ليس من العسير للمتتبع الحر الثائر لمسار الثورة السورية منذ انطلاقتها تثبيت ما يلي:
أولاً: الزخم الشعبي العارم المعبر عن الرأي العام لجماع الشعب السوري بكل أطيافه من الشمال حتى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب في الأشهر الأولى من عمر الثورة وهو ما منحها بحق الهوية الحقيقية التي بموجبها استحقت اسم الثورة الشعبية الوطنية.
ثانياً: لحظ وتثبيت المحطات والتغيرات النوعية التي امتطت جسم الثورة والتي أطلقها الاخوان المسلمون إلى جانب الأطراف الأخرى التي ليست مجال حديثنا هنا، بدءاً من إغراق وإفساد الساحة الثورية بالمال السياسي إلى احتكار النشاط الإغاثي والخدماتي والهيمنة على المجالس المحلية إن في المدن أو في الأحياء أو في الريف أيضاً، إلى إطلاق الفصائل العسكرية المسماة بالدروع، مروراً بظهور ما يسمى جبهة النصرة، فداعش ومفرزاتها، حيث كانت ممارسات جميع هذه الفصائل في الميدان العسكري أو في المجال السلطوي لا تعبر على الإطلاق عن الخطاب أو السلوك الثوري الذي يستقطب الرأي العام ويجذبه إليه، ويخلق منه الحاضنة الشعبية للثورة.
فجميع المناطق التي تمت السيطرة عليها من قبل هذه الفصائل بعد إفراغ الساحة من كل الأصوات الثورية الحرة بالوسائل المختلفة من قتل، اعتقال، تهجير… الخ، كانت ممارساتهم وسلوكياتهم الاجتماعية والإنسانية فيها تصب في خدمة المخطط الدولي والأسدي المرسوم لسوريا، وقد ظهر ذلك بشكل سافر، ويمكننا في هذا المجال تذكر ما يلي:
تسليم الغوطة والمناطق المحيطة في دمشق من قبل أكبر فصيلين عسكريين، جيش الإسلام وفيلق الرحمن، ثم تسليم مدن حمص فالرستن فحلب فمناطق إدلب، وفي موازاة ذلك نُذكّر أيضا بعمليات التهجير التي تم إنجازها وبشكل ممنهج والتي كانت تستهدف مستقراً لها جغرافيا محافظة إدلب تحديداً، كما تستهدف الكيان السني طائفياً.
كان لابد من هذه المقدمة البانورامية للقول:
بأن الشمال (المحرر..) بوضعه الراهن في المستوى الجغرافي والديموغرافي والاقتصادي والسلطوي والمعاشي أيضاً لم يتموضع بالشكل الذي هو عليه اليوم الا نتاجاً لما تم ذكره سالفا وبالتالي يحق لنا القول بأن المآل الذي انتهى إليه هذا التموضع لم يكن مجرد صدفة أو نتاج صراع حقيقي لموازين قوى متصارعة صراعاً حقيقياً وإنما كان نتاجا لمخطط ومنهج يرجع إليه كافة الأطراف الفاعلة في كل محطة أو مفصل من زمن ومسار الثورة والذي يشرف عليه المايسترو الأمريكي وبالتالي الكيان الصهيوني.
ما تقدم يتيح لنا القول: أن جميع المعطيات التي باتت مرتسمة على الأرض في الشمال المحرر والتي نراها ونعايشها جميعاً إنما تمكننا من الاستنتاج وتثبيت ما يلي:
أن الشمال المحرر بات يشكل كيانا خاصاً قائماً بذاته السلطة العليا فيه للطرف التركي والذي بإشرافه وتحت سلطته تم إنجاز وإنشاء ما تم إنجازه من هياكل وهيئات ومؤسسات تدير شؤونه العامة فالمستوى الإداري بجوانبه المختلفة والتعليمي بمراحله المختلفة وكذلك المستوى الاقتصادي بأوجهه الانتاجية والاستهلاكية والمالية والنقدية وكذلك المستوى القضائي جميعه يؤكد ذلك.
وبمعنى آخر.
