بكل حسابات العقل، وحسابات المصالح الإقليمية والدولية فإن حل الأزمة الأوكرانية لا يجوز أن يتجه إلى استخدام القوة العسكرية، ويجب أن تتمكن الدبلوماسية من التوصل إلى حل لها.
وبكل حسابات العقل والمصالح الاستراتيجية فإن سلوك سبيل القوة لن يكون مدمرا لأوروبا فقط وإن كانت هي التي ستدفع أغلى الأثمان، وإنما سيكون مدمرا للسلام الدولي الهش الذي ما زال يخيم على العالم منذ تحلل الاتحاد السوفياتي، ومنذ ظنت واشنطن أنها باتت القوة الوحيدة القادرة على تسيير العالم، وتحمل تكاليف قيادته.
لكن ليس دائما تأتي الحلول متسقة مع العقل والمنطق والمصالح الاستراتيجية، بل وفي كثير من الأوقات، وعند منعطفات خطرة تتحكم الأحداث والوقائع الصغيرة بالوضع، وتكون أداة لتفجير الصراعات الكبرى، وتمثل الصاعق الذي يستحيل بعده ضبط الأمور، أو تحديد نطاقات الانفجار فيها.
ورغم أن أوكرانيا ليست نقطة الاحتكاك الوحيدة بين عالم ثنائي القطبية، وعالم القطب الواحد، لكنها تمثل الآن أكثر هذه النقاط سخونة ومباشرة وخطرا في العلاقة بين رأسي تلك الثنائية: روسيا وارثة الاتحاد السوفياتي، والولايات المتحدة.
يجب أن نعترف أن الولايات المتحدة فوتت فرصة تاريخية قد لا تتكرر حينما رفضت عقب تحلل الاتحاد السوفياتي مشاريع تطوير النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى نظام متعدد الأقطاب، ووقفت معترضة على تطوير بنية منظمة الأمم المتحدة لتكون أكثر ملاءمة مع فكرة تعدد الأقطاب الدولية، وذلك من خلال تغييرات بنيوية في المنظمة لعل من أهمها إعادة النظر في بنية مجلس الأمن الدولي، والتخلص من كونه محكوم بنتائج الحرب العالمية الثانية، وتوسيع دائرة الدول المالكة لحق النقض لتكون ممثلة لقارات العالم وقواه المستقبلية.
وظهر أثر فوات هذه الفرصة في الحرب المدمرة الجائرة التي شنتها الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق فاحتلتهما دون أي مبرر حقيقي، بل وبعملية خداع وكذب بشعة، وقامت بعملية تدمير ممنهجة لهما، وجرت معها في ارتكاب هذه الجريمة الكثير من دول العالم التي لم يستطع بعضها ـ وليس له أي مصلحة ـ إلا أن تستجيب لطلب القطب الأوحد في المشاركة في تلك الحروب وتحمل شطرا من تكاليفها.
جاءت الأزمة الأوكرانية اليوم على النهج نفسه في استفراد الولايات المتحدة بتقرير ما يجب وما لا يجب في ترتيب الوضع الأوربي، وذلك من خلال تصورها لأمن القارة الأوربية، معتقدة أن “محاصرة روسيا” عبر توسيع الناتو من شأنه أن يعزز فكرة القطب الأوحد، ويحجم وضع وريثة الاتحاد السوفياتي لتكون ” مجرد دولة” من دول القارة الأوربية، تستجدي أمنها من واشنطن ومن تفهم حلف الناتو والتفاهم معه.
ولقد فات واشنطن أن تتنبه إلى أن روسيا اليوم هي غير روسيا الأمس، روسيا التي تعاملت معها في فترة الحرب على أفغانستان وعلى العراق، روسيا بوريس يلتسين الذي دفع سلوكه واشنطن للاعتقاد بأن شمس موسكو قد غربت، وأن بإمكان واشنطن أن تتمدد حتى تصل إلى قلب عاصمة القياصرة.
وفات واشنطن أن تتنبه إلى أن العلاقة الروسية ـ الأوربية باتت خلال العشرين سنة الماضية أكثر تشعباً وتداخلاً وقوة مما يمكن تصوره، وأن مصلحة أوربا في علاقات تعاون اقتصادي وسياسي في مجالات الأمن والطاقة والتجارة والنقل مع روسيا باتت أعمق وأكثر الحاحا.
