كابوس بوتين المُنتظر.. ملامح الانتفاضة القادمة في أوكرانيا

مقدمة الترجمة:

ما الذي تخطط له روسيا حقا بشأن أوكرانيا؟ وأي مستقبل ينتظرها حال بسطت سيطرتها بالقوة على البلاد؟ في هذا المقال يأخذنا دوغلاس لوندون، المسؤول السابق في وكالة المخابرات المركزية الأميركية لأكثر من ثلاثة عقود، إلى السيناريو الذي ستواجهه روسيا حال قررت احتلال أوكرانيا بالكامل أو أجزاء منها، متنبئا بأن موسكو سوف تواجه حرب عصابات شرسة باهظة التكلفة ربما تتجاوز تداعياتها الساحة الأوكرانية إلى داخل روسيا نفسها.

نص الترجمة:

ضربت القوات الروسية عددا من الأهداف بطول أوكرانيا وعرضها، واستولت على منشآت حيوية ومساحات شاسعة من الأراضي، ولا يسع الجيش الأوكراني الآن أن يضاهي ذلك الجبروت الروسي، ورغم أن بعض التقارير أشارت إلى أن قوات أوكرانية استبسلت في رد الهجوم عن بعض أنحاء البلاد، يبدو راجحا أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” هو من سيقرِّر إلى أي مدى ستتوغَّل قواته داخل أوكرانيا.

بوصفي ضابطا لعمليات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ومتحدثا باللغة الروسية خدمت في آسيا الوسطى وأدرت عددا من عمليات مكافحة التمرُّد؛ لا أعتقد أن بوتين قد هاجم أوكرانيا دون خطة مُوثوق بها لرسم مشهد نهاية الحرب، لا سيِّما مع الكُلفة المحتملة لحرب مفتوحة. بيد أن أدهى خطط بوتين قد تنحل خيوطها بسهولة في وجه المقاومة الشعبية الأوكرانية وسيناريو نشوب الانتفاضة.

وحتى في حال قصرت روسيا غزوها على شرق وجنوب أوكرانيا، فإن الحكومة الأوكرانية ذات السيادة في بقية أنحاء البلاد لن تتوقَّف عن القتال، وستتمتَّع بدعم عسكري واقتصادي دولي، وبتأييد الشعب الأوكراني الذي سيلتف حولها. أما إذا مضت روسيا في غزوها لاحتلال أوكرانيا كاملة، وتنصيب حكومة موالية للكرملين في كييف؛ فسيشتعل صراع ممتد وعصيب من نوع آخر. وسيواجه بوتين في هذه الحالة انتفاضة دموية وطويلة بوسعها أن تتجاوز حدود أوكرانيا، بل ويُمكن أن تصل إلى بيلاروسيا وتتحدَّى الرئيس “ألِكساندر لوكاشِنكو”، الحليف الأوثق لبوتين، وتهز أركان الاستقرار في دول بمحيط روسيا مثل كازاخستان، وحتى داخل روسيا نفسها.

حين تشتعل الصراعات، قد تنشأ عنها نتائج لم يتخيَّلها أو يتوقَّعها أحد قبلا، وسرعان ما تصبح تلك النتائج واقعية جدا، وقد لا يكون بوتين مستعدا اليوم لمجابهة الانتفاضة -أو الانتفاضات- التي ستتمخَّض عنها الحرب الجارية.

المنتصر يندم ولو بعد حين

لطالما شنَّت الدول الكبرى حروبا على الدول الأضعف منها، لتجد نفسها سريعا في دوامة فشلها في شق مسار مدروس جيدا لإنهاء الحرب التي بدأتها، وهو غيابٌ للبصيرة كشف عن نفسه بجلاء في عمليات الاحتلال المشوَّشة التي جرت سابقا. فشتَّان بين غزو الولايات المتحدة فيتنام عام 1965، وأفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003، وكذلك غزو الاتحاد السوفييتي أفغانستان عام 1979؛ وبين المهمة العصيبة للبقاء في تلك البلدان بوجه انتفاضاتها الباسلة والعنيدة.