أن السلطات الثلاث التي ينبغي توفرها في أي كيان دولي اي السلطة التشريعية (مجالس مدينة، مجالس أحياء) والتنفيذية (حكومة، شرطة، جيش، أجهزة أمنية) والقضائية (محاكم مختلفة وعلى رأسها المحاكم الشرعية) كل ذلك نجده بات منجزاً كامل الإنجاز في هذا الكيان.
وما يمكننا تثبيته أيضاً أن الهيمنة والسلطة السياسية التي بدأت قوى الأمر الواقع المشار إليها تُظهر وتعلن عنها. صراحة كما ظهر ذلك جلياً في بعض النشاطات والفعاليات التي تم إقامتها في إحدى بلدات محافظة إدلب وكذلك في برنامج الاتجاه المعاكس الذي دار بين العميد رحال وحسن الدغيم مؤخراً.
في الحين الذي كانت فيه، أي هذه القوى تتستر خلف كافة المظاهرات والتحركات التي كانت هي تدفع بها تحت مسمى الحراك الثوري وخاصة بُعيد سقوط مناطق إدلب (سراقب، المعرة، وغيرها) في الفترة التي انقضت من عام 2019-2021 حيث كانت هذه الفترة تضج بالمظاهرات والاحتجاجات والتي كانت تحت عنوان الحراك الثوري…والتي كانت جميعها تتحرك بفعل أجنحة الاخوان المسلمين يتقدمها الفصائل المشار إليها.
تأسيساً على كل ذلك واخذاً بعين الاعتبار العناصر والتحركات التي اخذت تبرز أكثر فأكثر منذ بداية هذا العام، تصريحات نائب الرئيس الروسي فلامنتيير وتصريحات بيدرسون في إيران وإطلاق ندوة الدوحة بزعامة رياض حجاب وكذلك إصلاحات الائتلاف والإصرار التركي على التمسك بهذه المؤسسة كما ظهر في محضر اجتماعه مع الوفد الحكومي في أنقرة نهاية العام الماضي ودفعه إلى تطوير وتعميق علاقته مع الداخل، وأخيراً تصريح بيدرسون في إحاطته إلى مجلس الأمن عن قرب إطلاق فكرة خطوة مقابل خطوة لتفعيل الحل السياسي ذهابا نحو القرار الدولي 2254 وذلك بموافقة روسية أمريكية فإن جميع ما تقدم يجعلنا نعتقد أن المرحلة القادمة من عمر الثورة ستكون مرحلة حاسمة لجهة بدء التنفيذ العملي لما هو مخبأ لوطننا السوري وإن المعطيات التي أشرنا إليها من تموضعات كيانية في الشمال المحرر إنما تشير إلى الذهاب إلى تثبيت مرتكزات لكيان مستقل يملك مقومات الحياة لمدى منظور على الأقل وتكون السلطة فيه للطرف التركي بلبوس إخواني إسلاموي وذلك تحت عناوين مختلفة تغرر بالمواطن السوري وتضلله وتدفعه إلى القبول بالأمر الواقع والتسليم به.
ولا نذيع سراً عندما نقول إن الأصوات التي بدأت تتصاعد متزايدة مصرحة عن التعب والإنهاك والجوع وانسداد الآفاق وانكفاء الثورة وقواها الثورية إنما هي إشارات بائنة لتشكل مناخاً مؤاتٍ يجعل أهلنا يقبلون بما سيفرض عليهم في سياقات ما قدمناه وهذا ما حصل لأهلنا في لواء اسكندرون وفي فلسطين سابقاً.
أخيراً وبالمقابل لا بد من القول إن المرحلة القادمة سيكون فيها من الاصطفافات السياسية الجديدة ما يعقد المشهد الثوري والوطني. والذي قد يؤسس لمرحلة قادمة يتشظى فيها وطننا إلى أكثر من كيان وهو ما يشكل جوهر المشروع الشرق الأوسطي الجديد ويثبت سيادة الكيان الصهيوني في منطقتنا، الأمر الذي يفرض علينا كثوار أحرار أن نحدد خياراتنا وأن نبلور مواقفنا وأن نعزز اصطفافنا الذي بدأناه منذ إطلاق ثورتنا وهو الانحياز للثورة كما انطلاقتها الأولى وأهدافها في الحرية والكرامة والوطن الحر السيد الموحد أرضاً وشعباً.