ضغط غير مسبوق على وسائل الإعلام أدى إلى انفراط عقد كثير منها وسلك عدد كبير من الصحافيين الروس طريق المنفى. بعيداً من جبهات القتال الحامية الوطيس في أوكرانيا، تخوض موسكو معركة أخرى لإحكام طوق حديدي جديد على البلاد. فـ”الدوما” بغرفتَيه (مجلس النواب ومجلس الاتحاد الروسيين) أقرّ قانوناً يلحظ عقوبة بالسجن تصل إلى 15 عاماً لمن يكتبون أو ينشرون “معلومات مغلوطة عن الجيش”. ويلحظ تعديل منفصل إنزال عقوبة السجن حتى ثلاث سنوات جزاء “دعوات إلى فرض عقوبات على روسيا”. والهدف على قول مسؤولين روس هو التصدّي “لحرب إعلامية غير مسبوقة من حيث الحجم والحدّة” تتعرّض لها البلاد على يد الغرب.
ومنذ 25 فبراير (شباط) الماضي، مُنعت وسائل الإعلام الروسية من استخدام عبارات مثل “حرب” و”قصف المدن” و”ضحايا مدنيين” تحت طائلة الحظر. وتناول الخسائر في صفوف الجيش الروسي هو مسألة محظورة كذلك.
وتناولت صحيفة “لوموند” الفرنسية المسألة وسلّطت الضوء على تفاصيلها. ففي أعقاب إطلالة للرئيس الروسي أكد فيها أن الأمور تجري على ما يرام وفق المخطط المحدد، بدأت القنوات التلفزيونية للمرة الأولى بنشر صور عن القتال والدمار ومبانٍ ومرافق أوكرانية مهدّمة.
وفي الأيام القليلة الماضية، أخذت وسائل إعلام روسية مستقلة عدة أو تلك التي لا تزال تتمتع بمقدارٍ من حرية التعبير، المبادرة وأعلنت حلّ نفسها وتفككها على غرار موقعَي “زناك” Znak أو “ذا فيلادج” The Village. كما أعلنت إذاعة “إيكو دو موسكو” Echo de Moscou الشهيرة التي انطلقت منذ عام 1990 مع انهيار الاتحاد السوفياتي إغلاق أثيرها يوم الخميس من دون انتظار طلب من القضاء بهذا الخصوص.
وأوقفت قناة “دوجد” Dojd التي تبث عبر الإنترنت بثّها أيضاً بعد تلقّيها تهديدات من القضاء. وفرّ رئيس تحريرها وقسم من الفريق العامل خارج روسيا في اليوم ذاته على غرار آلاف الروسيين الذين يخشون من تشدد إضافي في السياسة ومن الأزمة الاقتصادية وكذلك من إغلاق الحدود أو الدعوة للتجنيد الإجباري.
حظر موقع “فيسبوك”
أعلنت بعض وسائل الإعلام من جهتها أنها ستتوقف عن تغطية “العملية الخاصة”. وهذا ما حصل مع صحيفة “نوفايا غازيتا” Novaïa Gazeta المستقلة التي تستنكر “الرقابة العسكرية” والتي أعلنت التضامن مع أوكرانيا منذ أيام الحرب الأولى أو إذاعة “سيريبرياني دوجد” Serebrianniy Dojd التي اكتفت ببثّ الموسيقى جراء معضلة نجمت عن القانون الجديد، ونشرت على موقعها عبارة تلخص ما تواجهه: “ليس بإمكاننا التكلم، لا نودّ الكذب”.
كما أعلنت السلطات “تقييد” أو حظر الولوج إلى المواقع الناطقة باللغة الروسية لكلّ من “هيئة الإذاعة البريطانية” (بي بي سي) BBC وشبكة الإذاعة والتلفزيون الألمانية الدولية “دويتشه فيله” DW، فضلاً عن الموقع المستقل “ميدوزا” Meduza وإذاعة راديو سفوبودا Svoboda وإذاعة أوروبا الحرة RFE/RL باللغة الروسية. وعلّقت “بي بي سي” عمل فرقها في روسيا تماماً، كما فعلت وكالة “بلومبيرغ” Bloomberg. وفي هذا السياق، وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية عمل وسائل الإعلام الغربية بالـ”الإرهاب الإعلامي”.
وأُضيفت خطوة عدائية أخرى إلى هذا الأمر طالت هذه المرة وسائل التواصل الاجتماعي. وفي التفاصيل، جرى حظر موقع “فيسبوك” يوم الجمعة بعد اتهامه “بممارسة التمييز” ضد وسائل إعلام روسية. ولم يسلم “تويتر” الذي فُرضت عليه قيود أيضاً. وبذلك، لم يبقَ من مصادر إعلام روسية يسهل الولوج إليها سوى وسائل الإعلام التابعة للسلطة التي تصدّرت عناوينها يوم الجمعة مسألة توزيع المساعدة الإنسانية.