يُمكن لروسيا أن تنتزع ما شاءت من أراضي أوكرانيا، ولكن خططها لتركيع أوكرانيا ستحتاج إلى ما هو أبعد كثيرا من قوات الاحتياط الروسية التي اقترح بوتين أنها قد تحتل المنطقة كـ”قوات لحفظ السلام” بعد أن تتحقق أهداف العملية العسكرية الأوليَّة، فقد تأججت القومية والمشاعر المُعادية لروسيا في أوكرانيا بالفعل بفضل عدوانية بوتين طيلة السنوات الثماني الماضية، التي أمضاها الأوكرانيون يخطِّطون ويتدرَّبون ويعدُّون العُدَّة لمقاومة احتلال روسي مُحتمل (وذلك بعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014)*. وتعي أوكرانيا جيدا أن أيا من قوات الولايات المتحدة أو الناتو لن تمُد لها يد العون على أرض المعركة مباشرة، ومن ثم لن تعتمد إستراتيجيتها على صدِّ الغزو الروسي وإجباره على الانسحاب، بل على استنزاف موسكو داخل أوكرانيا بحيث يصبح احتلالها غير قابل للاستمرار.

ستستفيد أي انتفاضة مستقبلية من الجغرافيا الأوكرانية، فهي بلد يشارك حدودا مع أربع دول أعضاء بحلف الناتو، هي المجر وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا، كما أن بيلاروسيا نفسها تتشارك حدودا مع بولندا إلى الغرب وليتوانيا إلى الشمال، وتمنح تلك الحدود الطويلة واشنطن وحلف الناتو سبيلا مستداما كي تدعم المقاومة الأوكرانية وانتفاضتها لفترة طويلة، وتقُضّ مضاجع بيلاروسيا إذا ما قرَّرت أن تدعم سرّا معارضي نظام لوكاشِنكو.

تجدر الإشارة هُنا إلى أن مولدوفا، البلد الصغير الواقع جنوبي غربي أوكرانيا، لاعب مثير للانتباه أيضا، فرغم أنها بلد محايد رسميا، فإنها تعاونت في السابق مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، ولها علاقة باردة نوعا ما مع موسكو بسبب التوتر حيال منطقة “تارنسنيستريا” الانفصالية الصغيرة والموالية لموسكو بطول الحدود المولدافية-الأوكرانية، حيث تدعم موسكو تلك المنطقة وتضع فيها عددا من قواتها الروسية باسم “حفظ السلام”، وهو دور ما انفك يدفع مولدوفا نحو الغرب، إذ نجح “مايا ساندو”، رئيس وزراء مولدوفا السابق، في هزيمة الرئيس المدعوم من روسيا في الانتخابات الرئاسية نوفمبر الماضي، ورغم أنه ليس مُرجحا أن تثير مولدوفا صراحة حفيظة الكرملين، لربما يُبدي ساندو استعداده للتعاون مع المقاومة الأوكرانية من خلف الستار.

إنه درس تعلَّمته الولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان: دوما ما تتمتَّع الانتفاضات بخطوط إمداد متينة، ومخزون لا ينضب من الرجال المقاتلين، وملجأ عبر الحدود يتيح لها الاستمرار إلى ما لا نهاية واستنزاف عزيمة الجيش المُحتل من أجل القتال ونسف الدعم السياسي للاحتلال في بلده الأم. وسيتعيَّن على روسيا أن تعيد النظر قبل أن تطارد المتمرِّدين عبر الحدود إلى بولندا مثلا، إذ بوسع تحرُّكها ذلك أن يشعل حربا مع حلف الناتو (بحكم عضوية بولندا فيه)*.

شريان حياة الانتفاضة

ستلعب الولايات المتحدة دورا كبيرا ومحوريا في دعم انتفاضة أوكرانيّة. فقد دأبت واشنطن على التحرُّك بحرص تحت إدراتَي أوباما وترامب ردا على الهجمات السيبرانية والتضليل المعلوماتي والتوسُّع العسكري الروسي، ولم تشأ أن تفتح الباب لتصعيد يخرج عن السيطرة ويستجلب هجمات روسية سيبرانية على البنوك والشركات والبنية التحتية الأميركية. غير أن إدارة بايدن حتى اللحظة لم تسلك هذا المسار في التعامل مع روسيا، بل كشفت عن هويات مبرمجي الاختراقات الروس، واستعادت الأموال التي حصلوا عليها عبر هجمات برامج الفدية السيبرانية، وعملت على تسليم رجال أعمال روس إليها ليمثلوا أمام محاكم الولايات المتحدة، كما سمحت بنشر وثائق سرية استخباراتية عن خطط روسيا في أوكرانيا لتوحيد حلفائها وتوجيه خطاب إعلامي مُحدَّد في هذا الصدد.

