من الروايات الطريفة التي كانت تتناقلها أجيال قديمة أن بعض السوريين، أيام إعلان قيام إسرائيل وصولاً ربما إلى هزيمة حزيران، كان لا يدرك أن اليهودي كائن بشري كالبشر أجمعين، بل يعتقد أن اليهود كائنات بأذناب. بالطبع، مَن كان يعتقد بوجود أذناب لم يكن يميز في تلك الحقبة بين اليهودي والصهيوني، فهذه أحجية أعقد من كون اليهودي بلا ذيل. وللذيل هنا وظيفة، فوق التعبير عن جهل المؤمنين بوجوده، هي تأبيد العداء، إذ كيف يمكن الاشتباك الفكري أو السياسي مع كائنات بأذناب؟!
إلى العقلية ذاتها تنتمي شريحة ضخمة من اللادينيين السوريين، ينقسم أفرادها بين معتقدين بأن الإسلاميين كائنات بأذناب، وآخرين اكتشفوا أن الأمر ليس كذلك، ووقعوا أسرى دهشتهم بأن الإسلامي بلا ذيل، ثم بقي كثر منهم معجبين بنباهتهم بالمقارنة مع أشباههم الذين لم يبارح الذيل تفكيرهم. كأنما أفراد الفئة الأخيرة كانت مشكلتهم الوحيدة مع افتراض وجود الذيل، وعندما تأكد انتفاء وجوده لم يبقَ من مبرر للخلاف مع الإسلامي الذي انتقل من المكانة القصية للكائن الغريب المتوحش إلى “يا للروعة.. إنه مثلنا”.
الحفاوة المقصودة بالعبارة الأخيرة منصرفة بالطبع إلى الإسلامي الذي ليس على المثال الرائج، فهو لا يحمل سيفاً أو ساطوراً لجزّ الرؤوس، ولا يدعو إلى جزّها، ولا يكفّر مخالفيه من الإسلاميين، ويغضّ الطرف عن غير المتدينين، وقد يقرّ بحرية الأخيرين في حالات قصوى يُفضَّل ألا يُضطر إليها كي لا تتسبب له بالحرج بين
عموم الإسلاميين. إنه الإسلامي المعتدل المشتهى، والعزيز بندرته في حين يتكاثر الإسلام الحركي الجهادي بتكاثر أولئك المتلهفين إلى جزّ الرؤوس.
ثم، لأنه عزيز نادر وينبغي عدم التفريط به، يوضع هذا الإسلامي بعيداً عن الاشتباك الفكري، ويصبح خارج أي نقد من قبل أولئك اللاإسلاميين. إنهم ينقسمون بين من بقوا وسيبقون على دهشتهم بوجوده، وتهليلهم لاختلافه عمّا يتوقعون من إسلامي، وبين فئة تخلصت من الدهشة ليحل مكانها تشجيع “يُفترض أنها محسوب وناجم عن حنكة” يستهدف تعزيز الاعتدال واجتذاب إسلاميين آخرين إلى دائرته. لسان حالهم أن دائرة الاعتدال ضيقة، وتضيق أكثر فأكثر مع تطرف غير الإسلاميين وعدم استيعابهم أسباب الظاهرة الإسلامية وعدم تفريقهم بين تياراتها.
يمنحنا رحيل المفكر الشيخ جودت سعيد قبل يومين فرصة لتوضيح ما سبق، انطلاقاً من موقعه الإسلامي، وبتحييد شخصه. فشخصية الراحل ليست مثار نقاش أو خلاف؛ لقد كان حقاً المثالَ على الانسجام مع أفكاره، ومن ذلك تنبع تلك السماحة والدماثة الشخصيتين، فضلاً عن زهده ضمن عالم أسوأ من أن ينتمي إلى وقائعه وصراعاته. في الوضع السوري الحالي، تزداد المفارقة بين داعية إلى اللاعنف وواقع يحفل بمختلف أصناف العنف والتوحش.