وفات واشنطن أن تدرك أن روسيا اليوم ليست لوحدها، وإنما معها الصين التي بدأت ترسخ وجودها السياسي دولياً بعد أن رسخت حضورها الاقتصادي، وأن الصين باتت على ثقة بأن واشنطن تمثل قوة ضغط عليها وعلى أهدافها في محيط إقليم بحر الصين وما يضمه من دول وثروات وممرات بحرية استراتيجية. وأن إدراكها هذا يجعلها تقف على أرضية مقاربة لأرضية روسيا في معظم القضايا الدولية حتى لكأن حلفا يجمع بينهما.
إن أزمة أوكرانيا الراهنة هي في حقيقتها تكثيف واختصار لأزمة نظام الأمن العالمي من منظور القطبية الثنائية، ولعل خطورة هذه الأزمة أنه ينظر لها من هذه الزاوية بالتحديد:
** واشنطن تريد أن تقضم من الجوار الإقليمي لروسيا مزيدا من الدول عبر استيعابها في حلف الناتو، وجعلها قواعد عسكرية تحيط بموسكو، وقد استوعبت في الناتو سبعا من دول الاتحاد السوفياتي السابق والكتلة الاشتراكية وهي “استونيا ولاتفيا وليتوانيا وسلوفينيا وسلوفاكيا” وبلغاريا ورومانيا.
** وروسيا “البوتينية” تريد أن تستعيد وضعها السوفياتي في الإقليم كله بعد أن أعادت وبشكل مبكر في عهد يلتسين تجميع الحلفاء في إطار منظمة رابطة الدول المستقلة عام 1991، وتطور التحالف في عهد بوتين إلى إطار منظمة معاهدة الأمن الجماعي في العام 2002 التي ضمت بالإضافة الى روسيا كلا من أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجاكستان، واثبتت هذا التحالف فعالية قصوى في مواجهة الأزمة التي تعرض لها مطلع هذا العام نظام الحكم في كازاخستان.
ولعل مما شجع موسكو على السير بهذا الاستهداف تمكنها عام 2014 من السيطرة على شبه جزيرة القرم، وكانت جزءا من أوكرانيا وإتباعها للدولة الروسية، ويشجعها على المضي أكثر في هذا السبيل وجود خلل في بنية الدولة الأوكرانية التي تضم إقليم دو نباس الواقع شرقي البلاد، حيث يعيش فيه أكثر من أربعة ملايين نسمة أكثر من ثلثهم من أصل روسي، وتزيد مساحته على 52 الف كليو متر مربع ويعتبر سلة الصناعة والغذاء في اوكرانيا حيث يحتوي في منطقتي دونيتسك ولوها نسك المتاخمتين للحدود الروسية على أغلبية روسية تطالب بالانفصال، وقد خاضت عام 2014 حربا داخلية أسفرت عن مقتل أكثر من 13 الف شخص، ونزوح ما لا يقل عن مليون وأربعمئة ألفا عن ديارهم، وفرار 75 لفا على الأقل الى روسيا، وفي خضم هذا الصراع أعلنتا أنهما جمهوريتان شعبيتان مستقلتان، لكن أحدا لم يعترف باستقلال هاتين المنطقتين بما في ذلك روسيا، إلا أن العديد من سكانها حصلوا على الجنسية الروسية، وباتو تتلقون أشكالا متعددة من الدعم الروسي.
ولأوكرانيا في فكر الرئيس الروسي مكانة خاصة اذ يعتبرها وروسيا “فضاء تاريخيا وروحيا واحدا”، على نحو ما عبر في مقال له نشر في يوليو من العام الفائت. مشيرا الى ان للبلدين جذور لغوية واحدة وعقيدة مسيحية أرثوذكسية واحدة، بل وذهب في مقاله إلى أن أوكرانيا ليس لها أساس للوجود كدولة ذات سيادة.
الرئيس بوتين يريد من هذه الأزمة أن يحسم مكانة وموقع بلاده من الجغرافيا السياسية للاتحاد السوفياتي السابق، لذلك هو يتمسك بوعد شفهي أعطته واشنطن في العام 1990 ممثلة بوزير خارجيتها جيمس بيكر إلى الرئيس الروسي حينها ميخائيل غورباتشوف بأن لا يتم توسع الناتو شرقا أبدا “ولو بشبر واحد”، ويعتبر أن قبول الناتو في قمته في عام 2002 بضم سبع دول شيوعية سابقة إلى عضويته إخلال غير مقبول بذلك التعهد. كما يعتبر ان انضمام كرواتيا إلى الناتو خط أحمر غير قابل للتفاوض.