إذا ما بقيت حكومة أوكرانيا مستقلة تعمل من كييف أو لفيف (المدينة الأكبر في غرب البلاد)، فبوسع الولايات المتحدة ودول الناتو أن تدعمها علنا بالسلاح والتدريب والمال، إذ يسمح الميثاق القانوني للاستخبارات الأميركية بالتعاون مع نظرائها في الدول الأخرى لتقديم التدريب والأدوات، وهو ما جرى بالفعل مع أوكرانيا طيلة السنوات الماضية. أما إن نجحت روسيا في إسقاط الحكومة واحتلت البلد كلَّه، فسيتوجَّب على الدعم أن يكون سرّيا، إذ إن الدعم العسكري لجهود ما (دون مظلة رسمية من دولة مُحدَّدة)* في مواجهة دولة أخرى ذات سيادة (هي روسيا في هذه الحالة)* يتوجَّب أن يصبح سرّيا إن لم تكن الولايات المتحدة في حرب مع الدولة الأخيرة، وهو ما جرى حين دعمت واشنطن المجاهدين الأفغان في الثمانينيات، وأكراد العراق قبل عام 2003، وثوَّار سوريا قبل عشر سنوات.

تمتلك وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية باعا طويلا في دعم انتفاضات من هذا النوع، فقد ظهر إلى النور الجهاز الأم للاستخبارات الأميركية المعروف بإدارة الخدمات الإستراتيجية، أثناء الحرب العالمية الثانية عبر دعم المقاومة في فرنسا وهولندا وشرق آسيا (ضد قوات المحور)*. هذا وتمتلك الاستخبارات الأميركية الآن خبرة حديثة في دعم الانتفاضات ومواجهتها على السواء في أفغانستان والعراق وسوريا، ما يجعلها جاهزة لمقارعة قوات روسيا النظامية الحديثة بمساعدة المتمرِّدين الأوكرانيين على استهداف مواقع عسكرية ثمينة أو ذات أثر معنوي كبير على القوات الروسية.

وقد نشر تقرير صحافي على موقع “ياهو” في يناير/كانون الأول الماضي تفاصيل برنامج سري للاستخبارات الأميركية من أجل تدريب نُخبة من القوات الخاصة الأوكرانية مع عدد من العاملين في مجال الاستخبارات بدءا من العام 2015. وطبقا للتقرير، شمل البرنامج نشر ضباط شبه عسكريين تابعين لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في أوكرانيا. لقد رتَّب المسؤولون الأميركيون والأوكرانيون طويلا من أجل هذا اليوم، ولا شك أن البرنامج السري لتنظيم صفوف المقاومة ضد روسيا يمتلك بالفعل بنية تحتية للاتصالات، وإمكانيات لجمع الاستخبارات، وخططا لعمليات تنتظر التنفيذ.

الشعب الأوكراني يخرج من القُمقُم

ستواجه الانتفاضة المناوئة لروسيا عقبات وانتكاسات لا محالة، ويعي بوتين جيدا بدوره إمكانية تنظيم مقاومة أوكرانية لاحتلال روسي موسَّع. ويزعم المسؤولون الأميركيون أن الحكومة الروسية تملك قوائم بأسماء المسؤولين السياسيين والأمنيين الأوكرانيين الذين ستعتقلهم -أو حتى تغتالهم- حال سيطرتها على البلد تماما، وكذلك قائمة بأسماء الشخصيات الموالية للكرملين الذين ستنصِّبهم خلفا لهم. ومن ثم ستسعي روسيا لتقويض أي انتفاضة قادمة بالتحرُّك سريعا للتخلُّص من قادتها المُحتملين والداعمين لها.

من جهتها، ستستغرق الانتفاضة ضد القوات الروسية وقتا لتمتلك زخما كافيا وتحقق أهدافها، وقد يستغرق الأمر سنوات وليس مجرد أشهر معدودة، لتكتسب الانتفاضة نضجا وتنظيما وإيقاعا هجوميا ناجعا. ويُمكن أن تسعفني ذاكرتي بوصفي أميركيا (عمل مع استخبارات بلاده)* أن أتذكَّر كيف مشيت بسهولة في شوارع كابول وبغداد عامي 2002 و2003، وتناولت الطعام في مقاهي المدينتين، غير عابئ على الإطلاق بما يدور من حولي. ولكن بعد عام أو اثنين فقط (من الغزو الأميركي للبلدين)*، بات لزاما عليّ أن أرتدي واقيا من الرصاص وأن تصاحبني دوما قافلة من التفاصيل الأمنية لحمايتي في عربات مُدرَّعة ثقيلة لتنأى بي عن الهجمات المباغتة وانفجار العبوات الناسفة.

