعادة إحياء مسار السلام السوري الإسرائيلي، وهو مسار لم ولا تعارضه طهران إذا ما كان يضمن مبدأ استعادة سوريا لمرتفعات الجولان، وما يمكن أن يشكله هذا المسار من عامل مساعد لتسهيل التوصل إلى تفاهم مرحلي على غرار تفاهم أبريل (نيسان) عام 1997 بين لبنان وإسرائيل، يكون المدخل له إزالة العوائق أمام عملية ترسيم الحدود في البحر أولا، بما يضمن حقوق لبنان في إطار القانون الدولي للبحار، تمهيداً للانتقال إلى الترسيم البحري والخطوات الأخرى.
ولعل المؤشر الأبرز الذي يعزز وجود جدية على هذا المسار، الموقف الروسي الذي أعلنته موسكو في الأيام الأولى لحرب أوكرانيا بتأكيدها على “سوريا مرتفعات الجولان وعدم الاعتراض بالخطوة الإسرائيلية بضم هذه المرتفعات”، إضافة إلى الحراك الإماراتي الذي ظهر خلال الأيام الأخيرة في الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد إلى موسكو والملفات التي وضعها على طاولة التفاوض مع نظيره الروسي سيرغي لافروف المتعلقة بأزمات منطقة الشرق الأوسط في سوريا واليمن والعراق.
ولعل الخطوة الأبرز في هذا الإطار القمة الثلاثية التي جمعت الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في شرم الشيخ بمحورية مستقبل المنطقة، بعد عودة إيران إلى المجتمع الدولي وتوقيع الاتفاق النووي والتفاهم مع واشنطن.
ولعل الزيارة غير المبرمجة والمفاجئة التي قام بها وزير الخارجية الإيرانية أمير عبداللهيان إلى العاصمة السورية وجدول المباحثات المتعلق بالتطورات السورية والإقليمية وانعكاسات الاتفاق النووي، تشكل مؤشراً على وجود تحولات جدية في المنطقة، فيها كثير من إعادة ترتيب الدور الإيراني في المرحلة المقبلة، تعضده بوادر العودة السعودية المتأنية إلى الساحة اللبنانية والحديث عن عودة السفير السعودي إلى بيروت، بالتزامن مع التحضيرات لعقد مؤتمر حول الأزمة اليمنية الذي دعت له أمانة مجلس التعاون الخليجي، التي تصب في سياق وضع أزمات المنطقة على سكة الحل الجدي.
المصدر: اندبندنت عربية