بمعنى أوضح يريد بوتين في هذه الأزمة أن يسقط سياسة الناتو بفتح باب العضوية للدول التي تريد الانضمام إليه دون أي عوائق او التزامات سابقة، وأن يجعل تلك الدول المحيطة ببلاده تستظل بظل نظرية الأمن الروسية وليس بظل نظرية الأمن الخاصة بالناتو. ويمكن القول إن بوتين يتطلع إلى أن “يتقيأ الناتو” بطريقة ما الدول أو بعض الدول التي ضمها من المحيط الروسي.
في هذه الأزمة كما في أزمات سابقة ينحو بوتين منحى الدول الامبريالية التي لا تهتم كثيرا بقيم التعاون والاستقلالية، وبإرادة الشعوب وحقها في إقامة دولها على أساس ديموقراطي حر ومستقل، وإنما بما يراه مصلحة مباشرة لروسيا وطريقا لبسط هيمنتها ووجودها، حتى ولو أدى الأمر إلى ممارسة العدوان والتعدي على حقوق الآخرين، وهذا السلوك لا يقتصر على روسيا الاتحادية، وعلى الرئيس فلاديمير بوتين، وإنما هو سلوك امبريالي مستقر للدول الكبرى، يستوي فيه الجميع، لكن النظام الروسي يتيح لبوتين أن تكون يده طليقة في تنفيذ هذه السياسة، ولعل مسلك روسيا في سوريا، وإصرارها على المشاركة الحاسمة في جرائم النظام السوري، ووقوفها القاطع في مختلف المحافل الدولية إلى جانبه، حامية وداعمة، رغم كل ما ارتكبه من جرائم تصنف دوليا تحت خانة “جرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة، وجرائم الحرب”. يقدم نموذجا مكافئا لما ارتكبته قوات الاحتلال الأمريكية في العراق، وفي أفغانستان، ولما ارتكبته وترتكبه القوات الفرنسية في مالي والعديد من الدول الأفريقية.
مع مشهد الحشود العسكرية المتصاعدة على الحدود مع أوكرانيا، هل يمكن أن تتجه موسكو إلى طريق غزو هذا البلد، وحسم الأمر عسكريا لصالحها، وهو أمر يسير جدا على القوات الروسية، خصوصا والقيادة الروسية تستشعر وجود تيار سياسي واجتماعي في هذا البلد يؤيدها، ويؤيد علاقات وطيدة ومميزة معها إلى أبعد الحدود.
لا شك أن الرئيس بوتين الذي يملك صلاحيات وسلطات قد لا تكون محدودة تمكنه من اتخاذ أي قرار يريده، ليس بالرئيس المتهور الذي يدفع قواته إلى حرب غير محسوبة النتائج، وأيضا ليس بالرئيس الجبان الذي تردعه تهديدات الناتو وتحركات واشنطن، وهو يدرك أن حسما عسكريا في هذه الأزمة قد يفجر صراعا يصعب تصور أبعاده الأمنية والعسكرية والاقتصادية، وأن القارة ألأوربية ومن ضمنها روسيا ستكون ميدانيا مباشرا للآثار المدمرة لمثل هذا الصراع، وهو يدرك كذلك أن أحدا في أوربا وخصوصا دولها المركزية (المانيا، فرنسا، إيطاليا، بريطانيا) لا تريد أن يتجه الأمر إلى الحسم العسكري، ولا تستطيع تحمل نتائج ذلك.
المراقب لا يمكن أن يركن إلى العوامل الموضوعية التي تدفع إلى استبعاد الانفجار العسكري، لكن ليس دائما تتحكم العوامل الموضوعية في تطورات الصراع، إن ما تقوم به روسيا أقرب إلى مفهوم ” المناورة بالنيران الصامتة”، أو الوصول بالأزمة إلى “حافة الهاوية” دون السقوط بها.
حشود عسكرية وتصعيد على أمل الوصول إلى الأهداف دون الاضطرار الى الضغط على الزناد، لكن من قال إن بالإمكان دائما ضبط الأمور عند هذا الحد، إن الكثير من الحروب الكارثية في التاريخ الإنساني جاءت شرارتها الأولى من حيث لا يحتسب المراقبون، وجاءت تداعيات تلك الشرارة بأكثر مما كانت أطراف الصراع ترغب.