سيحتاج المتمرِّدون الأوكرانيون إلى دراسة أحدث تطوُّرات التكنولوجيا الحديثة، التي قد تجعل مهمتهم أصعب اليوم. ففي أثناء الحرب العالمية الثانية، وحرب فيتنام، وحرب السوفييت في أفغانستان؛ استطاعت جماعات المقاتلين المنظَّمة أن تنسحب وتتفرَّق إلى الريف أو الجبال، لكن الإفلات من قبضة القوات المحتلة الآن صار أصعب بفضل الطائرات المُسيَّرة والأقمار الصناعية والتصوير الحراري. سينفِّذ المتمرِّدون أيضا غارات عابرة للحدود، بيد أن الحفاظ على نمط عمليات عسكرية كهذا خلف خطوط العدو سيحتاج إلى الدعم من قاطني تلك المناطق -وهم أناس يعيشون حياة عادية في الظاهر، ويمتلكون سرا إمكانية الوصول إلى السلاح وتأمين الاتصالات- ومن ثم يسعهم تفادي انكشاف أمرهم من جانب الروس. وبطبيعة الحال، سيصم الروس هجمات كتلك بتُهمة الإرهاب، في حين سيحتفي بها الغربيون بوصفها فعلا مقاوما.

في بداية الانتفاضة، سينجح الروس في الكشف عن خلايا عديدة للمتمرِّدين، وسيكشفون النقاب عن أول قادة لها بعد سنوات من جمع الاستخبارات، لكن المتمرِّدين سرعان ما سيتكيَّفون -ربما أسرع كثيرا من الجيوش النظامية الضخمة التي يحاربونها- لذا ستظهر قيادات جديدة صقلتها الخبرات الأولى للحرب، وسيمنحهم نمط حركتهم الخفيف السريع أفضلية مع الوقت.

قد تأمل روسيا بأن يقتصر توغُّلها على مناطق أوكرانيا ذات الأغلبية الروسية، والتي لعلها تميل نحو قبول الحُكم الروسي، أو لربما تسعى موسكو لتسريع وتيرة غزوها بحيث تسيطر على البلد في أسرع وقت مُمكن وتُخضعه بالكامل قبل أن تبزغ ملامح مقاومة فعَّالة في جنباتها. بيد أن سمات التفوُّق العسكري لروسيا على الجيش الأوكراني ستتآكل رويدا في السيناريو الأخير، بينما يتحوَّل عدوها من جيش منظَّم إلى قوات مقاومة سريعة الحركة ولامركزية، وستجد قوات الاحتلال نفسها تحت نير الهجمات المُصمَّمة لإسقاط القتلى وتقويض روح الالتزام القتالية لجنودها. وهُنا تحديدا ستظهر حملة دعائية للتأثير تعج بصور بشعة لمذابح المدنيين الأوكرانيين والعسكريين الروس على السواء؛ بحيث تبُث الرغبة في العدول عن قرار الحرب داخل روسيا، وتقوِّض سردية موسكو القائلة بأن قواتها لاقت ترحيبا من جانب السكان المحليين الذين رأوا في قدومها تحريرا لبلادهم.

لا تزال نوايا بوتين من هذه الحرب التي اختارها بنفسه محل جدل مُحتدِم، وقد تتضح الصورة في قادم الأيام والأسابيع بينما تواصل روسيا هجومها، لكن إن وصلت أهدافها إلى حدِّها الأقصى سعيا لإعادة رسم الحدود وإسقاط الحكومة الحالية، فإن الانتفاضة قادمة لا محالة، وسيكون من الصعب بمكان على بوتين وأعدائه على السواء أن يسيطروا على القوى التي خرجت لتوِّها من رحم تلك الحرب.

—————————————————————————————————–

هذا المقال مترجم عن Foreign Affairs ولا يعبر بالضرورة عن موقع ميدان.

المصدر: الجزيرة. نت