قرأتُ في الأيام الأخيرةِ العشراتِ من المقالات التحليليةِ والاستشرافيةِ عن الصراع الروسيِّ مع الغربِ والناتو؛ وكذلك الأمر عن المنظومة العالمية الجديدة ! حتى أني بدأتُ أُصابُ بالصداع نتيجةَ تلك القراءاتِ والتحليلات والتنبؤات. لكنَّ الشيءَ الوحيدَ الذي أكاد أخرجُ منه أنّ كلَّ تلك المقالاتِ التي تمتاز بالدقة والموضوعية والمنطقية وربط المقدمات بالنتائج تغفل شيئًا واحدًا اساسيًّا، من قال إنّ البشرَ كائناتٌ منطقيةٌ متزنةٌ لا تتنازعُها الأهواءُ والغرائزُ الحيوانيةُ، وعلى رأسها القتلُ والطمعُ والتمحور حول الذات ، بل أكاد أجزمُ أن البشرَ هم الكائنُ الوحيدُ الذي يقتلُ بغرض القتلِ دون مصلحةٍ ملموسة! إذ إن الحيواناتِ المفترسةَ كلَّها لا تقتلُ إذا كانت شبعى.
التاريخُ لا يعيدُ نفسَهُ، لكنّ البشرَ يعيدون ارتكابَ نفسِ الأخطاءِ والكوارث، مقولةٌ سمعتُها وأعجبتني لدقتها. في الحرب الأهلية الإسبانية لم تبقَ أيديولوجية أو منظورٌ بشري إلا وتقاتل على تلك الأرض، فكانت بحق سيناريوَ مشابهًا للوضع الحالي مع اختلافٍ جوهري واحدٍ هو أنّ الصراعَ الفكري كان أرجحَ من الصراع المادي بينما العكس هنا هو الصحيح!
الصراعُ بين البشرِ لا يحتاجُ إلى بدايات ونهايات منطقية ، وفلسفة الصراع لا تنضج إلا بأثر رجعي ، بمعنى يأتي دورُ المحللين والفلسفةِ بعد انتهاءِ الصراعِ لا قبلَه، فيُمَنطِق ويُعقلن الخبراء ما لا يُفهَم!
عندما تتورطُ في شجارٍ، فقلما تجدُ مقدماتٍ أو نهاياتٍ منطقيةً أو حتى نية مبيتة ، هذا لا ينفي وجودَها ولكنها الاستثناء وليست القاعدة، والعجزُ الكبيرُ في فهم المشهدِ أو التنبؤ به ينبع من تلك الحقيقة. ولا يمكن فهمُه إلا من خلال كلامِ خالقِ البشرِ وسُنَّنِه في الأرض.
إذا جمعتَ السننَ التاليةَ :ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (الروم.41) مع قوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحج.40) مع قوله تعالى :فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ۖ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (البقرة 279)، تجدُها تنطبقٰ على مَن يخالفُها في كل زمان ومكان بغض النظر عن الأشخاص والظروف، لكن هذا لا يعني بالتأكيد أنك على الطرفِ الأخر من المعادلة؛ فقط لأنك مسلمٌ أو تعيش في دولة أغلبُ من يسكنُها مسجلون في القيود المدنية على أنهم مسلمون! قال تعالى :لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَآ أَمَانِىِّ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوٓءًا يُجْزَ بِهِۦ وَلَا يَجِدْ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (النساء .132).
إذاً جوابُ السؤالِ :هلِ الحربُ منطقٌ أم حماقةٌ ؟ الجوابُ ببساطة أن الحربَ سُنَّةٌ كونيةٌ، فهي لا حماقةٌ ولا منطقٌ! وهذا دَّيْدَنُها منذ ٣٠٠ ألف عام وبعد ٣٠٠ ألف عام مِمَّا تَعُدُّونَ، قال تعالى:”اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا” (فاطر 43).