ثم إن هناك أشكالا للحسم في الأزمة الأوكرانية تبدو دون الانفجار العسكري الواسع:
** هناك أزمة المنطقتين الانفصاليتين، اللتين لم يعترف باستقلالها أحد بعد، لكن روسيا تعاملهما معاملة خاصة، وتقدم لهما الدعم المادي والأمني، وفي المنطقتين باتت هناك أكثرية روسية الأصل تتطلع على الالتحاق بالاتحاد الروسي.
** هناك المعارضة الأوكرانية في غير هاتين المنطقتين التي تصطف إلى جانب موسكو، وكانت خلال فترة سابقة تسيطر على السلطة في كييف، ولا شك أن لهذه المعارضة مؤيدون في الجيش الأوكراني، وقد تتحرك هذه بشكل ما في محاولة لتغيير موازين القوة في العاصمة الأوكرانية.
** أن السلطة ممثلة بالرئيس الحالي فولود يمير زيلينسكي وهو سياسي يهودي تسلم الرئاسة عقب انتخابات 2019 يدرك أكثر من غيره محدودية الخيارات المتاحة لأوكرانيا في هذه الازمة، واختلاف الأوزان الاستراتيجية والعملياتية لكل من روسيا وحلف الناتو فيها. لذلك يبدي تحفظا على تصعيد التوتر في هذا الوضع ويطالب الولايات المتحدة والناتو بالهدوء والتروي، وباعتماد الدبلوماسية والحوار سبيلا لحل هذه الأزمة.
إن تفاعل هذه العوامل الثلاثة قد يسفر عن تغيير دراماتيكي في هذه الأزمة، تحولها من أزمة إقليمية دولية، إلى أزمة صراع داخلي، أو “حرب أهلية”، كما نظرت إليها موسكو قبل الآن، وبالتالي فإن مثل هذا التحول يتيح لروسيا أشكال متعددة من التدخل يساعدها على حسم الأمور في كييف لمصلحتها.
لا شك بأنه من المهم جدا ألا ينفجر الصراع العسكري في هذه الأزمة، ذلك لأن نتائج هذا الانفجار سيكون وبالا على الجميع، بما فيهم نحن، وبسبب أن نظامنا العربي نظام تابع لا يملك أي رؤية أو إطار لفعل مستقل، فإن نصيبه من هذا الصراع سيكون فقط المشاركة في تحمل جزء من تكاليفه وأعبائه، وأن يدفع من ثروات شعوبه لطرفي الصراع طوعا أوكرها. بأشد مما حدث من سابق، وبأشد مما يحدث الآن.
ولا شك أيضا بأن الحسم في هذه الأزمة ايما كانت اتجاهاته فإنه لن يولد استقرارا في النظام الدولي في هذا الطور من أطوار تشكله، الذي تنحصر ملامحه حتى الآن على تقاسم امبريالي لمناطق النفوذ ولثروات الشعوب، وسنتابع في أوقات لن تكون بعيدة صراعات وأزمات إقليمية ودولية تعمل على المساهمة في صوغ هذا النظام الجديد.
من المهم أن ندرك ونحن نتابع فصول هذه الازمة أن هذا الصراع إنما يأتي في إطار رسم خارطة العالم من جديد، وتوزيع مناطق النفوذ والسيطرة بين الدول الامبريالية. وأن ندرك أيضا أن هذا الصراع ليس صراعا على “المادة والثروة” فقط، وإنما هو بالتبعية صراع على “الفكر والقيم والمفاهيم”، ونحن، وكلمة نحن هنا تضم العرب والمسلمين جميعا، وما يحيط بهم ويتأثر بحركتهم، هدف رئيس لهذا النظام الدولي الذي يجري تشكيله في هذه المرحلة، وأن تغيير “فكرنا وقيمنا ومفاهيمنا”، له عند هذه الدول الامبريالية جميعا القيمة نفسها، بل لعله يأخذ قيمة أهم من قيمة ثرواتنا وموقعنا المستهدفة من قبلها لأنه يوطئ لتلك السيطرة ويؤمن استقرارا وديمومة لها.
اختبار مسار الأزمة الأوكرانية مهم جدا لأنه سيساهم مساهمة مباشرة في رسم وتحديد مسارات حلول أزمات أخرى تطل برأسها من بحر الصين ومضائقه الى طريق الحرير الصيني الجديد إلى خطوط نقل الغاز الروسي، ونظيره الشرق أوسطي … الخ وكلها تعبر عن صعود قوي لقوى دولية راسخة، وبالتالي سيكون له أثره الفعال في استكمال بناء النظام العالمي الجديد.