دائماً كان الراحل يُذكر من قبل اللاإسلاميين في سياق الثناء عليه، وظهر هذا جلياً لمناسبة وفاته. لم تُتنقد أفكاره أو تُناقَش من قبلهم، رغم أن بعضاً منها مثار جدل بين اللاإسلاميين أنفسهم، خاصة موضوع السلْمية والعنف الذي أثار جدلاً حاداً عندما بدأ ما سُمّي بطور “عسكرة الثورة”. جدير بالذكر أن سعيد بقي على موقفه الحازم، رغم استهداف قوات الأسد شباناً يُقال أنهم آمنوا بأفكاره وفظّعت بهم قوات الأسد، مثل الشهيد غياث مطر. في سؤال يطرحه وائل السواح على جودت سعيد، ضمن ندوة لمؤسسة “اليوم التالي”: شيخ جودت.. هنالك من يقول بأن النظام
وأجهزته وميليشياته تقوم بالقتل والقصف ورمي البراميل المتفجرة. هل ردُّ الناس على القوة بالقوة صح أم خطأ؟ يجيب سعيد: خطأ فاحش. لأنك (إن فعلت) صرت مثله، لمّا تدافع عن نفسك دخلت في الخط معه فإذا قتلك شعر بأنه منتصر.
كانت أقوال مشابهة، صادرة عن غير الإسلاميين، قد أثارت حفيظة واعتراض نظراء لهم من أرضيات فكرية مشابهة. وقد يُقال أن ذلك الجدال ينطوي على دوافع غير معلنة، بمعنى أن أصحاب السلمية لم يكونوا بنزاهة الشيخ جودت سعيد، وكانوا يتوسلونها سبيلاً لانتصار الأسد. لكن هذه المماحكات السياسية لا تبرر التسامح الفكري الذي حظي به الشيخ من حيث المقدمات التي بنى عليها دعوته اللاعنفية، فهو يرى أن العنف ضد طبيعة الإنسان، بمعنى أنه يفترض للإنسان جوهراً ثابتاً “فطرةً” وهذا ما لا تؤمن به وبتبعاته الفكرية نسبةٌ ساحقة من المحتفين به خارج صفوف الإسلاميين. للتوضيح، قلة قليلة من الإسلاميين توافق الشيخ على تأويله النصوص الإسلامية، لا في موضوع اللاعنف فحسب، بل حتى في تفسيرات تربط بين توحيد الله في السماء ومساواة الناس في الأرض، والأخيرة أيضاً مقولة قد يحتفي بها غير الإسلامي رياءً لأنه على الأرجح يملك رأياً مغايراً جداً لموضوعة التوحيد وعلاقته بالتراتبيات الموجودة على الأرض.
لا شك في أن نسبة معتبرة من المحتفين بلاعنفية الشيخ يرونها نقيضاً إسلامياً للحركات الجهادية، لكن التأثير الواسع للفكر الجهادي في الأوساط الإسلامية، على عكس أفكار الشيخ جودت يكاد يُخرجه من تصنيفه كداعية إسلامي. هو لم يصل إلى الشطط الذي وصل إليه الراحل قبل سنتين محمد شحرور، والذي كان يروق لغير الإسلاميين رؤيته مفكراً إسلامياً، بينما نكاد لا نعثر على إسلامي مهما بلغ من “الاعتدال” يوافق محمد شحرور على استنتاجاته وفق قراءته شديدة الخصوصية للنص القرآني.
منطق التشجيع هذا يفتقر ضمناً إلى الاحترام، فهو لا يرى المعنيّ بالتشجيع نداً فكرياً يُشتبك معه بفكر مخالف. لا يُستبعد التواطؤ، إذ يطرب بعض المحتفى بهم للمديح حتى إذا لم يقتنعوا بصدقه كله. لشدة استقامته، يُنزّه الراحل جودت سعيد عن هذا المستوى من التكاذب. الأهم أن المشجّعين، وهم أصلاً من أنصار الاشتباك مع المسألة الإسلامية وعدم القطع معها، لا يشتبكون فكرياً مع الفئة المعتدلة التي يحتفون بها، ولا داعي للتذكير بأن الاشتباك المأمول غير ممكن أيضاً مع أمثال أبي قتادة والجولاني والبغدادي لأن عدة الأخيرين في الحوار معروفة جيداً.
التعامل مع المسألة الإسلامية ليس ترفاً فكرياً في الحالة السورية، ويكفي تفحص الخريطة السياسية والعسكرية الحالية والحضور أو التأثير الإسلامي فيهما لإدراك إلحاحها على من يود تجاهلها وعلى من لا يود ذلك. لقد اختبر غير الإسلاميين سبيلين أساسيين فشلا حتى الآن، أولهما لم يستطع أصحابه أن ينزعوا من رؤوسهم فكرة وجود أذناب، وثانيهما لسان حاله “إنه إسلامي.. لكن بلا ذنب”. ربما يتوجب على من ينتمون إلى هاتين الفئتين اقتلاع الأذناب من عقولهم أولاً من أجل الاشتباك على نحو أجدى مع الظاهرة الإسلامية.
المصدر: المدن