عزلة مادية ومعنوية تامة للبلاد
“إنه نظام جديد بالكامل ينبثق اليوم”، على ما صرّحت الأستاذة في العلوم السياسية تاتيانا ستانوفايا لصحيفة “لوموند”. وتضيف: “سيطيح هذا النظام المؤسسات القديمة والأصوات الناقدة وحتى المعتدلة ووسائل الإعلام والإنترنت الحرّ وحتى المعارضة المشروعة. روسيا تغرق في الظلمة”. أما الصحافية ماشا جيسين، فتشير من جهتها إلى “عزلة مادية ومعنوية تامة للبلاد بدأت منذ عامين وستستمر بالتفاقم”.
وشنّت السلطات عمليات تفتيش يوم الجمعة طالت عدداً من النشطاء السياسيين والمنظمات المدنية ومنها “ميموريال” Memorial التي شملها أمر بالحلّ في ديسمبر (كانون الأول) 2021. كما ذكّر مكتب المدعي العام من جهته بأن “أي نوع من الدعم” لمنظمة “تهدد الأمن الروسي” يرقى إلى مستوى الخيانة العظمى.
وفي المحصلة، تساءل مستخدمو الإنترنت يوم الجمعة إن كان يجب عليهم محو شعارات مناهضة للحرب نُشرت على الإنترنت خلال الأيام الماضية، وهي تساؤلات أثارها يوم الجمعة إقرار تعديل آخر يحظر “الدعوات العامة لعرقلة استخدام الجيش” تحت طائلة فرض غرامات.
تشدد الخطاب الرسمي
خلال أسبوع واحد، أُلقي القبض على أكثر من 8000 شخص في تظاهرات مناهضة للحرب. وتعاظم انتشار الشرطة في الشوارع بعد أن كان وجودها في روسيا سرياً أو كتوماً في العادة.
ومنذ 24 فبراير، تم توقيف عشرات المتحدرين من أوكرانيا لإجراء “عمليات تفتيش وتحقق”. أما الشخصيات التي أعربت عن معارضتها للحرب، فشاهدت أبواب منازلها توسم بحرف “Z” ، وهي إشارة تظهر على المركبات المدرعة المنتشرة في أوكرانيا. وأوصت مؤسسات ثقافية موظفيها بألّا يتطرقوا إلى هذا الموضوع أو يعطوا رأيهم فيه.
وبرز أيضاً تطرّف في الخطاب العام، إذ تقدّم نواب روس بمشروع قانون يرمي إلى إرسال أشخاص قُبض عليهم أثناء التظاهرات المناهضة للحرب لكي يلتحقوا بالجيش. ولقي اقتراح رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف إعادة فرض عقوبة الإعدام دعماً من قبل رئيس مجلس حقوق الإنسان، بذريعة أن محاكمة “مجرمي الحرب” ستكون ضرورية بعد النزاع.
تسهيلات لقطاع الأعمال
تصبّ معظم الجهود على محاولة التعويض عن تجميد جزء من الاحتياطيات المالية للبلاد في الخارج. وبذلك، يضطر البنك المركزي الروسي إلى زيادة تدابير الرقابة على رأس المال. ويجبر المركزي الروسي الشركات الروسية التي تملك عوائد بالعملات الأجنبية على أن تحوّل 80 في المئة منها إلى الروبل. كما يجمّد مدخرات الأجانب الذين يعيشون في روسيا من خلال منعهم من بيع أوراقهم المالية أو المنقولة الموجودة في البلاد. كما أنه لم يعُد يُسمح للمواطنين الروس أنفسهم بإرسال الأموال إلى الخارج.
ومن التداعيات التي بدأت تتكشف أيضاً، مغادرة الشركات الأجنبية البلاد أو وقف عمليات التسليم من قبل الشركات الأجنبية العاملة في أكثر المجالات تنوعاً بدءاً من الإلكترونيات إلى الترفيه، مروراً بالسيارات والمنتجات الفاخرة.
ويوم الجمعة أيضاً، أقرّ المجلس الفيدرالي وهو الغرفة العليا للبرلمان الروسي، سلسلة تدابير من شأنها تقديم مزيد من المرونة لرجال الأعمال الروس كرفع بعض القيود والتراخيص أو وقف سداد ديون معينة أو تمديد عفو عن عودة رأس المال المحتفظ به في الخارج. وفي سبيل تبرير هذه الإجراءات، أعلنت رئيسة مجلس الاتحاد الفيدرالي الروسي فالنتينا ماتفيينكو المؤيدة لسياسة “اجتثاث النازية” (أو نزع [اقتلاع] النازية dénazification ) من أوكرانيا، هدفاً يتردد صداه بشكل غريب مع الوضع الذي تعيشه البلاد وقالت: “يجب الحفاظ على ثقة قطاع الأعمال… يجب اعتماد تدابير ليبرالية قدر الإمكان!”.
المصدر: اندبندنت عربية